ذكرنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرع لأمته هذه المناسك وعلينا أن نتبعه، وأن الله تعالى أمرنا بإحياء الذكر في هذه المشاعر والإكثار منه، ومن ذلك قوله تعالى: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } فمن الذكر: الدعاء، وهو مرغب فيه مطلقا في كل الحالات، ولكن في هذه الحالات أولى؛ يعني أن الإنسان عليه أن يجتهد في هذه الحالات، وفي هذه المشاعر المقدسة يجتهد في الدعاء، يحرص على أن يدعو الله تعالى بما يقدر عليه، يدعو الله بأسمائه الحسنى، وبصفاته العلا، ويتوسل إليه. يتوسل إليه بكل اسم من أسمائه، ويسأله به، يقول: أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أو يقول: أسألك باسمك العظيم، وباسمك الأعلى، وباسمك الغفور، وباسمك الرحيم، وما أشبه ذلك؛ فلعل ذلك يكون وسيلة، وسببا في قبول الدعوات سيما في هذه المشاعر المفضلة. كذلك أيضا نقول: إن على الإنسان المسلم أن يكون مجتهدا في إحياء السنة؛ سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن ذلك إتمام ما بقي. بقي علينا في هذه الأيام: أولا: المبيت بمنى ؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو وصحابته باتوا في منى ولم يتحولوا منها إلا أنه يدخل مكة بعض الذين لهم حاجة؛ كحاجة شراء غرض أو نحو ذلك، أو الذين يفيضون؛ ليطوفوا بالبيت الطواف الذي هو طواف الإفاضة، ويسعوا سعي الحج، وإلا فإن جميع الحجاج بقوا بمكة إلا السقاة والرعاة للإبل. رخص للعباس -وكان صاحب السقاية- أن يبيت بمكة ؛ وذلك لأنه ينزع الماء من بئر زمزم ويصبه في الحياض ليشرب الذين يدخلون المسجد للطواف والسعي؛ فأسقط عنهم المبيت. وكذلك الرعاة؛ الذين يذهبون لرعي الرواحل. الناس كانوا يحجون في ذلك الوقت على الإبل، والإبل بحاجة إلى رعي، فيخرج بها الواحد معه عشرون بعيرا، أو خمسون يذهب بها إلى المرعى ويفوته المبيت بمنى ؛ فهؤلاء سقط عنهم المبيت للعذر، وقد يلحق بهم في هذه الأزمنة الذين عندهم مناوبات لا يقدرون على تركها. خفارات مثلا، أو نحو ذلك، كالذين مثلا يلازمون عملا في مستشفيات، أو في حراسة، أو ما أشبه ذلك، فمثل هؤلاء يسقط عنهم المبيت، أما البقية فعليهم أن يبيتوا. وكذلك أيضا هذه الأيام يبقى الناس فيها ليلا ونهارا لا يخرجون منها؛ وذلك لأنها تسمى أيام منى أيام منى هي مثل هذه الأيام، أيام منى الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر فإذا بقي الحجاج فيها عمروها بما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- { أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله - عز وجل - } فعلينا ألا نبرح في هذه الأماكن، أن نبقى فيها إلى أن تنتهي تلك الأيام، التي هي أيام الحج. أباح الله تعالى من التعجل في اليوم الثاني عشر بقوله تعالى: { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى } فأباح أن الحجاج يبقون في منى فيتعجل بعضهم في اليوم الثاني عشر، ويتأخر بعضهم إلى اليوم الثالث عشر. تعجل بعض الصحابة، وبقي بعضهم. النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ممن تعجل؛ بل بقي ورمى في اليوم الثالث