بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والمنافع التي يجب بذلها نوعان: منه ما هو حق المال، كما ذكر في الخيل والإبل وعارية الحلي، ومنه ما يجب لحاجة الناس. وأيضًا فإن بذل منافع البدن يجب عند الحاجة كما يجب تعليم العلم، وإفتاء الناس، وأداء الشهادة، والحكم بينهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وغير ذلك من منافع الأبدان، فلا يمنع وجوب بذل منافع الأموال للمحتاج، وقد قال الله تعالى: { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } وقال سبحانه: { وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ } . وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال، هي أربعة أوجه في مذهب أحمد وغيره. أحدها: أنه لا يجوز مطلقًا. والثاني: لا يجوز إلا عند الحاجة. والثالث: يجوز إلا أن يتعين عليه. والرابع: يجوز. فإن أخذ أجرًا عند العمل لم يأخذ عند الأداء. وهذه المسائل لبسطها مواضع أخرى. والمقصود هنا أنه إذا كانت السنة قد مضت في مواضع بأن على المالك أن يبيع ماله بثمن مقدر، إما بثمن المثل، وإما بالثمن الذي اشتراه به: لم يحرّم مطلقًا تقدير الثمن، ثم إن ما قدر به النبي -صلى الله عليه وسلم- في شراء نصيب شريك المعتق هو لأجل تكميل الحرية، وذلك حق الله، وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله، ولهذا يجعل العلماء هذه حقوقًا لله تعالى، وحدودًا لله بخلاف حقوق الآدميين وحدودهم، وذلك مثل حقوق المساجد ومال الفيء، والصدقات والوقف على أهل الحاجات والمنافع العامة ونحو ذلك، ومثل حد المحاربة والسرقة والزنا وشرب الخمر، فإن الذي يقتل شخصًا لأجل المال يقتل حتمًا باتفاق العلماء، وليس لورثة المقتول العفو عنه، بخلاف من يقتل شخصًا لغرض خاص، مثل خصومه بينهما، فإن هذا الحق لأولياء المقتول، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفو باتفاق المسلمين. وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة: ليس الحق فيها لواحد بعينه، وتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره بتقدير الحرية، لكن تكميل الحرية وجب على الشريك المعتق، فلو لم يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر ما شاء. وهنا عموم الناس عليهم شراء الطعام والثياب لأنفسهم، فلو مكن من ذلك مَنْ يُحْتَاج إلى سلعته أن لا يبيع إلا بما شاء لكان ضرر الناس أعظم. ولهذا قال الفقهاء: إذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير كان عليه بذله له بثمن المثل، فيجب الفرق بين من عليه أن يبيع وبين من ليس عليه أن يبيع، وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي -رحمه الله تعالى- ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يعطيه بثمن المثل. وتنازع أصحابه في جواز التسعير للناس إذا كان بالناس حاجة، ولهم فيه وجهان، وقال أصحاب أبي حنيفة لا ينبغي للسلطان أن يسعّر على الناس إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة. فإذا رفع إلى القاضي أمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعر في ذلك فنهاه عن الاحتكار، فإن رفع التاجر فيه إليه ثانيًا حبسه وعزره على مقتضى رأيه، زجرًا له أو دفعًا للضرر عن الناس. فإن كان أرباب الطعام يتعدون ويتجاوزون القيمة تعديًّا فاحشًا وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، سعّر حيئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة، وإذا تعدى أحد بعدما فعل ذلك أجبره القاضي، وهذا على قول أبي حنيفة ظاهر، حيث لا يرى الحَجْر على الحر، وكذا عندهما، أي عند أبي يوسف ومحمد إلا أن يكون الحَجْر على قوم معينين. ومن باع منهم بما قدره الإمام صح، لأنه غير مكره عليه. وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه؟ قيل: هو الاختلاف المعروف في مال المديون. وقيل: يبيع هاهنا بالاتفاق لأن أبا حنيفة يرى الحجر لدفع الضرر العام. والسعر لما غلا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وطلبوا منه التسعير فامتنع؛ لم يذكر أنه كان هناك من عنده طعام امتنع من بيعه، بل عامة من كانوا يبيعون الطعام إنما هم جالبون يبيعونه إذا هبطوا السوق، لكن نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبيع حاضر لباد، نهاه أن يكون له سمسارًا وقال: { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض } . وهذا ثابت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير وجه، فنهى الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادي الجالب للسلعة، وأنه إذا توكل له مع خبرته بحاجة الناس إليه أغلى الثمن على المشتري، فنهاه عن التوكل له مع أن جنس الوكالة مباح ؛ لما في ذلك من زيادة السعر على الناس. ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تلقي الجالب، وهذا أيضًا ثابت في الصحيح من غير وجه، وجعل للبائع إذا هبط إلى السوق الخيار. ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنه نهى عن ذلك لما فيه من ضرر البائع بدون ثمن المثل وغبنه، فأثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- الخيار لهذا البائع، وهل هذا الخيار فيه ثابت مطلقًا أو إذا غبن؟ قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد أظهرهما أنه إنما يثبت له الخيار إذا غبن، والثاني يثبت له الخيار مطلقًا، وهو ظاهر مذهب الشافعي . وقال طائفة: بل نهى عن ذلك لما فيه من ضرر المشتري إذا تلقاه المتلقي فاشتراه ثم باعه. بسم الله. والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه. كلام شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يتعلق بما تمس إليه حاجة البشر؛ أنه يلزم أن يكون متوفرا، وكذلك مما يكون على بعض الناس فيه ضرر يلزم إزالة ذلك الضرر، هذا من حيث الإجمال، وذكر لذلك هذه الأمثلة؛ فمنها: نهي الحاضر أن يبيع للبادي، الحاضر هو ساكن البلد والبادي هو القادم بسلعة لبيعها. فإذا كان الناس محتاجين إلى تلك السلع وهي قليلة في الأسواق، وتولاها ذلك الحاضر فإنه يضر بالناس؛ فلا يبيعها إلا بأكثر من قيمتها أي بأضعاف ثمنها، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض } . ومن الأمثلة: إذا أعتق الإنسان نصف العبد وكان له شركاء لزم الشركاء أن يبيعوه بقية سهامهم، ولكن ما يزيدون ولا يتشرطون ويتشددون بل يقدر بالقيمة الوسط فيعطون قيمتهم حتى يعتق عليه العبد، إذا كان قادرا على دفع قيمتهم، فلا يجوز لهم أن يرفعوا في القيمة ويقولون إنه سيشتريها بكل ما نريده، ويقال: هكذا في كل سلعة احتاج إليها إنسان حاجة ضرورية وكان صاحبها قد ربح فيها، فلا يجوز له إذا كانت عنده وحده أن يتشدد على الناس وأن يتحكم في الناس، بل يبيع كما يبيع الناس أو يبيع بثمن المثل. فإذا قلّت الأطعمة وانحصرت عند واحد في بلد فليس له أن يخزنها ويمنع الناس منها وهم بحاجة إلى ذلك، ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: { لا يحتكر إلا خاطئ } و الاحتكار هو خزانة الأطعمة أو السلع وترك الناس يتضررون حتى يشتروها بأضعاف الثمن، فيكون بذلك قد أضر الناس في مصلحة خاصة به. وهكذا أيضا على الباعة ألا يظلموا المشترين ويزيدوا عليهم في الأثمان، بل يبيعوا بالسعر الذي يناسبهم، ولو جاءهم مضطر فلا يتحكمون فيه أيا كانت تلك السلعة، فلو رأى إنسانا عريانا، فقال: هذا سوف يشتري هذا الثوب ولو قيل بمثل الثمن مرتين أو ثلاثة فسوف أزيد عليه، لا يجوز، بل عليه أن يبيع المضطر