ورفع الأيدي من أسباب إجابة الدعاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: { إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا } فيكثر الإنسان من الدعاء، ويدعو بما يحفظه من الأدعية القرآنية. أدعية القرآن كقوله تعالى: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } إلى آخره وقوله: { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } وقوله: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } إلى آخر سورة البقرة وقوله: { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } وقوله: { رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وقوله: { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } وقوله: { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا } إلى آخر الآيات وقوله: "ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك...." إلى آخرها وقوله: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } إلى آخر الآيات. وغير ذلك من الآيات التي بها دعاء، وهكذا الأدعية التي فيها ثناء على الله كقوله: { اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ } الآيتين، ودعاء إبراهيم بقوله: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } إلى قوله: { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } . وهكذا أيضا يكثر من الدعاء بما تيسر، ويكثر من الثناء على الله تعالى بقوله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ فإن هذا من الثناء على الله تعالى. ومن شغله الثناء على الله أثابه، جاء في الحديث القدسي: { من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين } فهذا ثناء على الله لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ثناء على الله. ولهذا لما أن بعض الرواة ذكر هذا الحديث سأله بعضهم وقال: إن هذا ثناء، وليس بدعاء فكيف جعله دعاء؟ فقال: إن الثناء يقوم مقام الدعاء، واستدل بقول بعض الشعراء يمدح ابن جدعان وكان كريما من أشراف بني تيم من قريش يقول له: أأذكـر حاجـتي أم قـد كفـاني حبــاؤك إن شــيمتك الحبـاء إذا أثـنى عليـك المـرء يومـا كفــاه مـن تعرضــه الثنـاء فهذا شاعر جاهلي يمدح هذا الجاهلي؛ لأنه كان يعطي ولو لم تذكر الحاجة، إذا أثنى عليه أحد أعطاه أكثر مما يعطي غيره، فكذلك ربنا هو الكريم الجواد كريم بعباده، كذلك أيضا جواد واجد ماجد. كما جاء في بعض الأحاديث أن الله تعالى يقول: { أنا الكريم أنا الجواد الماجد عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له: كن فيكون } . فعلى العباد أن يتعرضوا لنفحات الله تعالى، وأن يكثروا من دعائه، وأن يلهجوا بذكره في كل أوقاتهم وفي هذا اليوم خاصة، وأن يكثروا من الثناء عليه ومن ذكره بأسمائه الحسنى وبصفاته العلا، وأن يتعرضوا لنفحاته؛ فإنه سبحانه وتعالى يحب من سأله كما روي في حديث: { إن الله يحب الملحين في الدعاء } الملحين يعني المكثرين من الدعاء. وجاء في حديث: أن الله سبحانه وتعالى يعطي من سأله كما في قوله في الحديث القدسي: { يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم } وفي رواية: { ورطبكم ويابسكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر } . معلوم أن البحر لا ينقصه لو اغترف الناس منه كلهم ما نقص، فكذلك كيف ينقص إذا غمس فيه مخيط ماذا يعلق فيه؟ لا شك عباد الله أن ذلك دليل على كرم الرب سبحانه وتعالى، وأنه يعطي من سأله، وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؛ فإنه لم يغض ما في يمينه، وفي يده الأخرى القسط يخفض ويرفع } . فهو سبحانه يعطي، فيعطي من يشاء، يهب لمن يشاء ما يشاء، وإذا تعرض العباد له تعرضوا لنفحاته، فهو أكرم من أن يردهم خائبين إذا كانوا يدعونه مخلصين كما أمرهم بقوله تعالى: { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فإنه يجيب من دعاه. كما وعدهم بقوله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وعد من الله أن من دعاه فإنه يجيبه إذا تمت الشروط وانتفت الموانع، وأمر بدعائه في السر والخفية فقال تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } . التضرع: هو التواضع، تضرعا يعني: تواضعا وإخباتا وإنابة وخشوعا، وخفية يعني: سرا أخفوا دعاءكم؛ فإنه سبحانه لا تخفى عليه خافية، فهو مجيب الدعوات، وهو مغيث اللهفات، وهو مزيل الشدائد والمكروهات، وهو الذي لا تشتبه عليه اللغات ولا تغلطه كثرة المسائل مع اختلاف اللغات وتفنن المسئولات. يسأله في اللحظة الواحدة مئات الألوف، وألوف الألوف، ولا يخفى عليه منهم خافية، فيعلم سرهم ونجواهم، ويسمعهم ولا يشغله سمع عن سمع، ويراهم أينما كانوا، لا يحجب بصره حجاب، ويسمع جهر القول وخفي الخطاب؛ فيلهج المؤمن بذكر الله سبحانه وتعالى، ويكثر من الدعاء له، ويكثر من ذكره، ويثق بأنه إذا أخلص في عبادته، وأخلص الدعاء له أنه سبحانه لا يرده خائبا؛ بل يعطيه سؤله ويعطيه طلبته، كما وعد بذلك بقوله: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } . روي { أن بعض الصحابة قالوا: يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فقال: إن ربكم قريب } أنزل الله تعالى هذه الآية: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } . فهكذا أمر الله تعالى عباده، يستمر العباد، يستمر الحجاج في ذكر الله سبحانه وتعالى، فيذكرونه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا. وكذلك أيضا يشتغلون بدعائه بما تيسر من الأدعية لهم ولأولادهم ولأهليهم وللمسلمين عموما، وكذلك يتلون كتاب الله ويقرءونه، ويتدبرونه؛ فإن لهم بذلك حسنات، زيادة على تواضعهم وخشوهم وإخباتهم وإنابتهم إلى ربهم. كذلك يبقون هكذا، يستحب أن يكونوا ضاحين كما ذكر في حديث: أن ابن عباس وغيره من الصحابة رأى رجلا قد استظل في آخر النهار فقال له: { اضح لمن أحرمت له } يعني ابرز في الشمس، وابرز في الضحى لا تستظل؛ فكانوا يكرهون أن يستظل. لا شك أيضا أنه جائز الاستظلال عند الحاجة إذا كان هناك شدة حر أو نحو ذلك، ولكن إذا خفت شدة الحرارة حرارة الشمس؛ فإن الإنسان إذا برز ولو استظل مثلا بفيء الخيمة ونحوها فإن ذلك لا يضره؛ فيستقبل القبلة، ويكثر من ذكر الله سبحانه وتعالى، ويلبي يكرر التلبية، وكذلك يذكر الله بقدر ما يعرفه من الأذكار تسبيحا تحميدا وتهليلا وتكبيرا وحوقلة. وكذلك أيضا يكثر من الاستغفار، ويعترف بأنه مذنب، وأن ذنوبه كبيرة وثقيلة وأنه إذا لم يغفر الله تعالى له ذنوبه، ولم يقبل منه دعاءه فإنه يستحق، أو يقع، أو يخاف من العذاب من العذاب الأخروي، أو العذاب الدنيوي. وهكذا أيضا يكثر من الرغبة إلى الله سبحانه وتعالى، يرغب إليه رغبة كاملة، يعمل بقول الله تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } وبقوله تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وبقوله تعالى: { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } الرغب: هو الرغبة التي هي الرجاء، والرهب: هو الخوف والخشية من عذاب الله تعالى؛ ولذلك مدح الله تعالى أنبياءه بقوله: { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } وبقوله تعالى: { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } . الرهب: هو الخوف أي خافوني، فإن اجتمعت هذه الصفات كلها فإن الرب سبحانه وتعالى أكرم من أن يرد عباده خائبين بعد أن أخبتوا لله تعالى