بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح وجسر للحرب وغير ذلك فيستعمل بأجرة المثل، لا يمكّن المستعملون من ظلمهم ولا العمال من مطالبتهم بزيادة على حقهم مع الحاجة إليهم، فهذا تسعير في الأعمال. وأما في الأموال فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد فعلى أهل السلاح أن يبيعوه بعوض المثل، ولا يمكنون من أن يحبسوا السلاح حتى يتسلط العدو أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون، والإمام لو عيّن أهل الجهاد للجهاد تعين عليهم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- { إذا استنفرتم فانفروا } أخرجاه في الصحيحين . وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال: { على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه وأثرة عليه } . فإذا وجب عليه أن يجاهد بنفسه وماله فكيف لا يجب عليه أن يبيع ما يحتاج عليه الجهاد بعوض المثل؟ والعاجز عن الجهاد بنفسه يجب عليه الجهاد بماله في أصح قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد فإن الله أمر بالجهاد بالمال والنفس في غير موضع من القرآن، وقد قال الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } أخرجاه في الصحيحين . فمن عجز عن الجهاد بالبدن لم يسقط عنه الجهاد بالمال، كما أن من عجز عن الجهاد بالمال لم يسقط عنه الجهاد بالبدن، ومن أوجب على المغصوب أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه، فأوجب الحج على المستطيع بماله، فقوله ظاهر التناقض؛ ومن ذلك إذا كان الناس محتاجين إلى من يطحن لهم ومن يخبز لهم لعجزهم عن الطحن والخبز في البيوت، كما كان أهل المدينة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء ولا من يبيع طحينا ولا خبزا، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم، فلم يكونوا يحتاجون إلى التسعير، وكان من قدم بالحب باعه فيشتريه الناس من الجالبين؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- { الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون } . وقال: { لا يحتكر إلا خاطئ } رواه مسلم في صحيحه . وما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن قفيز الطحان فحديث ضعيف، بل باطل، فإن المدينة لم يكن فيها طحان ولا خباز، لعدم حاجتهم إلى ذلك، كما أن المسلمين لما فتحوا البلاد كان الفلاحون كلهم كفارًا، لأن المسلمين كانوا مشتغلين بالجهاد. ولهذا لما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- خيبر أعطاها لليهود يعملونها فلاحة، لعجز الصحابة عن فلاحتها؛ لأن ذلك يحتاج إلى سُكْنَاها، وكان الذين فتحوها أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا نحو ألف وأربعمائة، وانضم إليهم أهل سفينة جعفر فهؤلاء هم الذين قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهم أرض خيبر فلو أقام طائفة من هؤلاء فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التي لا يقوم بها غيرهم، فلما كان في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وفتحت البلاد وكثر المسلمون استغنوا عن اليهود فأجلوهم. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال: { نقركم فيها ما شئنا } - وفي رواية - { ما أقركم الله } وأمر بإجلائهم منها عند موته -صلى الله عليه وسلم- فقال: { أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب } ولهذا ذهب طائفة من العلماء كمحمد بن جرير الطبري إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر وفي هذه المسألة نزاع ليس هذا موضعه. والمقصود هنا أن الناس إذا احتاجوا إلى الطحانين والخبازين فهذا على وجهين: أحدهما: أن يحتاجوا إلى صناعتهم، كالذين يطحنون ويخبزون لأهل البيوت، فهؤلاء يستحقون الأجرة، وليس لهم عند الحاجة إليهم أن يطالبوا إلا بأجرة المثل كغيرهم من الصناع. الثاني: أن يحتاجوا إلى من يخبزها ويبيعها خبزًا، لحاجة الناس إلى شراء الخبز من الأسواق، فهؤلاء لو مكنوا أن يشتروا حنطة الناس المجلوبة ويبيعوا الدقيق والخبز بما شاءوا مع حاجة الناس إلى تلك الحنطة لكان ذلك ضررًا عظيمًا، فإن هؤلاء تجار تجب عليهم زكاة التجارة عند الأئمة الأربعة وجمهور علماء المسلمين، كما يجب على كل من اشترى شيئًا يقصد أن يبيعه بربح، سواء عمل فيه عملًا أو لم يعمل، وسواء اشترى طعامًا أو ثيابًا أو حيوانًا، وسواء كان مسافرًا ينقل ذلك من بلد إلى بلد، أو كان متربصًا به يحبسه إلى وقت النفاق، أو كان مدبرًا يبيع دائمًا ويشتري كأهل الحوانيت، فهؤلاء كلهم تجب عليهم زكاة التجار، وإذا وجب عليهم أن يصنعوا الدقيق والخبز لحاجة الناس إلى ذلك ألزموا كما تقدم، أو دخلوا طوعًا فيما يحتاج إليه الناس من غير إلزام لواحد منهم بعينه، فعلى التقديرين يسعر عليهم الدقيق والحنطة، فلا يبيعوا الحنطة والدقيق إلا بثمن المثل؛ بحيث يربحون الربح بالمعروف من غير إضرار بهم ولا بالناس. يتكلم شيخ الإسلام -رحمه الله- على تدخل الولاة في المصالح العامة؛ وذلك لأن ولاة الأمور ينظرون في مصالح الرعية، فيما يجلب لهم الراحة، وفيما يؤمِّنَهم وفيما يزيل عنهم الأضرار، ولو كان ذلك يتعلق بالأمور الدنيوية، وهو الغالب أن سياسة ولاة الأمور تتعلق بالمصالح الدنيوية التي يحصل بها راحة المواطنين، ويحصل بها زوال المشقة والضرر عليهم. فإذا مثلا بدت الحاجة إلى صناعة أسلحة فلا بد أن يلزم الوالي الصناع بصناعتها، وأن يلزمهم ببيعها بثمن المثل؛ إذا مثلا احتيج إلى الجهاد سواء تعين أصبح فرض عين أو لم يتعين، وإنما هو فرض كفاية على الأمة، ولكن لا بد من أن يقام به. ثم احتاج المجاهدون إلى الأسلحة، من أين يأخذون الأسلحة؟!! إذا كان الأعداء يصنعون الأسلحة لأنفسهم فإنهم سيتقوون على المؤمنين على المسلمين؛ فلا بد أن المسلمين يتعلمون صناعة الأسلحة التي يردون بها عدوان من اعتدى عليهم. الأسلحة قديما كانت بالسيوف وهي أكثر ما يستعملونه في القتال السيف المعروف، والذين يصنعونه هم الحدادون المعروفون. وكذلك بالرماح الذي هو محدد رأسه يطعن به يطعنون به العدو أو يقذفونه به، وكذلك يرمون بالنشاب. ما ظهر عندهم إلا الرمي بالسهام، والسهم الذي هو عود محدد رأسه، والقوس الذي يجعل أو يركب فيه السهم ثم يقذف ويرمى به، السهم من خشب من أعواد وكذلك القوس، هذا هو أسلحتهم التي يتعاملون بها. فيقول: لو احتاج الناس إلى صناعة أسلحة يقاتلون بها العدو وجب على الأئمة والخلفاء أن يلزموا الصناع بصناعتها؛ فيأمرهم بأن يصنعوا ما يقاتل به المسلمون عدوهم، وإذا صنعوها فلا يجوز لهم أن يدّخروها أو يحتكروها أو يخزنوها، بل عليهم أن يبيعوها ولا يخزنوها، وإذا باعوها فعليهم أن يبيعوها بثمن المثل أي: لا يغالون فيها، يأخذون مصلحتهم يحصلون على ربحهم أو على مقابل صنعتهم وما يكفيهم، ولا يضرون المسلمين برفع القيمة عليهم، فهذا في صناعة الأسلحة المعتادة يصنعها الحدادون أو النجارون ونحوهم. وهكذا يقال أيضا في هذه الأزمنة أن المسلمين بحاجة إلى أن يتعلموا الصناعة للأسلحة الجديدة التي يقاتل بها في هذه الأزمنة؛ أيا كانت كبيرة أو ثقيلة أو خفيفة أو صغيرة، أن عليهم أن يتعلموها، يلزم الأئمة من يتعلم صناعتها وتركيبها وكيفية الرمي بها وكيفية استعمالها، وإذا صنعوها عليهم أيضا أن يبيعوها بحسب ما يكفيهم؛ أي لا يغالوا في الثمن فيضرون المواطنين، بل يأخذون قدر كفايتهم وقدر أجرة مثلهم، يمنعون أن يبيعوها بثمن كثير يضر المشترين. هذا هو الأصل في وظيفة الأئمة والخلفاء ونحوهم؛ أنهم يلزمون الناس أن يعملوا ما يحتاجه الناس في كل زمان، ولا شك أن هذه الأزمنة التعلم يحتاج إلى زمان؛ تعلم هذه الصناعات سواء كانت من الأسلحة ولو الأسلحة الكبيرة؛ فالبندقيات والرشاشات وما أشبهها، وكالمدافع ومثل القنابل والقاذفات وما أشبهها إذا توقف الجهاد عليها ولم يغن الجهاد بالسيف ولا بالرمح ونحوه فإنه لا بد أن يتعلمها المسلمون حتى لا يتحكم فيهم الأعداء. في عهد خلفاء بني أمية لما أنَّ ملك الروم خالف المسلمين واعتدى على بعض البلاد التي كانوا قد افتتحوها وغزاهم المسلمون وطردوهم منها، كان المسلمون في ذلك الزمان لا يتعاملون إلا بالدراهم والدنانير التي يعملها الروم هم الذين يصنعون الدرهم والدينار، فتوعدهم ذلك الرومي بأن يكتب على الدينار سب الإسلام، يقول: إذا فعلتم ذلك فإننا سوف نكتب على الدنانير مسبة دينكم، فلما أنه توعدهم بذلك وكان لا بد من الجهاد، عند ذلك أمر خليفة المسلمين وهو عبد الملك بن مروان أن يصنع المسلمون عملة يستغنون بها عن عملة وصناعة الروم، وأن يكتبوا عليها كتابة إسلامية درهم إسلامي ودينار إسلامي، فاستغنوا بذلك ولم يتعرض بعد ذلك الرومي لسب الإسلام في دراهمهم أو دنانيرهم. فيقال هكذا أيضا عندما تمس الحاجة إلى صناعة ليتقى بها العدو أو كيده، فلا بد أن ولاة الأمور يرسلون من يتعلم أو يأتون بالأدوات التي يحصل بها تعلم صناعة هذه المصنوعات حتى يستغنى عن الكفار وعن الصناعات التي يصنعونها والتي يكيدون بها المسلمين، هذا يعتبر مثالا من الأمثلة التي تجب على الأئمة ويلزمهم أن يعملوها مقابل عمل المسلمين وما يحتاجون إليه. ذكر بعد ذلك أمثلة أخرى، فيقول مثلا: إذا احتاج الناس مثلا إلى الطحن، الناس ضرورا مضطرون إلى طحن الدقيق البر فلا بد أن يكون هناك من يطحن، فإذا احتاجوا إلى الخبز فلا بد أن يكون هناك من يخبز، فيلزم الولاة طائفة من الناس يقولون لهم: اعملوا كذا حتى تكفوا حاجة الناس. في العهد النبوي لم يكونوا بحاجة إلى شيء من ذلك، بل كان أهل كل بيت يطحنون ما يحتاجونه من الدقيق بواسطة الرحا التي يديرونها ويطحنون بها الدقيق ونحوه، وكذلك أيضا يخبزون في منازلهم كل أهل بيت يصلحون الخبز في منازلهم ما يكفيهم، ولم يكن هناك حاجة إلى خبازين يبيعون للناس أو يخبزون لهم، ولكن نحن نشاهد أننا في هذا الزمان بحاجة إلى من يتعلم ذلك، فلو ترك الناس مثلا تعلم الخبز أو تعلم الطحن؛ يتضرر المواطنون، فيلزم الإمام أن يُلزم طائفة من الناس أن يتعلموا هذا الشيء وإذا ألزمهم فيلزمهم أن يبيعوا بثمن المثل ولا يضروا الناس لا يضروهم؛ بمعنى أنهم يرفعون عليهم القِيَم بحيث تضرهم ضررا ظاهرا، بل يقتصرون على ما فيه تخفيف للحاجة حاجة المواطنين. .. فهذا ونحوه وظائف أو واجب الأئمة. يدخل في ذلك جميع الحاجات التي يحتاج إليها المواطنون، فإن على الأئمة أن يلزموا من يقوم بها، وكذلك أن لا يضروا الناس برفع السلع، برفع سلعهم بحيث يتضرر المشترون ويزاد عليهم في قدرها، وأما ما روي: { أنه -صلى الله عليه وسلم- لما ارتفع السعر قالوا: سعر لنا يا رسول الله قال: إن الله هو المسعر القابض الباسط فإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بشيء } يعني بمظلمة؛ فهذا فيما إذا كان ارتفاع السعر بسبب قلته فليس لأحد أن يتصرف فيه، ولا أن يملك بيعه برخص، بخلاف ما إذا كان ارتفاعه بسبب إمساك العاملين أو الجالبين ونحوهم فإنه يتدخل، فإذا كانوا مثلا الذين يعملون الخياطة مثلا اتفقوا فيما بينهم على أن يرفعوا السعر فوق المعتاد؛ فلا بد من التدخل بإلزامهم بخفض السعر، وكذلك الذين يجلبون الأشياء التي يحتاجها الناس عامة، إذا تفقوا على أننا لا نبيع إلا بالثمن الغالي وجب على الأئمة أن يأخذوا على أيديهم، وأن يأمروهم بالبيع بالثمن المعتاد الذي ينفعهم ولا يضر المواطنين. |