عشر. ولا شك أن هذا أفضل؛ وما ذاك إلا أنه أكثر عملا، فإن الذي يقيم يقوم ذلك اليوم، يبقى ذلك اليوم وتلك الليلة؛ يعني آخر اليوم الثاني عشر، وليلة الثالث عشر، واليوم الثالث عشر إلى الظهر، أو إلى ما بعد الزوال، ويتزود أيضا برمي الجمار الثلاث في اليوم الثالث عشر، فيكون بذلك قد زاد عملا فهو أفضل من الذي يتعجل في يومين. اشترط العلماء أن الذي يتعجل في يومين يخرج من منى قبل أن تغرب الشمس؛ شمس يوم الثاني عشر يرمي بعد الزوال ثم يخرج. وهناك رخصة لبعض العلماء في الرمي قبل الزوال؛ وذلك أنه روي عن الإمام أحمد -رحمه الله- ثلاث روايات: رواية: أنه لا يرمي إلا بعد الزوال، ورواية: أنه يجوز أن يرمي قبل الزوال ولا يخرج إلا بعد الزوال، ورواية: أنه يرمي قبل الزوال ويخرج قبل الزوال. ولعل هذه الروايات لا يعمل بها إلا في حق إنسان عنده ضرورة؛ بمعنى أنه يخشى فوت رفقة، أو فوت رحلة أو نحو ذلك. إذا كانت القافلة -مثلا- أو الباخرة، أو الطائرة الرحلة عندهم موعد في الساعة الثانية ظهرا، وعليه طواف الوداع فيشق عليه أن يرمي في الساعة الثانية عشرة والنصف، ثم بعد ذلك يصل إلى البيت ثم يطوف مع كثرة الزحام؛ فيتعوق وتفوته الرحلة فله رخصة أن يرمي في الحادية عشرة، أو في العاشرة والنصف، أو ما أشبه ذلك، إذ يكون ذلك سببا في تأخير ما يفوته. وأما إذا لم يكن له عذر، أو كان ممن يقيم في اليوم الثاني عشر فيرمي الثالث عشر فليس له أن يرمي إلا بعد الزوال. بالنسبة إلى التوكيل. يجوز التوكيل: للمريض والعاجز إذا كان إنسان كبير السن، يخشى حطمة الناس وكَّل من يرمي عنه، وكذلك المرأة المريضة، أو الكبيرة، أو الحامل، أو المرضع التي لا تقدر على أن تذهب بولدها، ولم يكن هناك من يمسكه وهو رضيع؛ فإن هؤلاء يجوز لهم أن يوكلوا. الوكيل إذا ذهب يرمي فإنه يبدأ بنفسه فيرمي عن نفسه سبعا في الجمرة الأولى ثم يأخذ الجمار موكله فيرمي السبعة، وهو في مكانه عن موكله. أي في الجمرة الأولى ثم يذهب إلى الوسطى فيرميها بسبع عن نفسه، ثم بسبع عن موكله، ثم يذهب إلى العقبة ثم يرميها بسبع عن نفسه، وبسبع عن موكله. من السنة بعد رمي الجمرتين: الأولى، والوسطى أن يدعو، أن يبتعد عن الزحام، ويستقبل القبلة ويرفع يديه، ويدعو بما تيسر. ذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو حتى قيل: إنه دعا بقدر سورة البقرة؛ يعني من إطالته دليل على أنه أطال في الدعاء، ولكن يدعو بما تيسر. كذلك أيضا بالنسبة إلى ما بقي عليه. يبقى عليه طواف الوداع، ولا شك أنه مأمور به إلا أنه يخفف عن الحائض؛ لأنها قد تحبس أهلها سيما إذا كانوا من بلاد بعيدة، فيشق على محرمها أن يبقى معها، ويشق عليها أن ترجع بعد ذلك فسقط عنها طواف الوداع، وأما غيرها فلا بد من طواف الوداع، إلا أنه قد يجوز الرجوع إليه، قالوا: إنه إذا سافر، ووصل -مثلا- إلى مسافة قصر شق عليه الرجوع؛ فلأجل ذلك لا يرجع ويلزمه فدية. وأما إذا كان أقل من مسافة القصر فإنه يرجع. وأفتى بعض المشايخ: أن الحجاج من جدة لهم أن يؤخروا الوداع. أي لهم أن يذهبوا في اليوم الثاني عشر، أو الثالث عشر، ويرجعوا في اليوم الرابع عشر، أو الخامس عشر، أو السادس عشر ويودعوا، وما ذاك إلا لعدم المشقة من رجوعهم لقرب المكان؛ ولأن جدة قد أصبحت قريبة من مكة امتدت مكة نحوها، وامتدت جدة نحوها، فأصبحت أقل من مسافة القصر. ولو أنهم ذهبوا إلى ديارهم، أو إلى بلادهم يعتبرون كأنهم في طرف، أو في مكان قريب، فإذا ذهبوا وبقوا هناك -مثلا- يومين حتى تخف الزحام صاروا كمن سافر مسيرة يومين؛ لأن الذي يقطع مسيرة يومين على الإبل يرجع، أو يوما ونصف يرجع مسيرة يومين، ثم يرجع أيضا مسيرة يومين؛ فيكون ذهب مسيرة يومين، ثم رجع يومين إلى مكة ثم رجع إلى بلده، فهذه أربعة أيام يقطعها، فأما مثل هذا فإنما يقطع ساعة؛ يعني وإن كان يقيم عند أهله. وأفتى أيضا بعض المشايخ: بأن أهل جدة إذا أحرموا من جدة بالعمرة، ثم بعدها رجعوا إلى بيوتهم، ثم أحرموا يوم التروية بالحج من بيوتهم أنها تسقط عنهم الفدية. أي دم التمتع. وكانوا في الزمن القديم بينهم وبين مكة مسيرة يومين على الإبل فيعدونها مسافة قصر، وأفتاهم قبل نحو أربعة وخمسين سنة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- بأنه لا دم عليهم إذا أحرموا بالعمرة -مثلا- من الميقات، أو من جدة ثم بعد ذلك أنهوا عمرتهم، ما زالوا في جدة وبقوا فيها إلى اليوم الثامن، ثم أحرموا بالحج، ثم دخلوا مكة سقط عنهم الذبح؛ لأنهم سافروا بين الحج والعمرة مسافة قصر، أو رجعوا إلى بلادهم، وهكذا أيضا سائر البلاد. لو أن إنسانا من الرياض جاء، وأحرم بعمرة، وأنهاها في اليوم الخامس، ثم رجع إلى الرياض وأقام فيها، ثم جاء في اليوم الثامن، وأحرم بالحج سقط عنه دم التمتع؛ وذلك لأنه لم ينتفع حيث سافر للحج سفرا مستقلا، وسافر للعمرة سفرا مستقلا فسقط عنه الذبح. فالحاصل أن طواف الوداع يعتبر واجبا من الواجبات، لا يسقط إلا عن الحائض والنفساء والظعن، وأما بقية الحجاج فإن عليهم أن يكملوا حجهم بهذا الطواف؛ الذي هو طواف الوداع، وقالوا أيضا: إن من أخر طواف الإفاضة أخره، ثم طافه لما عزم على السفر، فإنه يكفيه عن طوافين: عن الوداع، وعن طواف الإفاضة، ولو سعى بعده؛ لأن السعي بعده لا يعتبر فاصلا، ولا يعتبر شيئا كثيرا. كذلك أيضا إذا طاف للوداع فإنه يسافر بعده، ولا ينشغل بشيء كمن أنشأ. فلو مثلا أنه طاف للوداع بعد العشاء، ثم بات تلك الليلة ولم يخرج من مكة إلا بعد الصباح فعليه وداع ثانٍ؛ لأنه لم يكن آخر عهده بالبيت . وكذلك أيضا لو اتجر، اشترى سلعا للتجارة فإنه أيضا يعتبر ما كان آخر عهده بالبيت . أما إذا اشترى بعد الوداع شيئا لحاجته؛ يعني من الحاجات المعتادة ففي هذه الحال نرى أنه لا يكون ذلك ملزما له بأن يودع مرة أخرى. الحاصل أن هذه هي أعمال الحج، وهي واضحة، والحمد لله، ومتكررة على المسلمين يحافظ المسلم عليها، ويحرص على أن يكون عمله كاملا ونسكه كاملا؛ ليكون مقبولا ومثابا عليه إن شاء الله. نتوقف هنا، ونسأل الله -عز وجل- أن يقبل منا سعينا وعملنا، وأن يضاعف لنا الأجور، ويرفع لنا.. ويمحو خطايانا، ويغفر لآبائنا وأمهاتنا، ويعم لنا بالمغفرة والرحمة كل من أوصانا، وكذلك يغفر لجميع إخواننا المسلمين إنه على كل شيء قدير. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد . |