صلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى أهله وصحبه أجمعين. نحمد الله تعالى أن يسر لنا اليسرى وجنبنا العسرى، نحمده سبحانه أن أوصلنا إلى هذه البقاع الشريفة، وهذه الأماكن المشرفة والمعظمة والمحترمة، وهذا اليوم العظيم الذي له ما بعده، والذي له مكانته في الفضل وفي الشرف، هذا لنعمة كبيرة وفضل من الله سبحانه وتعالى أن أعاننا على قطع المسافات، وأوصلنا إلى هذه البقاع، وهذه الأماكن الشريفة. إن هذا اليوم الذي هو اليوم التاسع من هذا الشهر، وهذه البقعة التي تسمى عرفة أو عرفات اجتمع فيها شرف المكان، وكذلك شرف الزمان. هذا اليوم العظيم الذي هو يوم عرفة والذي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بفضله، فأخبر بفضل صيامه في قوله صلى الله عليه وسلم: { صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده } ؛ وما ذاك إلا لفضله، ولفضل العمل فيه، ولكن الحجاج في هذا المكان لا يشرع لهم صيامه، إنما هم مسافرون، والمسافر له رخصة في الإفطار. وأيضا ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصم ذلك اليوم، لما كان واقفا في عرفة في أثناء وقوفه شك بعض الناس في صيامه، فأرسلت أم الفضل إليه لبنا وهو راكب على ناقته، فتناوله، وشرب منه والناس ينظرون. الحكمة في فطر هذا اليوم، الحكمة في الإفطار فيه التقوي على الدعاء، والتقوي على العبادة؛ لأن العباد في هذا اليوم يتفرغون للعبادة، ويأتون بما يقدرون عليه، يأتون بما يستطيعونه من الأعمال الصالحة: من الصلوات ذات الخشوع، ومن الدعاء الذي يرغبون إجابته، ومن ذكر الله سبحانه وتعالى؛ فلأجل ذلك عليهم، أو لهم أن يفطروا حتى يتقووا على الأعمال. ثم قال بعض العلماء: إن الحجاج ضيوف الله، والكريم لا يجوع ضيوفه، هكذا ذكر بعضهم. لا شك أن هؤلاء الحجاج الذين جاءوا من كل فج عميق، واجتمعوا من كل حدب ينسلون، لا شك أن الذي جاء بهم لهو رغبتهم في فضل الله تعالى، ورغبتهم في الأجر، ورغبتهم في مغفرة الذنوب وتكفير الخطايا، ومحبتهم للأعمال الصالحة التي يضاعفها الله تعالى في هذا اليوم العظيم. لا شك أنهم جاءوا من كل مكان، وأنهم استووا في حالتهم؛ فكلهم قد كشفوا رءوسهم، وكلهم قد ارتدوا هذه الأردية التي هي أشبه بأكفان الموتى، الحكمة في ذلك أن يشعروا جميعا بأنهم عبيد الله تعالى، كلهم في العبودية سواء، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، لا فضل لأحدهم على الأخر، كلهم على هيئة سوية: الملوك والمماليك، الفقراء والأغنياء، القريبون والبعيدون، الأسود والأحمر؛ لا فرق بينهم في هذه الهيئة، كلهم قد أحرموا، وكلهم قد تقربوا إلى الله سبحانه وتعالى بهذا اللباس الذي ارتدوه، وتقربوا إلى ربهم بترك الرفاهية. فتركوا الطيب مع أنه من ملذات الحياة، وتركوا قتل الصيد مع أنه مما تشغف إليه النفوس، وتركوا تغطية الرءوس، وتركوا حلق الشعر وقص الأظفار ونحو ذلك مما فيه رفاهية ومما فيه تنعم، كل ذلك امتثال لأمر الله وكل ذلك طواعية لله سبحانه وتعالى. يحبون أن يظهروا بهذا المظهر؛ فيظهروا خاشعين خاضعين متواضعين كما أُمِروا، يشعرون بأنهم جميعا عبيد لله سبحانه وتعالى، وأنهم ملكه وخلقه وعبيده، وأنهم أذلاء بين يديه، وأنهم يحبون رضاه ويعملون في طاعته، وأنهم لأجل المغفرة طلب المغفرة والرحمة تركوا بلادهم، وتركوا أولادهم وأموالهم وأقاربهم، وتركوا ديارهم، وتجشموا المشقات وقطعوا الفيافي الطويلة أو القصيرة، وصبروا على اللأواء والشدة، وصبروا على التعب والنصب. كل ذلك استجابة منهم لنداء ربهم سبحانه وتعالى، وظهروا بمظهر الذل والتعطف والتذلل لله سبحانه وتعالى، كما ورد ذلك في الأحاديث أنه سبحانه وتعالى يباهي بأهل عرفة الملائكة، فينزل إلى السماء الدنيا كما جاء في حديث، ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: { يا ملائكتي، انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ضاحين يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم انصرفوا مغفورا لكم } . وهذا حيث إنهم أظهروا لله سبحانه وتعالى التذلل، فتذللوا بين يدي ربهم أظهروا الضعف، وأظهروا الاستكانة، وأتوا إلى الله تعالى في هذه الصفة، قد شعثت رءوسهم بمعنى أنها قد انتفشت شعورهم وانتشرت، وكذلك قد تعرضوا للغبار وتعرضوا للتراب؛ فصاروا بذلك مهطعين