بعد ذلك قال: ( باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر ). حبوط العمل له أسباب، من ذلك: فعل بعض المعاصي، كقوله تعالى: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } . ومن ذلك: قوله -صلى الله عليه وسلم- { من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله } يعني بطل أجره، وقال الله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } كرهوا ما أنزل الله؛ واتبعوا ما أسخط الله، وكرهوا رضوانه؛ فأحبط أعمالهم. نقل البخاري عن إبراهيم التيمي -رحمه الله- قال: ما عرضت قولي على عملي؛ إلا خشيت أن أكون مكذبا. وهذا من تمام المعرفة. يقول: إني أقول قولا كثيرا، ولا أعمل به، فأخشى أن أكون مكذبا، وهذا من قوة الخوف؛ يعني كلنا كذلك نقول أقوالا؛ ولكن لا نعمل بها كلها، نرغب في كثير من الخيرات والحسنات ولا نستطيع أن نعمل بها أو نأتي بها كلها، لا شك أن هذا واقعنا كثيرا، فإبراهيم التيمي -رحمه الله- يقول: ما عرضت قولي –يعني- كلامي للناس، على عملي –يعني- على أعمالي التي أعملها؛ أحث –مثلا- على قيام الليل ولا أقومه، وأحث على كثرة القراءة ولا آتي بها، وأحث على كثرة الذكر وأكون مقصرَّا فيه، وأشباه ذلك، يقول: فأخشى أن أكون مكذبا. ونَقَل عن ابن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل . وهذا من شدة الخوف. يقول بعض العلماء: من كان بالله أعرف كان منه أخوف. هكذا يكون الخوف من الله تعالى؛ الخوف الشديد، من كان بالله أعرف كان منه أخوف. فهؤلاء ثلاثون من الصحابة أدركهم ابن أبي مليكة كلهم يخاف النفاق على نفسه. رُوي أن عمر -رضي الله عنه- سأل حذيفة وكان حذيفة صاحب السر، أسر إليه النبي صلى الله عليه وسلم أسماء بعض المنافقين، فأخبره ببعض أسمائهم، فيقول عمر أسألك بالله يا حذيفة هل عدَّني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المنافقين؟ فقال: لا ولا أزكي بعدك أحدا. يقول: إنه ما عدك، وأني لا أزكي أحدا، إذا كنت تخاف على نفسك. يقول: إنهم ما منهم من أحد يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل . أي كإيمان الملائكة؛ وذلك لأنهم قد يفعلون بعض الأفعال المباحة أو المكروهة عن طريق الاجتهاد؛ فيكونون بذلك أخلوا بقوة الإيمان. ويذكر عن الحسن البصري -رحمه الله- يقول عن النفاق: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق. يعني المؤمن يخاف من النفاق، يخاف أن يحبط عمله؛ لأن النفاق كفر؛ ولأن نفاقه إخفاء الكفر وإظهار الإيمان، أما المنافقون فإنهم يأمنونه؛ ولأجل ذلك يمدحون أنفسهم ويزكون أنفسهم. يقول: وما يُحْذَرُ من الإصرار على التقاتل والعصيان من غير توبة لقوله تعالى: { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يقول البخاري إن المؤمن يحذر من الإصرار على المعاصي، على التقاتل وعلى المعاصي ولا يتوب، والإصرار يصير الذنب الصغير كبيرا. ثم يروي حديثا: حدثنا محمد بن عرعرة قال: حدثنا شعبة عن زبيد قال: سألت أبا وائل عن المرجئة فقال: حدثني عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: { سباب المسلم فسوق وقتاله كفر } . المرجئة هم الذين يخففون أمر المعاصي، ويقولون: إنها لا تضر، إن المعاصي لا تضر مع الإيمان، إذا كان الإنسان مؤمنا فلو أكثر من المعاصي ما تضره، ويعتمدون على آيات الرحمة، ويقول قائلهم: فكثِّر ما استطعت من المعاصي إذا كـان القـدوم علـى كـريم فنقول لهم: لا تعتمدوا على آيات الرحمة، فإن الله تعالى وصف نفسه بالرحمة، ووصف نفسه بالعذاب؛ ولذلك يجمع بينهما كقوله تعالى: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } جمع بينهما؛ أي أنه واسع الرحمة، وأنه شديد العقاب، فأنتم أيها العصاة لا تقنطوا من رحمته، وأنتم أيها المؤمنون لا تجزموا وتزكوا أنفسكم، وكذلك أنتم أيها العصاة لا تأمنوا من عذابه، فإنه يعاقب على كثير من المعاصي. في هذا الحديث يقول: { سباب المسلم فسوق وقتاله كفر } سبابه يعني سب المسلمِ أخاه المسلم، فوصفه بأنه فسوق، الفسوق هو الخروج عن الطاعة. وقد يصل إلى التعذيب، قال تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } يعني أن الفسوق قد يخرج من الملة. وقتاله كفر: إذا قاتله واستحل قتاله فسق وكفر، فهذا يرد على المرجئة. وأول المرجئة الجهم بن صفوان فإنه جمع ثلاث خصال: الخصلة الأولى: أنه قال بالتعطيل؛ أي- عطل الله تعالى عن صفات الكمال. الخصلة الثانية: أنه جبري، يقول: إن الناس مجبورون على أعمالهم، ليس لهم اختيار. الخصلة الثالثة: يقول بالإرجاء، يقول: إن المعاصي ما تضر، وأن الإنسان إذا كان موحدا يأتي بالشهادتين فإن ذلك لا يضره؛ ولو عمل أي عمل. لا شك أن هذا تهاون بطاعة الله تعالى، وتجرؤ على معصية الله عز وجل. ثم يقول أخبرنا قتيبة بن سعيد حدثني إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس قال: أخبرنا عبادة بن الصامت { أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج مرة ليخبر بليلة القدر؛ فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فنسيت فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، التمسوها في التسع والسبع والخمس } . هكذا يقول أو يبين أن من آثار المعاصي هذا الحرمان، هذا أثر من آثار المعاصي، هذه المعصية أي الملاحاة، تلاحى رجلان تخاصما وتنازعا وتجادلا ورفعا أصواتهما، فكان من آثار ذلك أن رفع الخبر بليلة القدر، ولم يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بها بعد أن كان قد هم بأن يخبر بها، أو عرف أنها قد عينت له؛ ومع ذلك لما تلاحى هذان الرجلان رُفعت. لا شك أن هذا دليل على أن المعاصي لها تأثير على المسلمين. وبكل حال نعرف أن المعاصي تضر أهلها، وأنها سبب في حبوط الأعمال، وأن الإنسان إذا عمل معصية فقد يكون من آثارها حُبوط عمله، وبطلان عباداته، كما أنه إذا اجتهد في الأعمال الصالحة فإن الله تعالى يثبته ويزيده ثباتا. لعلنا نقف هاهنا. |