الصحيح أن الحج على الفور، وإذا قيل: لماذا أخَّر النبي صلى الله عليه وسلم الحج إلى سنة عشر؟ فالجواب: أنه لم يتمكن؛ وذلك لأن المشركين كانوا قد تولوا على البيت، توجه في سنة ست مُحرما يُؤمل أن يدخله بعمرة، ولما جاء إلى الحديبية صرفوه وقالوا له: لا يمكن أن تدخل وتعرف العرب أنا أخذنا ضغطة؛ فتحلل وهو بالحديبية نزل في ذلك قول الله تعالى: { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } ولكنهم صالحوه على أن يأتي من العام القابل في سنة سبع، وأن يعتمر، وألا يقيم بمكة أكثر من ثلاثة أيام، فامتثل ذلك. ففي سنة سبع جاء في شهر ذي القعدة وأدى عمرته فقط، ولم يمكنوه من أن يزيد على ثلاثة أيام؛ فانصرف بعد ثلاثة أيام في شهر ذي القعدة، ولما كان في سنة ثمان فتح الله تعالى عليه البلد، فتح عليه مكة لما جاء بعد أن نقض المشركون العهد، جمع المسلمين في عشرة آلاف ودخل مكة وفتحه الله، وذلك هو قوله تعالى: { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } وقيل: إنها المراد من قوله تعالى: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } . { فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } ؛ لما فُتحت مكة في رمضان في سنة ثمان بقي في مكة إلى أن مضى جزءا من شهر شوال، ثم إنه غزا هوازن في حنين وهزمهم، وكذلك واصل السير بمن معه إلى الطائف وحاصروا الطائف ودام الحصار نحو أربعين يوما وهم محاصرون الطائف ولم يستسلم أهل الطائف وبقوا متحصنين بحصونهم، ثم رجع إلى الجعرانة واعتمر من الجعرانة في أول شهر ذي الحجة -أو في آخر ذي القعدة- واشتغل بقسم غنائم حنين ولم يتمكن من الحج في ذلك الزمان وحج المشركون. وفي سنة تسع أسلم من حول المدينة ومن حول أهل مكة وأسلم أيضا أهل الطائف وأسلم العرب الموالي اللذين في نجد وفي الحجاز ولما أسلموا كان كثير منهم على عاداتهم، وبقي بعضهم لم يسلم، أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر أميرا على الحج في سنة تسع، وأردفه بعلي وأردفه أيضا ببعض الصحابة، وأمرهم أن ينادوا في منى وفي عرفة وفي المزدلفة وفي المشاعر أن يقرءوا أول "سورة براءة" { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } ؛ فكانوا ينادون: لا يحج بعد هذا العام مشرك؛ لأن الله نهى عن أن يحج المشركون أو يدخلوا البيت، ولا يطوف بالبيت عريان. وكانوا يطوفون في الجاهلية عراة إذا لم يتيسر لهم كسوة من أهل مكة ؛ فأمرهم بأن يمحوا تعاليم الشرك، وما كان أهل الشرك يعملونه حتى تنظف البيت وتنظفت مكة وزال ما فيها من آثار الكفر، ومن آثار الشرك؛ فعند ذلك حج النبي -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع وحج معه المسلمون كلهم، قيل: إنهم بلغوا مائة وأربعين ألفا -يعني تقريبا- الذين حجوا في ذلك العام، ولما حجوا أخذ يعلمهم -صلى الله عليه وسلم- مناسك الحج التي هي مجملة في القرآن؛ يعلمهم ويقول: { خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعدها. } وكأنه أشعره الله وأوحى إليه أن هذه آخر سنة يعيشها؛ ولأجل ذلك مات بعدها ببضع وثمانين يوما. دل ذلك على أنه ودَّع، الناس لما حج سميت حجة الوداع؛ لأنه ودع فيها الناس، بيَّن لهم مناسكهم. |