كما يبيع غيره دون تشدد ودون تحكم في الناس. وكذلك أيضا لا يجوز منع بيع السلع إذا كانت موجودة لانتظار ارتفاع الثمن، الذين إذا قلت السلع تتبعوها من الأسواق واشتروها كلها ثم خزنوها إلى أن تقل في الأسواق، وبعد ذلك يتحكمون في المشترين سواء للتجارة أو للاستهلاك، ثم يبيعون كما يريدون فيربحون فيها ضعفي الثمن أو ثلاثة أضعافه، لا شك أن هذا من الضرر الذي لا يجوز إقراره. وقد ورد الأمر بإعطاء المضطر ما يضطر إليه بثمن المثل فلو اضطر إنسان إلى طعام وعرف بأنه يموت جوعا إن لم تعطه، وعندك طعام فاضل عن قوتك فإنك تعطيه بثمن المثل، ولا تقل: سوف أتحكم فيه، عليك أن تعطيه بثمن المثل لا بأكثر؛ وذلك لأنه في غاية الضرورة، وكذلك كل ما يقال: إن فيه ضرورة لبعض الناس لا يجوز التحكم في ذلك؛ فلو اضطر إنسان إلى دلو؛ ليستقي به من بئر، إذا لم تعطه هذا الدلو سوف يموت أو تموت دوابه وجب عليك أن تعطيه بأجرة المثل ولا تتحكم وتزيد، وكذلك لو اضطر إلى قدر ليطبخ فيه ولم يوجد إلا عندك فعليك أن تعطيه بأجرة المثل، لا بأكثر من ذلك؛ لئلا يحصل بذلك ضرر فـ الضرر يزال وكذلك بقية أنواع الاضطرارات، مطلوب التخفيف عن المسلمين لـ عموم نفي الضرر . ثم يلحق بذلك أيضا الأعمال يعني كما يكون هذا في الأموال فكذلك يكون في الأفعال، فمثلا: إذا كان عندك شهادة يثبت بها حق هذا المسلم، إذا لم تشهد له ضاع حقه، فلا يجوز لك الكتمان؛ ولذلك يقول تعالى : { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } فإذا عرفت بأنه محتاج إلى شهادتك فعليك أن تؤدي الشهادة التي تنفعه ولا تضرك. وهل تطلب أجرة على هذه الشهادة؟ إذا كان عليك ضرر فلك الامتناع لقول الله تعالى: { وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ } وله أن يعطيك أجرة ركوبك إذا احتجت إلى ركوب حتى تحضر عند القاضي، فله أو فعليه دفع الأجرة، وأما الامتناع من الشهادة إلا بعوض فالصحيح أنه لا يجوز. إذا قلت: عندي لك شهادة ولا أشهد لك إلا بكذا وكذا –بدراهم- لا يجوز ذلك، عليه أن يعطيك أجرة الإركاب أو أجرة التنقل، أو يعوضك عن تعطيل عملك الذي عطلته في تلك المدة أو ما أشبه ذلك. فأما أن يشترط الشاهد ما أشهد معك ولو كان ما عليه ضرر إلا بكذا وكذا فإن هذا كتمان للشهادة، { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } . كذلك أيضا من المنافع الكتابة كتابة الديون أو ما أشبهها قال الله تعالى { وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ } فإذا احتاج إنسان إلى أن تكتب دينا له أو تكتب وثيقة له تنفعه، وأنت قادر على الكتابة وليس عليك ضرر حرم عليك الامتناع { وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ } أي لا يمتنع من الكتابة، لكن إذا كان عليه ضرر فلا يجوز أن يضر لقوله: { وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ } وإذا طلب أجرة تناسبه؛ يعني أنه يعمل بأن يخسر مدادا أو ورقة أو وقتا يصرفه، أو يحتاج إلى ذهاب إلى الشهود ليكتب شهادتهم أعطي أجرة مثله، وأما امتناعه فلا يجوز لهذا النص. وبذلك نعرف أن الشريعة جاءت بإزالة الأضرار عن الإنسان وتحريم كل شيء فيه إلحاق مشقة بالمسلم، ومع ذلك فإن الإنسان أحق بمنفعة نفسه، فإن بذل تلك المنفعة لغيره وآثره على نفسه فله ذلك، وإلا فلا يجوز له أن يضر نفسه وينفع غيره، لا يجوز لإنسان جائع ومعه رغيف فقط أن يجيع نفسه حتى يموت ويعطي هذا الرغيف إنسانا آخر؛ بل الأصل أنه لا يعطيه إلا ما فضل ما فضل عن حاجاته، وكذلك بقية المنافع فـ حاجة النفس مقدمة فإذا زاد شيء أعطاه لمن هو محتاج إليه؛ إما تبرعا وإما بقيمة، وبذلك يعرف أن الإسلام جاء بالتعاون فيما بين المسلمين ونهى عن كل شيء فيه إضرار بهم؛ أي نوع من الإضرار. |