قال المؤلف رحمه الله تعالى: باب الحياء من الإيمان. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان } . عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: كنا عند عمران بن حصين في رهط، وفينا بشير بن كعب فحدثنا عمران بن حصين فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { الحياء خير كله، أو قال: الحياء كله خير } فقال: بشير بن كعب إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقارا لله تعالى ومنه ضعف. قال: فغضب عمران حتى احمرت عيناه، وقال: ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعارض فيه. قال: فأعاد عمران الحديث. قال: فأعاد بشير فغضب عمران فما زلنا نقول: إنه منا يا أبا نجيد إنه لا بأس به. أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الإيمان شعب؛ المراد بهذه الشعب الخصال التي في اجتماعها يكون الإيمان؛ شعب الإيمان أعماله التي إذا اجتمعت فالإيمان كامل، وإذا فقدت منه خصلة نقص الإيمان، وهذا دليل على أن الإيمان تدخل فيه الأعمال؛ فلذلك لا يكون الإيمان إلا بإتمام الأعمال كلها؛ بضع وستون أو بضع وسبعون، والبضع ما فوق الثلاثة إلى التسعة؛ أي خصاله كثيرة. فالصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والخوف من الله إيمان، ورجاؤه إيمان، والتوكل عليه إيمان، والركوع والسجود إيمان، والقراءة إيمان، والذكر إيمان، والدعاء إيمان، والنصيحة للمسلمين إيمان، والذكر إيمان أي شعبة من الإيمان، وصلة الأرحام من الإيمان، والإحسان إلى المسلمين من الإيمان، والوعظ والتذكير من الإيمان. وهكذا تكون خصال الخير كلها داخلة في مسمى الإيمان. فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن نقص منها نقص حقه من الإيمان؛ فالمؤمن يحرص على أن يتتبع هذه الخصال، ويتفقد نفسه هل اجتمعت في هذه الخصال أو نقصت منها شيئا؟ فإذا نقص منها شيئا فإن عليه أن يتلافى ذلك ويتدارك. وقد حرص المؤمنون والعلماء على جمع ما تيسر لهم منها، ففيه كتاب مطبوع في نحو سبعة مجلدات اسمه "شعب الإيمان" للإمام البيهقي حرص على أن كل ما هو من خصال الإيمان يذكر فضائله، ويذكر ما فيه من الفوائد، وما فيه من الأدلة، واختصر ذلك بعضهم في رسالة مطبوعة صغيرة اسمها: "شعب الإيمان" أوصلها إلى نحو سبع وسبعين خصلة جعلها كلها من الإيمان. في هذا الحديث ذكر ثلاثة منها: ذكر منها عملا باللسان، وعملا بالقلب، وعملا بالجوارح، وجعلها في أمثلة يقول: أفضلها وأعلى هذه الخصال قول: لا إله إلا الله. هذه خصلة من خصال الإيمان؛ شعبة من شبعه، وهي قول باللسان، ولكن قد ذكرنا أنها لا بد من العمل بها، وأن من قالها ولم يصدقها لا تنفعه؛ فقول: لا إله إلا الله، وشهادة أن لا إله إلا الله لا بد أن يعمل بها، فالمقصود منها معناها لا مجرد لفظها، فهي خصلة التوحيد كلمة الشهادة، من أتى بها، وحققها وعمل بها فهو مؤمن، له ما على المؤمنين، وعليه ما على المؤمنين، ومن أتى بها صادقا معتقدا بها ظهرت عليه آثارها. كذلك الخصلة الثانية يقول: { أدناها إماطة الأذى عن الطريق } وإماطة الأذى يعني إزالة الأذى الذي في طريق الناس من حجارة تعوق سيرهم، أو من شوك يؤذيهم، أو من حفر يسقط فيها الراكب، أو ما أشبه ذلك تنظيف الطرق، وإماطة الأذى عن طريق المسلمين، فجعل هذه من خصال الإسلام، ويلحق بها كل ما فيه نفع للمسلمين كإرشادهم، ووعظهم، وتوجيههم ونفعهم، وإيصال الخير إليهم، وتفريج كرباتهم، والشفاعة لهم، والتخفيف من الأزمات التي تصيبهم والشدائد التي يقعون فيها وأشباه ذلك، فإذا كملها المؤمن كمل خصال الإيمان. ثم يقول: { والحياء من الإيمان } الحياء يعرفونه بأنه: خلق شريف يتخلق به المؤمن، يحمل على كل ما يجمل ويزين، وعلى ترك كل ما يدنس ويشين. وهو من أفضل خصال الإيمان، ويراد به الحياء من الله تعالى، والحياء من المؤمنين أن يظهر بمظهر يزري به، أو يجعل ما ينتقده به أهل الخير وأهل الإيمان، أو يتجرأ على منكر والناس ينظرون دون حياء من الله، ودون من حياء من عباد الله تعالى. ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: { الحياء الخير كله } أو { الحياء كله خير } أو { الحياء لا يأتي إلا بخير } فالحياء هاهنا هو الاستحياء من الله تعالى، والاستحياء من عباد الله. فالاستحياء من الله؛ أن يستحيي العبد أن يراه ربه على ذنب. أوصى بعض الصالحين أخا له فقال: استحي من الله أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك. استحي من الله أن يراك تفعل شيئا قد نهاك عنه، وإن كنت خاليا، واستحي من الله أن يفقدك في الأشياء التي أمرك بها؛ أن يفقدك في المساجد ولو لم يفقدك الناس، أن يفقدك في أماكن الخير ومجالس الخير، ومجالس العلم والذكر والخير التي يحب الله تعالى الجلوس فيها يفقدك فيها، استحي من الله أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك. وكذلك ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: { استحِ من الله كما تستحيي من رجلين من كبار عشيرتك لا يفارقانك } ؛ فكما أنك تستحيي من آبائك وأعمامك وأشراف قبيلتك أن يروك تفعل شيئا يزري بك، فإنك تستحيي من الله. الواجب أن الإنسان يستحيي من الله أولا، ثم يستحيي من عباد الله، لو أن إنسانا مثلا برز في مجتمع الناس عاريا ليس على عورته وليس على بدنه ثياب لمقته الناس، وقيل هذا لا يستحيي من الله، ولا يستحيي من عباد الله، الواجب أن الإنسان كما يستحيي من الناس يستحيي من الله، وورد أيضا أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل يتعرى الإنسان في الصحراء، وهو خال ليس عنده أحد، فقال: { الله أحق أن يستحيى منه } ؛ أي لا تكشف وتلق ثيابك، ولو كنت في برية؛ في صحراء ليس عندك أحد، بل تستحيي من الله. إنما إذا كان لك حاجة كالتعري للاغتسال، فلتكن في كن أو بمكان تختفي فيه، وإن كان الله تعالى لا يخفى عليه شيء من أمر عباده ولكن يستحيي العبد من المؤمنين ويستحي من ربه. وهكذا أيضا يستحيي أن يظهر المعصية؛ يستحيي من الله تعالى، مثلا: يستحيي بعض الذين يشربون الخمر أن يجهروا بذلك أمام الناس. نقول: استحيوا من الله فإنه يراكم، فبعض من الشباب الذين يشربون الدخان يستحيي أن يشربه أمام الناس أو أمام أبويه ولكنه لا يستحيي أن يشربه أمام الله تعالى؛ فعليه أن يستحيي من الله كما يستحيي من الناس، وإذا استخفى من الناس فعليه أن يستخفي من الله تعالى. |