وأنابوا إليه. يستمر العباد هكذا -الحجاج- إلى أن تغرب الشمس، فإذا غربت الشمس فقبل أن يُصَلُّوا ينصرفون من عرفة متوجهين إلى مزدلفة هكذا فعل نبينا -صلى الله عليه وسلم- انصرف بعدما تحقق غروب الشمس وغاب القرص. ثم إنهم لما انصرفوا كانوا قد تعبوا؛ وذلك لأنهم وقفوا بعد زوال الشمس وبعد الصلاتين، وقفوا على رواحلهم، وكانوا خاشعين في ذلك، ثم بعدما وقفوا وطال وقوفهم توجهوا إلى مزدلفة في حالة وقوفهم كانوا واقفين على رواحلهم. وهكذا كان الحجاج إلى عهد قريب لما كانوا يحجون على الرواحل إلى حدود سنة سبعين وما قبلها كانوا يحجون على الإبل، وكانوا يقفون عليها، ويذكر لنا الآباء ونحوهم يقولون: إننا إذا وقفنا عليها واستقبلنا القبلة ندعو الله؛ فإن الإبل التي هي هذه البهائم تخشع؛ حتى تهل دموعها، تسيل دموع تلك الدواب التي ليست مكلفة، زيادة على أن أهلها الراكبين عليها يبكون، ويهريقون الدموع خشوعا وخوفا من الله سبحانه تعالى، واعترافا بالذنوب. فإذا انصرفوا بعد ذلك وإذا هم قد سئمو أحبوا أن يسرعوا؛ حتى يصلوا إلى المكان الذي ينيخون فيه رواحلهم، ويريحون فيه أبدانهم بعد التعب، ولكن كان -صلى الله عليه وسلم- يحثهم على السكينة فيقول: { السكينة السكينة؛ فإن البر ليس بالإيضاع } ؛ يعني ليس بالإسراع الشديد، يحثهم على أن يسيروا سيرا هادئا. أما هو -صلى الله عليه وسلم- فذكر أسامة وغيره أنه: { كان يسيرالعنق فإذا وجد فجوة نص } كان قد قبض خطام راحلته ولواه وجرها حتى لا تسرع مع من يسرع، حتى أن رأسها ليصيب المورك، ليصيب طرف الرحل أو أقربه، وإذا جاء إلى فجوة ومتسع أرخى لها وأسرعت، وإذا أتى حبلا من الحبال الرملية المرتفعة أرخى لها حتى تصعد. ولما كان في أثناء الطريق نزل فبال، ثم توضأ وضوءا خفيفا ولم يصل، ثم عاد وركب دابته ثم وصل إلى مزدلفة إذا وصلنا إلى مزدلفة في هذه الليلة- إن شاء الله تعالى- فإننا نقف فيها، وننزل فرشنا، ونصلي الصلاتين المغرب والعشاء، متى ما وصلنا إليها سواء وصل الحجاج في وقت المغرب، أو في وقت العشاء، أو وصلوا متأخرين ولو لم يصلوا إلا في الساعة العاشرة، أو الثانية عشرة يؤخرون ذلك. أما إذا خافوا أنه يفوتهم وقت الصلاة؛ يعني جاء وقت الساعة الثانية عشرة، أو الحادية عشرة وهم في الطريق، وخافوا أنهم يتأخرون، وأنهم لا يصلونها في الوقت فلهم والحال هذه أن يصلوا في الطريق بأن يتركوا في السيارة قائدا يقودها ؛ لأن العادة أن سيرها يكون بطيئا، ثم ينزلون ويصلون ذكورهم وإناثهم، وإذا صلوا ركبوا سيارتهم، ونزل القائد أو من معه وصلوا بعد ذلك، ثم أدركوهم وإذا أَمَّلُوا أنهم يصلون قبل الثانية عشرة فإنهم يؤخرونها حتى يصلوا، ومتى وصلوا بدأوا بالصلاة جمعا وقصرا؛ فيقصرون الرباعية التي هي العشاء ويبيتون فيها. ومزدلفة مشعر من المشاعر ذكره الله قال الله تعالى: { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } . أي ذكرهم الله تعالى بما كانوا عليه من الضلال، أمرهم أن يذكروا الله عند المشعر الحرام الذي هو مزدلفة وتسمى جمعا ذكر بعضهم أنها المذكورة في قوله تعالى: { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا } فإذا وصلوا فيها أكثروا من ذكر الله تعالى وباتوا هناك، فإذا كان في آخر الليل فمن معه ضعفة يخشى عليهم حطمة الناس جاز له أن يرسل الضعفة؛ حتى يرموا آخر الليل. والصحيح أنه يؤذن لهم بعد غروب القمر أي ليلة العاشر، إذا غرب القمر فإنه يؤذن لهم، وأما الأقوياء فإنهم يبقون، وكذلك أيضا تبقى القويات من النساء؛ فقد بقي من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- الكثير ما أذن إلا لسودة ؛ لأنها ثبطة، وكذلك لأم سلمة وأما غيرهن فإنه أبقاهن إلى أن انصرفن معه بعدما أسفر. ولا شك أيضا أن كثيرا من الناس يفيضون آخر الليل، فينصرف الذي معهم امرأة أو امرأتان ولو كانوا أقوياء، ثم بعد ذلك يجدون زحاما، ولا يحصل لهم من هذا التعجل وهذا الانصراف فائدة، يقول كثير منهم: إننا انصرفنا في نصف الليل أو في الثلث الأخير من الليل، ولما وصلنا إلى جمرة العقبة وجدنا زحاما شديدا، لم نستطع أن نرمي، ولم تستطع نساؤنا أن ترمي فقلنا لهم: ما فائدتكم من هذا التعجل إذا كنتم لم ترموا ولم تستفيدوا من هذا التعجل وفاتكم العمل بالسنة الذي هو البقاء كما بقي النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإذا كان كذلك فإن الأولى أنكم تبقون، وتتركون الذين يترخصون ويفوتهم فضل المبيت كله، ويفوتهم فضل الصلاة في مزدلفة وكذلك فضل الذكر بعد الصلاة. النبي -صلى الله عليه وسلم- كان بات في مزدلفة حتى أصبح، وكان أهل الجاهلية لا ينصرفون من مزدلفة إلا بعدما تطلع الشمس على الجبل الشرقي الشمالي الذي يقال له: ثبير وكانوا يقولون: أَشْرِقْ ثبير كيما نغير. خالفهم النبي صلى الله عليه وسلم وأفاض من مزدلفة بعد الإسفار وقبل الإشراق، ولكنه صلى الفجر مبكرا، ثم استقبل القبلة وجعل يدعو عند المشعر الحرام هو ومن معه، وكلهم يكثرون من ذكر الله عملا بهذه الآية : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } استمر يدعو إلى أن أكثروا الجد قبل أن تشرق الشمس فعند ذلك توجهوا إلى منى وكان قد أرسل بعض الشباب مع أولئك النساء وقال لهم: { أي بَنِيَّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس } وهذا دليل على أن الرمي لا يكون إلا بعد طلوع الشمس في حق الأقوياء، وأمرهم بقوله: { لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس } وهكذا أمرهم. أما هو -صلى الله عليه وسلم- فإنه لما أفاض هو ومن معه كان قد أمر الفضل بن عباس أن يلقط له سبع حصيات من مزدلفة لما ركب، فلما أخذها بيده وإذا هي مثل حصى الخذف قال: { بمثل هذه فارموا عباد الله، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين } فلما وصل إلى منى توجه إلى جمرة العقبة ورماها بسبع حصيات مثل حصى الخذف، يكبر مع كل حصاة، ورماها وهو على ناقته. وأما الأيام الأخرى فإنه كان يرميها ماشيا، ويجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه إذا رمى جمرة العقبة، وأما الجمرات الأخرى فإنه يرميها في أية موضع أو من أية جهة. فهذا هو عمل هذا اليوم الذي هو يوم عرفة، وهذه الليلة الآتية إن شاء الله. "الحكم إذا كان العيد يوم الجمعة" وأما عمل يوم العيد والأيام التي بعده فسوف نذكره إن شاء الله في الأيام القادمة يوم العيد يوافق يوم الجمعة في هذا الشهر. وكان قد اختلف العلماء هل تسقط الجمعة عن الذين يصلون العيد أم لا؟ وذلك لأنه ورد أحاديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص لمن شهد العيد ألا يبقوا إلى الجمعة، ولكن كان الذي رخص لهم كانوا يأتون من مكان بعيد من العوالي، ومن أقصى المدينة . فكانوا يأتون لصلاة العيد يمشون من بيوتهم آخر الليل، ويسيرون نحو ساعتين إلى أن يصلوا إلى مصلى العيد، وإذا صلوا العيد فإنهم للضرورة يرجعون إلى بيوتهم، عيد الفطر يأكلون مما يعدونه، ويسلم بعضهم على بعض، وعيد النحر ينحرون أضاحيهم؛ فرخص لهم، وعلم أن عليهم مشقة ؛ لأنهم لو كلفوا أن يأتوا إلى الجمعة لكانت المسافة أيضا ساعتين إقبالا وساعتين رجوعا، فيكونون في ذلك اليوم يمشون على أرجلهم ثمان ساعات ساعتين للعيد مجيئا وساعتين رجوعا، وساعتين للجمعة مجيئا وساعتين رجوعا، وفي ذلك مشقة، وأما الذين حوله فإنه جَمَّعَ بهم؛ ولأجل ذلك قال: إنا مجمعون. فنقول: إنما تسقط الجمعة عن الذين يأتون من مكان بعيد من مسيرة ساعتين، أو ساعة ونصف ولو كانوا راكبين على سيارة، فأما إذا كان المسجد قريبا أي مسيرة عشر دقائق على السيارة، أو عشرين، أو نصف ساعة سواء على الأرجل أو على السيارة فإننا نرى أنها لا تسقط الجمعة؛ وذلك لأنا عرفنا في القرى قبل خمسين أو ستين سنة أهل القرى يأتون من أماكن بعيدة على أرجلهم، وبعضهم يركب. ..فأما إذا كانت مساجد الجمعة قريبة منهم فنرى أنها لا تسقط، أما الحجاج فمعروف أيضا أنهم مسافرون، والمسافر ليس عليه جمعة ولكن إذا كانت الجمعة أو المصلى قريبا كمسجد الخيف ونحوه وصلى فيه الإمام وخطب، أو ذهب بعضهم إلى صلاة العيد أو صلاة الجمعة في الحرم المكي فإن ذلك جائز، ويجزئهم عن صلاة الظهر وعن صلاة العيد. ومعلوم أيضا أن الحجاج ليس عليهم صلاة عيد؛ وذلك لأنهم منشغلون في يوم العيد بالرمي وبالحلق وبالتقصير وبالإفاضة وبالنحر ونحو ذلك. "مجمل أعمال الحاج يوم العيد وأيام التشريق" ثم نقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رمى الجمرة ونحر هديه كان معه مائة بدنة فنحر منها ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليا ونحر ما بقي، ثم بعد ذلك دعا الحلاق، وحلق فحلق نصف رأسه الأيمن وأعطاه أبا طلحة ثم حلق النصف الثاني وأعطاه أبا طلحة وقال: فرقه على الناس، يعني أنهم يحبون أن يتبركوا بشيء من شعره، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم. ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- رَغَّبَ في الحلق وأكد عليه وقال: { رحم الله المحلقين قالوا: يا رسول الله والمقصرين فقال: رحم الله المحلقين فقالوا: يا رسول الله والمقصرين فقال: رحم الله المحلقين فقالوا: يا رسول الله والمقصرين قال: والمقصرين } فدعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة، وهذا دليل على فضل الحلق. وما ذاك إلا أن الحلق أتم في الامتثال، الإنسان قد يقول: إني بحاجة إلى بقاء هذا الشعر؛ لأستظل به أو لأتجمل به، فإذا حلقه كله دل ذلك على الامتثال، الله تعالى حرم الحلق لما كان الإنسان محرما في قوله تعالى: { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } ثم أباحه بعد التحلل في قوله تعالى: { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } وهذا دليل على أنه يجوز الحلق والتقصير ولكن حيث إن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- حلق رأسه؛ فإن ذلك دليل على فضل الحلق. وكذلك كرر الدعاء للمحلقين بالمغفرة أو بالرحمة ثلاثا، ودعا للمقصرين بواحدة، وذلك دليل على أنه حصل بذلك التحلل، حصل التحلل بالحلق أو بالتقصير، فإذا حلقوا بعدما رموا الجمرة فإنهم يكونون قد تحللوا، ويسمى التحلل الأول فيحل له كل المحظورات إلا النساء. يحل لهم الحلق والتقصير، ويحل لهم قص الشعر من الإبط، أو من العانة أو الشارب أو نحو ذلك، وكذلك يلبسون لباسهم ويغطون رءوسهم ويتطيبون ويبقى عليهم ما يتعلق بالنساء، أي لا يتزوج أحدهم ولا يزوج؛ لقوله عليه السلام: { إن المحرم لا يَنْكح ولا يُنْكِح ولا يخطب } . وكذلك يحرم عليه مباشرة النساء ووطئهن والتقبيل وما أشبه ذلك، حتى يفعل الثالث الذي هو الطواف بالبيت والسعي لمن كان عليه سعي، فإذا طافوا وسعوا حلت لهم المحظورات كلها، ولكن يبقى عليهم أعمال يوم النحر، أو أعمال أيام التشريق يقيمونها في مواقيتها، وبذلك يكونون قد أكملوا حجهم إن شاء الله. نسأل الله تعالى أن يتقبل منا نسكنا، ونسأله سبحانه أن يقبل منا أعمالنا نقول: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } واعف عنا وعافنا واعف عنا، وأكرم نزلنا، ووسع مدخلنا يا رب العالمين . { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. |