قال -رحمه الله تعالى- باب: الدين يسر. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- { أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة } . وقال -رحمه الله- حدثنا عبد السلام بن مطهر قال: حدثنا عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم– أنه قال: { إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة } . الدين: هو الإيمان كما في قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل { جاءكم يعلمكم أمر دينكم } مع أنه ذكر الإسلام والإيمان والإحسان فجعل ذلك كله من الدين؛ وذلك لأن العباد يدينون به يعني: يعترفون به كله. فيسمى الإسلام دينا كله في قوله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } يعني: الإسلام وما يستلزمه هو الدين الصحيح. وقال تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } يعني: إذا دان بدين غير دين المسلمين فلا يقبل منه. وقال الله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } فأخبر أنه رضي الإسلام دينا، وأنه أبطل بقية الأديان كدين اليهود ودين النصارى ودين المشركين والقبوريين ودين البوذيين ودين الهندوس ودين المجوس ونحوهم. إنما يبقى دين واحد وهو دين الإسلام. ثم في هذا الحديث قوله: { أحب الدين إلى الله أيسره } يبين أن اليسر والسهولة هي ما يدعو إليه الإسلام، وأنه ليس فيه تشديد ولا صعوبات ولا كلف لا تطاق، وإنما أمر بأمور يطيقها العباد، وإنه وإن أمر بالجهاد فقد وعد في الجهاد بأجر كبير كما تقدم، حتى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي تقدم قريبا أخبر بأنه لولا أن يشق على أمته ما تخلف وراء سرية تخرج؛ بل يخرج معها. ولكن كان يكره الكلفة والمشقة على العباد لأن الدين يسر، فلو خرج مع كل سرية لخرجوا كلهم، وعطلوا أمورهم وحروثهم وأعمالهم وحرفهم وأهليهم، ولكن عرف أن في ذلك مشقة عليهم كلهم فلأجل ذلك كان يخرج سرية تقوم بالكفاية؛ يمكن عددها ألف أو أربعمائة أو نحو ذلك؛ تغير ثم ترجع. وقد أخبر بأن الجهاد؛ ولو كان فيه تعرض للقتل، ولو أنه شيء يشق على النفس، ولكن فيه الأجر الكبير. ولأجل ذلك يتمنى يقول: { لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل } يعني: أن كثرة قتله يكون بذلك أعظم لأجره. وقد روي { أن الذين قتلوا في سبيل الله يتمنون أن يعادوا إلى الدنيا؛ حتى يقتلوا في سبيل الله مرة أخرى } هكذا جاء في هذه الروايات. كذلك روي: { أنهم لما قتلوا قالوا: من يبلغ عنا ربنا أنا قد لقينا ربنا؟ } ففي بعض الروايات أن ذلك نزل قرآنا؛ (أن بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) . فالحاصل أن الجهاد ولو كان شاقا فإنه لا ينافي يسر الإسلام وأن الإسلام يسر، وأنه يهدف إلى اليسر وإلى السهولة، وأنه حنيفية سمحة، وأنه أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة التي ليس فيها شيء من الصعوبات ولا الكلف والمشقات. قال الله تعالى في صيام رمضان: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } هكذا جاء. { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } دليل على أن دين الإسلام يسر. علم الله أن المسافرين يشق عليهم الصيام؛ وذلك لأنهم يمشون على أرجلهم خمس ساعات أو عشر ساعات، وإذا ركبوا فإنهم يركبون وتصهرهم الشمس، وإذا نزلوا فهم بحاجة إلى خدمة رفقتهم، وعمل يحتاجون إليه كسقي ركابهم وجمع حطبهم وإصلاح طعامهم فكان عليهم مشقة؛ فقال: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } . ولما رخص لهم في التيمم إذا عدموا الماء أخبر بأن هذا أيضا شرعه لليسر على عباده، في قوله تعالى: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } يعني: في تكليفكم بالطهارة من الماء، فقد يشق عليكم حمله؛ سيما في الطريق الطويل الذي يبلغ عشرة أيام أو عشرين يوما قد لا يجدون ماء؛ فلذلك أخبر بأنه لا يحرجهم؛ فيقول -صلى الله عليه وسلم- { إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة } وفي رواية { والقصد القصد تبلغوا } يعني: اكلفوا من العمل ما تطيقون ولا تشقوا على أنفسكم؛ فإن الله تعالى لا يحب العمل الذي يكلفكم ويشقكم. في بعض الروايات { إذا صلى أحدكم في الليل ثم نعس فليرقد، فإنه لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه } يعني: إذا كان ناعسا. وكذلك أيضا { دخل مرة ورأى حبلا مربوطا في السقف؛ فقال: ما هذا؟ فقالوا: لزينب؛ تصلي بالليل فإذا فترت تعلقت به. فقال: حلوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه فإذا عجز فليرقد } . وذلك لأنه -عليه السلام- رفيق بأمته، قال الله في حقه: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } يعني: نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-. ثم وصفه بقوله: { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } { عَزِيزٌ عَلَيْهِ } يعني: شاق عليه الشيء الذي يعنتكم ويوقعكم في الشدة. فكذلك هنا يقول: { إن هذا الدين يسر } يعني: جاء باليسر والسهولة حتى لا يمله العباد؛ لأن العبد إذا عمل العمل وهو يستثقله كرهته نفسه وثقل عليها وثقل العمل على نفسه، وجاء إليه وكأنه يدفع دفعا. والمطلوب أن الأعمال تكون محبوبة؛ محبوبة عند الله تعالى حتى يكثر الأجر والثواب. إذا كنت تعمل العمل وأنت تحبه وراغب فيه وتتمنى استمراره كان الأجر كثيرا. وإذا كنت تعمله ولكنك تستثقله؛ تستثقله وتهرب منه، أو تنفر منه نفسك وتراه ثقيلا؛ فإن أجره يكون أقل مما إذا كانت النفس تتلقاه وتتقبله براحة وطمأنينة. فدين الله تعالى يسر. جاء في حديث لابن عباس { وأن مع العسر يسرا } وفي حديث آخر { لن يغلب عسر يسرين } عسر واحد لا يغلب يسرين، ويشير بذلك إلى قوله تعالى: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } . وذلك لأن الله تعالى ذكر العسر بالألف واللام فدل على أنه شيء واحد، وذكر اليسر منكرا يسرا مرتين فدل على أنهما يسران ؛ فالعسر لا يغلب اليسرين. وفي حديث { لو دخل العسر جحر ضب؛ لجاء اليسر حتى يدخل عليه } فدين الله تعالى يسر ليس فيه صعوبات. لما علم الله أن المسافر يشق عليه النزول كل وقت أباح له الجمع رفقا به. وعلم أن السفر أيضا مظنة المشقة أباح له القصر؛ يعني: أن يقصر الرباعية إلى ركعتين تخفيفا عليه. وعلم أيضا أنه يشق عليه حمل الماء أباح له التيمم بالتراب. وعلم مشقة الصيام فأباح له الإفطار والقضاء من أيام أخرى. وغير ذلك مما يدل على أن الله تعالى رحيم بعباده. { ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه } المشادة: المقاومة. يعني: ما هناك أحد يقول: سوف أعمل بكل ما أقدر عليه إلا غُلِبَ { لا يشاد الدين } ؛ يعني: لا يماشيه إلا غلبه الدين وأعجزه، ولكن اكلفوا من العمل ما تطيقون. { ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا } { سددوا وقاربوا } أي: اعملوا الأعمال التي تقربكم ولو لم تبلغوا غايتها ولو لم تصلوا إلى أكثرها وإلى نهايتها؛ فإن ذلك قد يكلفكم. { سددوا وقاربوا } أي: تسددوا في الأمور وقاربوا ما تقدرون عليه في النوافل وفي الصيام وفي الصدقات وما أشبه ذلك، ولا تكلفوا أنفسكم فوق طاقتها. فهذا معنى التسديد والمقاربة. { وأبشروا } أبشروا بالأجر إذا فعلتم ما أمرتم به من الأوامر والنواهي ونحوها. { واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة } المسافر إذا كان السفر بعيدا فإنه قد يتعبه السير المستمر؛ فلأجل ذلك قد يشق عليه ويشق على بعيره الذي يركبه، فيقولون: { إن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى } . المنبت: هو الذي يواصل السير مواصلة مستمرة، ثم يكون من آثار مواصلته أنه يسير مثلا خمسة أيام ما أراح نفسه ولا أراح جمله. ففي هذه الخمسة قد يسير ويقطع، يقطع مسيرة خمسة عشر يوما في خمسة أيام، ثم يبرك به جمله ويهزل وينقطع به، فينقطع في برية يعني صحراء. فلا هو الذي رفق ببعيره