لا شك أن ذلك كله مما أمر الله تعالى به، ومما نعرفه من كل المسلمين المؤمنين، ولا شك أيضا أن المؤمن لا يجوز له الافتخار بعمله، ولا الإعجاب به ولو عمل ما عمل، ولو فعل ما فعل من القربات، بل عليه أن يحتقر عمله مهما كثر، وعليه أن يكثر من الابتهال إلى الله تعالى في أن يضاعف له الأجر والثواب، وإذا لم يفعل؛ خيف عليه أن يحبط عمله؛ فإن الإعجاب يحبط العمل. ورد.. الإعجاب بالعمل قد يكون سببا في إحباطه كون الإنسان يمدح نفسه فيقول: إني أحج كل سنة، وإني قد عملت كذا وتصدقت بكذا. هذا الإعجاب كأنه يمدح نفسه، ويدلي على الله تعالى بعمله، فلا يكون بذلك مقبولا، بل قد يكون عمله مردودا أو حابطا. قرأت في رسالة الأمام أحمد التي في الصلاة، ذكر قصة عن إبراهيم الخليل عليه السلام، أنه قام ليلة يصلي حتى أصبح، ولما أصبح قال: نعم الرب رب إبراهيم ونعم العبد إبراهيم – كأنه أعجب بقيامه هذه الليلة فقال نعم العبد إبراهيم وفي ذلك شيء من تزكية النفس- لما أصبح وهيأ طعامه، خرج يلتمس أضيافا، فجاءه ملكان في صورة رجلين، فقال: هلما إلى الطعام، هلما إلى الغداء، ولما استجابا له قال: هلما إلى هذا المكان الذي فيه ماء حتى نأكل ونشرب. لما جاء إلى ذلك المكان وجد الماء قد يبس والعين قد نضبت؛ فشق ذلك عليه؛ فقال له أحد الملكين أو قال له الملكان: ادع ربك يا إبراهيم حتى يعيد هذا الماء، فدعا ودعا ولم يستجب له، فشق ذلك عليه، فقال للملكين: ادعوا ربكما، فدعا أحدهما فنبع الماء، ودعا الثاني أيضا فجرى الماء إلى أن وصل إليهما، فقال الملكان: يا إبراهيم إن إعجابك بعبادتك سبب عدم قبول دعوتك. إن الإنسان لا يعجب بعمله ولا يفتخر بما عمل، ولو عمل أي عمل فإن ذلك قليل بالنسبة إلى ما يجب عليه لربه سبحانه. فإن نعم الله علينا كثيرة والإنسان لا يزكي نفسه؛ ولذلك قال الله تعالى: { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } . أي لا تمدح نفسك، ولا تقل: أنا التقي أنا النقي أنا المطيع أنا العامل أنا الذي عملت كذا، وتصدقت بكذا، وصليت كذا وحججت كذا واعتمرت كذا وكذا، بل اعلم أن عملك قليل، ولو عملت ما عملت أن ذلك قليل بالنسبة إلى ما يجب على العبد لربه سبحانه وتعالى. فإنه ورد أن هناك ملائكة منذ خلقهم الله وهم سجود أو ركوع إلى أن تقوم الساعة، وإذا قامت الساعة؛ قالوا لله تعالى: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك غير أنا لم نشرك بك شيئا. سبحان الله! منذ أن خلقوا وهم ركوع أو سجود ما رفعوا رءوسهم إلى يوم القيامة، ومع ذلك يستقلون أعمالهم. وكذلك أيضا ورد أنه لو أن إنسانا عمِّر عمر نوح أي ألف سنة أو قريبا منها وقطعه في سجدة واحدة لاحتقر ذلك يوم القيامة لما يرى من عظمة ربه، ولما يرى من عظم حق الله عليه، ولما يرى من كثرة نعم الله سبحانه وتعالى، فإن كل نعمة من نعم الله تعالى تستدعي حقا على العبد لربه سبحانه وتعالى. كما روي أنه يؤتى برجل قد عمل أعمالا أمثال الجبال من الحسنات، فيقول الله: أدخلوه الجنة برحمتي فيقول: يا رب أليس ذلك بعملي؟ ألا أستحق الجنة بأعمالي هذه؟ فيقول الله تعالى: حاسبوا عبدي، فإذا حوسب قال الله تعالى: لنعمة البصر: خذي حقك من أعماله، ولنعمة السمع خذي حقك، ولنعمة العقل خذي حقك، ولنعمة القوة خذي حقك؛ فلا يكاد يبقي له من أعماله شيء، فيقول الله: أدخلوه النار، فيقول: يا رب بل أدخلني الجنة برحمتك. وأدل من ذلك ثبت أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال: { لن يدخل الجنة أحدكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل } . هكذا أخبر بأنه مع كونه صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الأمة يرجو رحمة الله تعالى، ويؤمل أن يرحمه وأنه لا يدخله عمله الجنة ولو عمل أي عمل. قد عرف أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العبادة، وقد غفر الله له ما تقدم له من ذنبه وما تأخر، كما قال تعالى: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } . ومع ذلك قام على قدمه الشريف حتى تفطر كان يقوم الليل يقوم الليل كله أو جله يصلي في كل ليلة خمس ساعات وقد يصلي ثماني ساعات في كل ليلة، ويطيل القيام حتى تفطرت قدماه من طول القيام؛ يعني حتى تشققت أطراف قدمه، فقيل له أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول: { أفلا أكون عبدا شكورا. } . يعني أن هذا من شكر الله على عبده، وأن العبد كلما كان أفضل؛ كانت العبادة عليه أشد وأكثر وأولى أن يكثر من العبادة، فإذا كان الإنسان قد شرفه الله، وجعل له نسبا رفيعا فإن حق الله عليه أكبر، كالأنبياء الذين فضلهم الله تعالى على عباده، عباداتهم أكثر من عبادات نشاهد أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان يسرد الصيام، كان يصوم صياما متتابعا حتى يقولوا لا يفطر ثم يفطر أيام متتابعة ليتقوى بها. وكذلك أيضا كان يجاهد في كل شهر، أو في كل شهرين، أو في كل ربع السنة يغزو أو يخرج في سرية أو في غزوة، ويعرض نفسه للقتل فيتعرض.. أمام المشركين ولكنه واثق بأن ربه سبحانه وتعالى سينصره مع ما في الجهاد في ذلك الوقت من الشدة ومن المشقة، ومن قطع المسافات الطويلة لأجل قتال المشركين ما ملَّ من ذلك ولا تعب ولا سئم، بل يلتذ بذلك. ومع ذلك فإنه كان أيضا يصلي وهو راكب على بعيره إذا كان في سفره إذا كان متوجها إلى جهة فإنه يصلي في الليل يتهجد أو يوتر وهو على ظهر دابته، كل ذلك حرصا على أن يكون من العابدين ومن الذاكرين الشاكرين. وكذلك أيضا ما ذكر أنه زهد في زينة الدنيا، وكانت الدنيا لا تقوم عنده ولا تقعد، ولا قدر لها، وكان عمله للآخرة، لم يهتم بزخرف الدنيا ولا بزينتها، عرضت عليه الدنيا فأباها، وعرض عليه أن تكون له جبال مكة ذهبا، ولكنه امتنع عن ذلك واختار أن يجوع يوما ويشبع يوما. كان إذا أكل أول النهار لم يأكل آخره، وإن أكل آخر النهار لم يأكل أوله، أو كان يجوع يوما ويشبع يوما. يوم يشبع فيه فيأكل ما يسد رمقه وحاجته، ويوم يجوع فيه يقول: { أختار أن أجوع يوما وأشبع يوما، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك } . هذه حالته وهو سيد الخلق، ومع ذلك فإنه يحتقر عمله ويقول: { إنه لا يدخله عمله الجنة } بل إنه يخشى من العذاب، يخشى من عذاب الله يخشى من عذابه لعنه عليه، ويعرف أن ربه إذا لم يرحمه ولم يتغمده برحمته فقد لا يدخله الجنة، ولكنه واثق بأن رحمة الله تعالى واسعة. كثير من الناس يصرون على المعاصي ويتركون الطاعات، ويقولون: إننا مسلمون، وإننا نرجو رحمة الله، وإن رحمة الله واسعة، فرحمة الله واسعة، ويقولون لمن ينصحهم: لا تقنطوا الناس من رحمة الله. الجواب أن نقول لهم : إن ربنا سبحانه واسع الرحمة، ولكنه مع ذلك شديد العقاب؛ ولأجل ذلك دائما يجمع بين آيات الرجاء وآيات الخوف؛ حتى يكون المسلم جامعا بينهما في حالاته كلها يقول: الله تعالى: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } لما ذكر أنه غافر الذنب ذكر بعد ذلك أنه شديد العقاب؛ حتى لا يتعلق بعض الناس بالمغفرة ويتناسون شدة العقاب، وكذلك أيضا قول الله تعالى: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } أي لا تعتقد أنه دائما يغفر، .. فإنه يغفر ولكن لمن استغفره من أهل المغفرة، ومع ذلك فإنه يتوعد من عصاه بشدة العقاب، وهكذا قول الله تعالى: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . |