بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في "كتاب الحسبة": ومثل ذلك الاحتكار لما يحتاج الناس إليه، لما روى مسلم في صحيحه عن معمر بن عبد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: { لا يحتكر إلا خاطئ } فإن المحتكر: هو الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام فيحبسه عنهم ويريد إغلاءه عليهم، وهو ظالم للخلق المشترين؛ ولهذا كان لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة، فإنه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل؛ ولهذا قال الفقهاء: من اضطر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله، ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره. ومن هنا يتبين من أن السعر منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز؛ فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباحه الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل فهو جائز، بل واجب. فأما الأول فمثل ما روى أنس قال: { غلا السعر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: يا رسول الله لو سعرت؟ فقال: " إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال } رواه أبو داود والترمذي وصححه ، فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء، وإما لكثرة الخلق، فهذا إلى الله. فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق. وأما الثاني: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به. وأبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا أن لا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون لا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم، فلوا باع غيرهم ذلك منع إما ظلما لوظيفة تؤخذ من البائع أو غير ظلم، لما في ذلك من الفساد، فهاهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء؛ لأنه إذا كان قد منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا أو يشتروا بما اختاروا كان ذلك ظلما للخلق من وجهين: ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال، وظلما للمشترين منهم. والواجب إذا لم يمكن دفع جميع الظلم أن يدفع الممكن منه، فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته: إلزامهم أن لا يبيعوا أو لا يشتروا إلا بثمن المثل. وهذا واجب في مواضع كثيرة في مواضع كثيرة من الشريعة، فإنه كما أن الإكراه على البيع لا يجوز إلا بحق، يجوز الإكراه على البيع بحق في مواضع مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة. والإكراه على أن لا يبيع إلا بثمن المثل لا يجوز إلا بحق، ويجوز في مواضع، مثل المضطر إلى طعام الغير، ومثل الغراس والبناء الذي في ملك الغير، فإن لرب الأرض أن يأخذه بقيمة المثل لا بأكثر. ونظائره كثيرة. وكذلك السراية في العتق كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- { من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوِّم عليه قيمة العدل، لا وكس ولا شطط، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق } . وكذلك من وجب عليه شراء شيء للعبادات كآلة الحج ورقبة العتق وماء الطهارة، فعليه أن يشتريه بقيمة المثل، ليس له أن يمتنع عن الشراء إلا بما يختار. وكذلك فيما يجب عليه من طعام أو كسوة لمن عليه نفقته إذا وجد الطعام أو اللباس الذي يصلح له في العرف بثمن المثل لم يكن له أن ينتقل إلى ما هو دونه، حتى يبذل له ذلك بثمن يختاره، ونظائره كثيرة. ولهذا منع غير واحد من العلماء كأبي حنيفة وأصحابه القُسام؛ الذين يقسمون العقار وغيره بالأجر أن يشتركوا فإنهم إذا اشتركوا والناس محتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجر، فمنع البائعين الذين تواطئوا على أن لا يبيعوا إلا بثمن قدروه أولى، وكذلك منع المشترين إذا تواطئوا على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى. وأيضا فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعا من السلع أو تبيعها قد تواطأت على أن يهضموا ما يشترونه فيشترون بدون ثمن المثل المعروف، ويزيدون ما يبيعون بأكثر من الثمن المعروف، وينموا مايشترونه، كان هذا أعظم عدوانا من تلقي السلع، ومن بيع الحاضر للبادي، ومن النجش، ويكونون قد اتفقوا على ظلم الناس حتى يضطروا إلى بيع سلعهم وشرائها بأكثر من ثمن المثل، والناس يحتاجون إلى بيع ذلك وشرائه. وما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس فإنه يجب أن لا يباع إلا بثمن المثل، إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة. يتكلم شيخ الإسلام رحمه الله هاهنا على مسائل في البيع منها: الاحتكار، ومنها التسعير، ومنها ما يلحق بذلك كتلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي والأشياء التي إذا تعامل بها الإنسان أضر بالآخرين، وخالف القاعدة المشهورة: لا ضرر ولا ضرار. فالاحتكار: هو حبس السلع حتى تغلو ويرتفع سعرها ثم يبيعها بغلاء ويتركها ما دامت متوفرة فإذا قلت ولم توجد إلا عنده تصرف فيهم وباعهم بما يريد، ومثل ذلك: لو أحس بأن السلع قلت في الأسواق فتتبعها؛ تتبع ما يوجد عند فلان وعند فلان وعند فلان، ثم جمعها في مخزنه، ثم لما لم توجد إلا عنده تصرف فيها فربما يبيعها بضعفي ثمنها؛ تكون بمائة ويبيعها بمائتين أو بثلاثمائة؛ يعتبر هذا من الاحتكار، في الحديث { لا يحتكر إلا خاطئ } يعني لا يحبس الأطعمة والأكسية مثلا والسلع التي يحتاج الناس إليها ويمسكها ثم يبيعها عندما تنعدم ويتصرف في الناس إلا خاطئ؛ أي مخطئ يجب أن يؤخذ على يديه ويمنع من هذا التصرف الذي يضر بالأمة. وذلك لأن الواجب على المسلم أن يحب للمسلمين ما يحبه لنفسه فإذا كان المسلمون بحاجة إلى مثل هذه السلع لشرائها؛ إما لاستعمالها كلباس أو أوانٍ أو أدوات يستعملونها أو أطعمة يقتاتون بها؛ وجب عليه أن يخرجها وقت وجودها ولا يحبسها فيضر بالناس، وإذا وجدت عنده حرم عليه أن يضاعف ثمنها على الناس، بل يبيعها بالسعر المعتاد الذي يحصل به ربح، ولكن دون زيادة تضر بالمستهلكين. إذا كانت مثلا قبل أن تنعدم بمائة فباعها بمائة وخمسين فذلك ضرر، وكذلك لو باعها بمائة وثلاثين، بل لا مانع من أن يبيعها لقلتها مثلا أو لكونها عنده فقط يزيد في قيمتها في المائة خمسة أو عشرة أو نحو ذلك؛ فأما زيادة كثيرة تسبب ضرر المواطنين والمسلمين فلا شك أن هذا من الضرر المحرم. إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- منع من تلقي الركبان حتى لا يغبنوا؛ فإن ذلك دليل على منع الغبن للمسلمين؛ منعهم من أن يتعاطوا شيئا مما يضر بالمسلمين في معاملاتهم. كذلك أيضا سمعنا في كلام الشيخ -رحمه الله- أنه لا يجوز أن ينفرد أحد ببيع السلع أو بشرائها، إذا كان يتصرف فيهم تصرفا زائدا عن قدر العادة. صورة ذلك إذا كانت هذه السلع لا يورِّدُها إلا فلان أو لا يصنعها إلا هو؛ يمنع غيره من صناعتها أو يمنع غيره من استيرادها، فإن عليه أن يرفق بالمستعملين لها والمستهلكين لها، فلا يزيد عليهم زيادة ترهقهم، وللوالي أن يتدخل في ذلك، وهو ما يسمى بالتسعير يعني تحديد السلع، وتقدير أسعارها، سمعنا الحديث الذي فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قيل له إن السعر قد غلا فسعر لنا قال: { إن الله هو المسعر القابض الباسط وإني أرجو أن أخرج من الدنيا وليس أحد يطالبني بشيء } قالوا: إن هذا إذا غلا السعر بدون احتكار، أو بدون تصرف شخصي أو نفع خاص لأحد دون أحد. فأما إذا كان هناك من تسبب في رفع الأسعار؛ وجد إنسانا هو السبب في كونه احتكر هذه السلع التي يستوردها وحده أو يصنعها وحده، ومنع أن تباع إلا بأضعاف مثلها بأضعاف الثمن، فللحاكم التدخل وإلزامه أن يبيعها بالسعر المناسب؛ لأن الناس بحاجة إليها. وكذلك يقال أيضا في الذين يتفقون على السعر إذا انحصر عندهم؛ التجار الذين مثلا توجد عندهم بعض السلع؛ الأقمشة مثلا لا توجد الآن إلا عند فلان وفلان عند عشرة أو مائة فيتفقون فيما بينهم: أن يرفعوا السعر وأن يضاعفوه؛ فللحاكم التدخل ومنعهم من هذا الاتفاق وأن يبيعوا بالسعر المناسب الذي يربحون فيه ولا يضرون غيرهم. وكذلك أيضا يقال في باب الشراء أنه لا يجوز اتفاقهم في الشراء حتى لا يضروا الباعة، وصورة ذلك: لو جلبت السلع من أطعمة مثلا أو بهائم أو أكسية أو نحوها؛ جلبها أناس تعبوا فيها تعبوا في إنتاجها كالخضار والفواكه ونحوها، أو تعبوا في استيرادها كالأقمشة وما أشبهها، أو تعبوا في تنميتها وتغذيتها كالبهائم، ثم بعد ذلك جاءوا بها لبيعها وليربحوها فيها ربح يناسبهم فاتفق المشترون، وقالوا: لا تشتروها إلا بكذا أو لا يشتريها منكم إلا فلان فإنهم إذا اتفقوا هذا الاتفاق تضرر هذا الجالب الذي تعب في تحصيلها؛ حيث إنهم يتفقون على أن لا يشتريها إلا واحد ثم بعد ذلك يقتسمونها ثم يبيعونها بأضعاف مضاعفة كما هو مشاهد، أنهم إذا جلب بعض الفواكه وقفوا عن الزيادة وقالوا: لا يشتريها إلا واحد أو لا يسومها إلا فلان، ثم إذا باعها بنصف الثمن أو بربع الثمن بعد ذلك تقاسموها، ثم بدل ما يكون الكيلو مثلا بريال عليهم يبيعونه بعشرة أو بخمسة على المستهلكين، ولا شك أن هذا داخل في الضرر المنهي في هذه الأحاديث. وأن على الحاكم أن يمنع مثل هؤلاء، وكذلك لو لم تكن من الضروريات ولكنها من الكماليات؛ مثلا فإذا جلبت السلع لو بهيمة الأنعام مثلا جلبها الجالبون أو أقمشة أو أكسية أو فرش أو ما أشبهها جلبوها، فاتفق المشترون على أن لا يزيد إلا فلان، وعلى أنها إذا وصلت نصف الثمن فإنك تتوقف حتى يتوهم الجالب أنها قد بلغت ثمنها، وأن هذا نهاية ما تساويها. لا شك أن هذا حرام لما فيه من الإغراء بهؤلاء الباعة الذين تعبوا فيها، فتذهب منفعتها وربحها لهؤلاء المتخصصين بهذه الصنعة. ومثل ذلك ما يقال في بعض الأماكن التي تباع فيها السلع بالمزاد العلني، وهو أنهم إذا أعلن عن هذه السيارة مثلا أو هذا الجراش كالزلي ونحوه، أعلن عن بيعه ثم وصل إلى ربع الثمن أو ثلث الثمن، والناس ساكتون لا يزيد إلا واحد فالبقية يجلبون على ذلك الجالب... أو بثلث الثمن، لا شك أن هذا من الظلم، الواجب أن يتركوه ليبيع بما يريد، والواجب أن لا يتفقوا هذا الاتفاق، وأن من رأى أنهم اتفقوا فعليه أن يحرم اتفاقهم، وأن يستام بما يناسبه، ويزيد عليهم ويفسد عليهم خطتهم؛ حتى لا يتضرر أحد لمنفعة أحد هؤلاء. هؤلاء بلا شك قصدهم المنفعة لأنفسهم وكأنهم لا يفكرون في غيرهم ولا أن غيرهم قد يتضرر بهذه الأعمال، لا يتضرر أحد وهم يكونون السبب في ضرره. وبكل حال فإن هذا هو السبب في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الاحتكار، وقال: { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض } لا تتدخلوا فيهم ولا تمنعوا هذا من هذا، ومنع من الأسباب التي فيها ضرر كما سمعنا؛ فإن تلقي الركبان قد ينخدع به الجالبون؛ فيظنون أن السعر رخيص فيبيعون على ذلك المتلقي، فإذا هبطوا الأسواق وجدوه قد خدعهم، وكذلك أيضا بيع حاضر لباد قد يتصرف في المستهلكين الذين هم بحاجة إلى مثل هذا، فيحتكر هذه السلعة التي جاء بها هذا البادي لبيعها ويمنعها فلا يبيعها إلا بما يضر المستهلكين، وهكذا ينتبه لمثل هذه الأشياء ويتوقف عند الحد المحدود. |