قد تقدم أن شيخ الإسلام رحمه الله ذكر أن تلك الاختلافات فيما بينهم إنما هو ليس اختلاف تضاد، اختلاف يسمى تنوعا، أي: أنواعا من الكلام داخلة تحت معنى واحد، والدليل عليه أن ابن جرير عندما يحكي تلك الأقوال يجمع بينها؛ فيقول إن هذه جائزة، جائز أن يكون كذا، وجائز أن يكون كذا، فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو نظيره، وقد تقدم أمثلة لذلك، قد يعبر عنه بلازمه أو بنظيره،؛ يعني: بما هو مشبه أو مشابه له أو بما هو نوع منه أو نحو ذلك. قد ذكرنا أن ابن جرير عند قوله تعالى: { وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ } ذكر اختلافهم في القنطار المذكور في قول الله تعالى: { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } وفي قوله تعالى: { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } فعباراتهم تدل على أن القنطار هو المال الكثير ولا حاجة إلى تقديره بعدد مُبَيَّن مما يدل على أن هذا جائز، أن يعبر عنه بنظيره أو بلازمه أو بجزء منه. ومنهم من ينص على الشيء بعينه؛ يعني منهم من يعبر بلازمه ، ومنهم من يعبر بنظيره، ومنهم من ينص عليه بعينه ، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك والله الهادي. واختلافهم يكون اختلاف تنوع -كما قلنا- وهو أيضا دليل على عنايتهم بالقرآن وكثرة اجتهادهم في معرفة معانيه، وتفسيرهم له حتى يكون ظاهرا، إذا قرأه القارئ عرف ما قرأ وعرف المدلول الذي تدل عليه تلك القراءة وما أشبهها. والذين يذكرونها أقوالا يريدون بذلك أنها أقوال في الظاهر؛ يعني: قول كذا وقول كذا من غير أن تكون متباينة في الأصل. يرجع في ذلك إلى التفاسير التي تحكي الكثير من الأقوال مع كونها متقاربة، ولا شك أنه قد يحصل أيضا بينهم شيء من الاختلاف. فمثلا فسروا النسك في قوله تعالى: { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وأكثرهم على أنه يكفي في النسك شاة، وبعضهم من قال: لا. بل لا بد من بدنة، وبعضهم فسر النسك بأنه العمرة أو العبادة في قوله: { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ } والذين فسروه بالدم استدلوا بقوله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } أي أن النسك هو العبادة، وقيل هو الذبح، هذا مثال. وكذلك الدم في قوله تعالى: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } ما استيسر من الهدي قال بعضهم: شاة، وقال: بعضهم بدنة، ولكن كأن هذا أيضا تمثيل، أي: مثالا لما استيسر من الهدي. |