حتى يوصله ولو بعد عشرين يوما، ولا هو الذي قطع الأرض كلها، بل برك به بعيره في برية؛ وذلك لأنه كلف نفسه، وكلف بعيره فسار عليه حتى أهزله. هذا يسمى المنبت؛ { لا أرضا قطع } لا قطع الأرض كلها التي هي مسيرة شهر، ولا أبقى ظهره؛ يعني: رفق بظهره أي: ببعيره الذي يركب على ظهره. تسمى الرواحل ظهرا. أما إذا سار برفق؛ فإنه يصل ولو بعد مدة طويلة. يقول: { استعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة } الغدوة: السير في أول النهار، وقت البرودة إلى أن تحتر الشمس. والروحة: السير آخر النهار بعد ابتداء البرودة؛ فيريح نفسه في وسط النهار أي: في القيلولة يريح نفسه ويريح بعيره. { وشيء من الدلجة } الدلجة: هي السير في الليل. وكان- عليه الصلاة والسلام- يسير في الليل كثيرا ويقول: { إن الأرض تطوى بالليل } فيحث على أنه يسير برفق. { شيء من الدلجة } أي: شيء من السير؛ السير سيرا رفيقا. إذا سار أول الليل أو آخر الليل يقال: أدلج. جاء في حديث آخر يقول: { من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل } { من خاف } يعني: من خاف من قطاع الطريق، أو خاف من المحاربين في سفره. { أدلج } يعني: سار في الليل. { ومن أدلج بلغ المنزل } وهذا مثل ضربه. قوله: { استعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة } يعني: افعلوا كما يفعل المسافر الذي يرفق بنفسه، يسير في أوقات النشاط ويريح نفسه في أوقات الكلل والتعب. فكذلك أنتم في عبادتكم استعينوا بأوقات النشاط، إذا نشطت في أول الليل تصلي ما تيسر، وكذلك في آخر الليل تصلي ما تيسر، وكذلك إذا نشطت في النهار تصلي ما تيسر؛ فتصلي في أوقات نشاطك. وكذلك أيضا إذا نشطت للذكر تذكر الله بقدر ما تيسر لك، إذا نشطت للقراءة تقرأ ما تيسر، وكذلك للدعاء وكذلك للصيام وللصدقة وللحج وللجهاد ونحو ذلك. اغتنموا أوقات نشاطكم واشغلوها في ذكر الله تعالى وفي طاعته وعبادته؛ فإنكم بذلك تكونون قد رفقتكم بأنفسكم ولم تكلفوها فوق طاقتها. إذا رفقت بنفسك في صلاة ما تيسر ولو كل ليلة ركعتين أو أربعا أو نحو ذلك. وكذلك أيضا إذا رفقت بنفسك وصمت ما تستطيع ولم تكلف. رفقت بنفسك في القراءة فقرأت في الوقت الذي تجد نفسك نشيطة، فإذا سئمت أرحت نفسك. فإنك بذلك لا تمل من العبادة ولو استمرت، وبذلك تحصل على عبادة كثيرة. فإن كثيرا من الناس كلفوا أنفسهم فوق طاقتها، كلفوا أنفسهم بحيث إن أحدهم أتعب نفسه في الصيام؛ فاستمر يصوم شهرين أربعة أشهر خمسة فسئمت نفسه؛ ثم بعد ذلك ترك الصوم كله. أتعب أيضا نفسه في القيام؛ فصار يكلفها فيقوم كل ليلة خمس ساعات أو عشر ساعات؛ فتعبت نفسه وثقلت عليها العبادة، فعند ذلك سئمها وتركها تركا كليا. وهكذا أيضا كان يكلف نفسه بالاعتكاف والجلوس في المسجد، وينقطع انقطاعا كليا عن مصالحه؛ بحيث إنه يبقى مثلا في المسجد خمس أو عشر ساعات في كل يوم وليلة؛ فثقلت عليه هذه الانقطاعات؛ فترك ذلك تركا كليا. ومن المعلوم أن العمل المستمر أفضل من العمل المنقطع؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- { أفضل العمل ما داوم عليه صاحبه وإن قل } فإذا داومت مثلا على صيام ولو قليل كل شهر ثلاثة أيام أو كل أسبوع يوما أو يومين؛ فإن ذلك أكثر مما إذا صمت شهرا أو شهرين متتابعين أو ثلاثة، ثم سئمت ذلك وتركته وقلت: شق علي. لو أنك رفقت بنفسك ما شق عليك. وهكذا أيضا إذا قلت: سوف أصلي كل ليلة خمس أو عشر ساعات. وأطلت القيام؛ فإنك تتعب نفسك، ثم بعد ذلك النفس إذا سئمت وتعبت ملت من هذا العمل وضجرت منه فيتركه، فلو كونه مثلا يأتي بشيء يسير ولو ساعة أو نصف ساعة كل ليلة أولى من كونه يأتي بخمس أو عشر ساعات زمنا قليلا ثم ينقطع؛ والعمل المستمر خير من العمل المنقطع. هذا معنى { استعينوا } يعني: استعينوا بأوقات نشاطكم وقت نشاط النفس وقت راحتها، فإذا سئمت فإنك تريح نفسك. هذا معنى { استعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة } . |