أنواع العبادة التي أمر الله تعالى بها وفرضها على عباده كلها لله تعالى، فمن ذلك دعاؤه سبحانه، قال الله تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } . الدعاء: سؤال الله تعالى بأن يرفع العبد يديه يرفع يديه إلى ربه يسأله من فضله، يدعوه ويسأله حاجاته، يعلم أنه هو الذي يقضي الحاجات، ويعلم أنه الذي يملك الملك كله، وأن بيده الخير، وأن بيده كل شيء، وأنه الذي يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعلم أن الخلق لا يملكون من الأمر شيئا، وإنما الأمر لله وحده؛ فلذلك يعبدونه بهذا الدعاء. كذلك أيضا يعبدونه بالدعاء الفعلي الذي هو جميع الطاعات؛ فيصلون له ويركعون له ويسجدون له ويقومون له ويقعدون له ويذكرونه ويكبرونه. ذلك كله من أنواع الذكر ومن أنواع الدعاء الفعلي، إذا عرفوا أنه سبحانه هو ربهم؛ جعلوا أنواع العبادة لله وحده. كذلك يعلمون أنه الذي يأخذ بالمعصية ويعاقب عليها فيخشون عقابه، ويخافون عقابه وأخذه لهم أخذ عزيز مقتدر، فيعرفون قدرته عليهم سبحانه وتعالى، ويعرفون أنه شديد العقاب، { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } فيخشونه حق الخشية، يقول الله تعالى: { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ } . { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } وسبب الخشية وسبب الخوف أن كل بشر كل إنسان فإنه لا بد أن يقصر في طاعة ربه، ولا بد أن يفعل شيئا، يفعل شيئا من المعاصي، والمحرمات التي حرمها الله، أو يترك شيئا من الطاعات التي أمر الله تعالى بها، فإذا كان عادة أنه يترك الطاعات تهاونا وكسلا، وأنه يفعل بعض المحرمات تساهلا وجرأة أو تهاونا بالعقاب، وبنظر ربه؛ فإن عليه أن يخاف، يخاف من سطوة الله، يخاف من عقوبته، يخشى أن يأخذه ربه على حين غرة وغفلة، يخشى من عقاب الله في دنياه، ومن عقاب الله تعالى في أخراه، هذا هو السبب في كون العبد يحرص على أن يخاف من الله سبحانه. كذلك أيضا يرجو ربه ويعلق قلبه بربه، ويعلم أنه هو الذي يرحم عباده، ويغفر لهم ويثيبهم الثواب العظيم الجزيل، كل ذلك من الأسباب التي يتقرب بها العباد إلى الله سبحانه وتعالى. فعلينا أن نعرف هذا الحق علينا، وهو قول الله تعالى: { اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } أي وحدوه وأطيعوه، وأن نكون دائما في حال عبادة، حتى ولو كنا في أمور دنيوية، فإن الجميع تعتبر عبادات، عبادات الله تعالى تتمثل في كل أنواع الأفعال، إذا نوى العبد بها قربة عند الله سبحانه وتعالى، فإن الله يثيبه عليها حتى ولو كانت من القربات، ولو كانت من الأمور العادية؛ يثيبه الله عز وجل إذا عمل أعمالا دنيوية، يقصد بها نية صالحة صادقة، ورد في الحديث ما يدل على ذلك، فقوله تعالى: { اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } . نقول: إن إتيانكم إلى هذه المساجد عبادة، وإن صلاتكم عبادة، ركوعكم وسجودكم وقيامكم وقعودكم عبادة، جلوسكم في المساجد لانتظار الصلاة عبادة، ذكركم لله تعالى تسبيحا وتحميدا وتكبيرا وتهليلا عبادة، استغفاركم من الذنوب وطلبكم من الله تعالى المغفرة، ومحو السيئات يعتبر أيضا عبادة. كذلك أيضا نفقاتكم في سبيل الله عبادة، صيامكم وقيامكم وتهجدكم عبادة، تلاوتكم للقرآن ولكتاب الله تعالى عبادة داخلة في قوله: { اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } كذلك أيضا أعمالكم البدنية التي هي قربة إلى الله تعالى عبادة، فالجهاد في سبيل الله عبادة والحج والعمرة عبادة والطواف والسعي عبادة، وكذلك أيضا الأعمال المتعدية عبادة، كبر الوالدين، وصلة الأرحام وحق القرابة وأداء حقوق الناس وأمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر ونصيحتكم لإخوانكم ودعوتكم إلى الله تعالى وتعليمكم للعلم الذي تعرفونه وعملكم به كل ذلك من العبادة التي يحبها الله تعالى والتي يأمر بها. وكذلك ضد ذلك بلا شك أنه من ترك العبادة، ومن ضدها، فدعاء غير الله معصية وكفر وشرك، ومخالفة ما أمر الله تعالى به تعتبر معصية وذنبا، الله تعالى وعد على العبادة بالثواب، وتوعد على المعاصي بالعقاب. فالعبد يعرف حق الله تعالى؛ فيتقرب به إلى ربه، ويحرص على أن يكون من الذين يعبدون الله تعالى حق عبادته، ويحرص على أن يترك ما حرم الله عليه، حتى يثيبه الله تعالى ويجزل له الأجر، ربنا سبحانه كريم كتب على نفسه الرحمة، أخبر الله تعالى بذلك وقال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } . أخبر سبحانه وتعالى بأن رحمته تغلب غضبه، ورد أن الله { لما خلق الخلق كتب كتابا فهو عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي } أو { إن رحمتي سبقت غضبي } . من رحمته أنه لا يعاجلهم بالعقوبة إذا عصوا الله تعالى، فلا يعاجلهم بل يمهلهم إمهالا وليس ذلك عجزا منه -سبحانه وتعالى- ولكنه يمهل ولا يهمل، كذلك أيضا من رحمته أنه يضاعف الحسنات أضعافا كثيرة قال الله تعالى: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا } . هذا من كرمه ومن واسع فضله، كذلك أيضا من حكمته أنه يري عباده آياته حتى يعرفوه، حتى يعرفوه ويعبدوه؛ فيعاقبهم بأنواع من العقوبات؛ ليعتبروا ويعرفوا الله سبحانه ويعرفوا قدرته ويعرفوا كمال تصرفه. فتارة يغدق عليهم الرزق ويكثر عليهم النعم ويبسط عليهم رحمته، ولكن الغالب أنهم إذا فعل بهم ذلك فقد يتجاوزون الحد، وقد يعصونه ويستعينون بنعمه على معصيته، سبحانه قال الله تعالى: { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ } . لو بسط لهم الرزق وأعطاهم من كل ما سألوه ووسع عليهم؛ لبغوا في الأرض وتكبروا، وتجبروا { وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ } ينزل عليهم بقدر. ويقول الله تعالى: { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } . إذا استقاموا على الطريقة وسلكوا الصراط السوي؛ فإن ربهم سبحانه يرحمهم ويبسط لهم الرزق ويعطيهم ما يحتاجون إليه، { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } أي لأمطرنا عليهم ولباركنا لهم إذا استقاموا على الطريقة وهي الصراط المستقيم. فكل ذلك من آيات الله التي يظهرها لعباده؛ ليعرفوا حاجتهم إليه، دائما العباد لا يستغنون عن ربهم طرفة عين، لا غنى بهم عن فضله، لا غنى بهم عن رحمته، لا يستغنون عن عطائه، لذلك نقول: إنه سبحانه يريهم الآيات { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ } . يعرفون بذلك كمال تصرفه فأحيانا يرسل عليهم السماء مدرارا، ويغدق عليهم المطر ويكثر عليهم حتى يرتووا وحتى تروى بلادهم وأرضهم، ويكون ذلك بقدر كما في قوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ } . لأجل حاجتهم إليه، وأحيانا يرسل عليهم أكثر من ذلك فيشتكوا كثيرا ما تغرق كثير من البلاد يرسل عليهم ماء فيغرقهم كما أرسل على قوم نوح لما كذبوا نبيهم قال الله تعالى: { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } فأغرقهم بما أنزله عليهم من هذا الماء الذي نبع من الأرض، ونزل من السماء، كذلك أيضا إذا عصى بعض العباد؛ أرسل عليهم ماء يغرقهم أو ماء يهلك دوابهم ويهلك بلادهم ويهدم منازلهم ويقضي على ما كان عندهم إذا شاء الله تعالى، فذلك من آياته. وأحيانا يؤخر عنهم ذلك الماء؛ ليعتبروا وليعلموا أنهم بحاجة إليه سبحانه، فتارة ينزل من السماء ماء بقدر، وتارة يرسل عليهم غرقا ومطرا يمحو كثيرا من الآثار، ويغرق كثيرا من الديار، وتارة يحبسه عنهم، مع أنه قادر على أن يرسله إليهم إذا شاء، كل ذلك من آياته سبحانه وتعالى؛ فيعرفون بذلك كمال قدرته، يعرفون أنه الذي يتصرف. لو اجتمع الخلق كلهم على أن يرسلوا الرياح التي تثير السحب؛ لما قدروا على ذلك بل الله تعالى هو الذي يرسلها قال الله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي يرسل هذه الرياح التي تثير السحاب؛ فتكون مبشرات، قال الله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } أي تبشر بالخير وتثير السحب. كذلك أيضا لو اجتمع الخلق على أن ينشئوا سحابا، ويجعلونه ركاما، ويملئونه من الماء والمطر؛ لما قدروا على ذلك، بل الله تعالى هو الذي يرسله، ولا يقدر أحد على ذلك. ويعترف بذلك حتى المشركون الأولون قال الله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } أي يعترفون بأن الله هو الذي ينزل من السماء ماء ويحيي به الأرض. الله عز وجل أيضا هو الذي يفعل ذلك فهو الذي يرسل الرياح وهو الذي ينشئ السحاب وهو الذي يحمله بهذا الماء، وبهذا الماء الكثير، أو الذي هو بقدر ما ينزله الله عز وجل، كذلك أيضا هو الذي ينبت النبات، يعني جعل هذه الأرض من نعمه قابلة للإنبات رخاء لو شاء لجعلها صخرة لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، لو شاء لجعلها سبخة، لا تقبل شيئا ولا تنبته، ولا تمسك ماء. لو شاء لجعل هذا الماء على سطحها؛ فلا تتم به حاجته، ولكنه سبحانه جعل في جوفها مخازن، جعل في جوفها فراغا، إذا أنزل هذا الماء استقر ذلك في مخازنها التي في جوفها، حتى ينتفعوا به فيما بعد، يخرجونه بدلائهم وبأدواتهم حتى ينتفعوا به ويسقوا به حروثهم وأشجارهم، ويسقوا به أنفسهم ودوابهم، في هذه المستودعات التي في جوف الأرض قال الله تعالى: { وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } أي لا تقدرون على خزانته، ولكن الله تعالى هو الذي يحفظه لكم حتى تستخرجوه عند حاجتكم فكل ذلك يبين حاجة البشر إلى ربهم سبحانه وتعالى. وبيان أنهم لا يستغنون عنه طرفة عين، فإذا عرفنا ذلك؛ فإن علينا أن نأتي بالأسباب التي يرحمنا الله تعالى بها والتي يعيد لنا فضله ويوسع علينا من فضله، فنكثر من دعائه دائما جماعات وفرادى، فإنه يجيب من دعاه، قال الله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } أي أجيب من دعاني. وقال الله تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } . ودعاء الله تعالى يعني سؤاله كل يدعو ربه تعالى بمفرده، ومن أسباب إجابة الدعاء: الإخفاء { تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } أن يخفي ذلك بينه وبين ربه، كذلك أيضا من أسباب إجابة الدعاء أن يرفع يديه إلى الله تعالى يسأله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: { إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه إن يردهما صفرا } يعني خاليتين، فكأنه إذا رفع يديه إليه وهي خالية يُشعر نفسه بأن يديه خالية وأن ربه سبحانه لا يخيب من رجاه فبذلك يكون العباد حريين بأن يرحمهم ربهم، وأن يرزقهم. |