مقنعي رءوسهم متذللين لربهم متخشعين له يرجون أن يرحمهم سبحانه وتعالى. كما جاء في حديث أن الله تعالى يقول: { أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي } المنكسرة يعني: المتذللين والمتواضعين والمتخشعين من أجل الله تعالى؛ لأنهم يعرفون أن ربهم هو الكبير المتعالي، وأنه هو العظيم؛ فيسبحونه لأجل عظمته، ويسبحونه ويكبرونه لأجل كبريائه، فيكبرونه بقولهم: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، إذا كبروه صغرت عندهم الدنيا وأهلها، وصغرت عندهم نفوسهم ولو كانوا يملكون ما يملكون. عرفوا أن ربهم سبحانه هو الكبير، له الكبرياء كما أخبر بذلك في قوله سبحانه وتعالى: { فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } له الكبرياء فهو المتكبر، كما أخبر؛ جعل ذلك من أسمائه في قوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } . يستحضر المسلم معاني هذه الآيات، وهذه الأسماء الحسنى، فيستحضر أن ربه سبحانه هو الملك؛ بل هو مالك الملك، ويدعو بالدعاء في قول الله تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } فهو سبحانه ملك الملوك، وهو مالك كل شيء، وهو ملك الناس ومالك يوم الدين، وله الملك وله الحمد، والعباد يتقربون إلى الله تعالى بذكره؛ سيما في هذا اليوم. ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: { أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } ؛ فيجب علينا أن نظهر الاستضعاف لله. وعلينا أيضا أن نكثر من الذكر، من ذكر الله سبحانه وتعالى، سيما بهذا الذكر إذا قلت: لا إله إلا الله استحضرت أن ربك هو الإله الحق، أنه الذي تألهه القلوب محبة وخضوعا وخوفا وخشية وإخباتا وإنابة وتضرعا وتذللا بين يدي الرب سبحانه وتعالى، وله الملك وله الحمد. إذا قلت: لا إله إلا الله وحده لا شريك له اعترفت بأنه المتوحد، وأنه ليس له شريك لا يشاركه أحد في استحقاق العبودية، كما أنه ليس له شريك في ملكه، إذا قلت: له الملك اعترفت بأنه الملك الحق، وأن له الملك الحقيقي. كما قال تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } الملك الحقيقي الذي لا ينازع فيه، والذي ليس كملك المخلوقين؛ فمُلْك المخلوقين- وإن ملكوا الدنيا- مُلْك زائل، وملكهم إنما هو ملك لله؛ فهم وما يملكون تحت تصرف ربهم سبحانه وتعالى. فالذي يأتي بهذا الذكر يعترف بأن الله له الملك، وأن له الحمد، أي هو المستحق للحمد والثناء، وأنه على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض. يستحضر أيضا معاني أسماء الله تعالى الملك القدوس: المقدس يعني: المنزه عن النقائص والعيوب، السلام: الذي بيده تسليم الخلق، وهو من أسمائه السلام، السالم من كل نقص أو عيب، هذا من أسمائه: الملك القدوس السلام، المؤمن: يعني المصدق لعباده، المهيمن: المسيطر على العباد، المهيمن معناه أنهم تحت هيمنته وتحت تصرفه وتحت تقديره وتحت ملكه؛ فهم لا يتصرفون إلا بما أذن لهم به وبما أعطاهم وخولهم وقواهم . وهذا من أسمائه المهيمن، ومن أسمائه العزيز: الذي له العزة الكاملة، والجبار: الذي له الجبروت وله القوة، والمتكبر: الذي له الكبرياء، فإذا ذكر العبد ربه بهذه الأسماء صغرت عنده نفسه، وعظم قدر ربه في قلبه، وتواضع لله سبحانه وتعالى، وشعر بأن هذا التواضع عز له ورفعة، كما جاء في حديث { من تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه } . فإذا تواضع العبد واستكان رفع الله تعالى ذكره ورفع له قدره ورفع له مكانته عاجلا أو آجلا، أما إذا تكبر وتجبر وافتخر واعتز بنفسه، واعتز بما أوتيه من مال وملك ونحو ذلك فإن الله تعالى يذله إما عاجلا وإما آجلا. فهذا اليوم يظهر فيه العباد كلهم تحت ذل الله، تتذلل لربهم سبحانه وتعالى وينكسرون بين يديه؛ حتى يثيبهم، كما جاء في الحديث أن الله يقول: { أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي } . لا شك أيها الإخوة، أن هذا اليوم هو اليوم الذي الوقوف في هذا المكان فيه ركن من أركان الحج، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: { الحج عرفة } ومعناه أن من فاته الوقوف بعرفة فإنه لا حج له، وذكر العلماء أن وقت الوقوف يمتد من طلوع الشمس في اليوم التاسع إلى طلوع الفجر في يوم العيد، من وقف نهارا، أو وقف ليلا فإنه يتم حجه. |