فهكذا يكون المؤمن يستسهل الصعوبات في سبيل الحصول على طاعة الله تعالى. كما أنهم يبذلون أنفسهم في الجهاد رخيصة في سبيل الله تعالى، إذا أمرهم الله تعالى بالجهاد وقتال المشركين هانت عليهم أنفسهم في سبيل نصر الله تعالى؛ فيَـقتلون ويُـقتلون وذلك وفاء بما أمرهم الله به في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ } بدأ بالأنفس { أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ } . فأخبر بأنه اشترى منهم أنفسهم لما أنهم أطاعوا ربهم. فهم في كل عبادة يحبها الله تعالى يفدون دينهم بأنفسهم، وبكل ما يملكونه. إذا عرض لأحدهم فتنة قدم فيها المال. فإذا تجاوزت المال قدم فيها النفس على الدين. لا يبذل دينه؛ بل يتمسك بدينه ولو ذهب ماله، ولو ذهب أهله، ولو ذهبت نفسه. لا شك أن ذلك دليل على أن دين الإنسان وعقيدته وعبادته أرفع شيء عنده وأمكن شيء، وأن لها مكانة ولها قيمة رفيعة؛ ولأجل ذلك لا يمكن أنه يتنازل عن دينه، ويبدل دينه بدين غيره من الأديان المنسوخة؛ لأنه يعرف أن ربه يسخط عليه، وأنه يعاقبه في دنياه وفي أخراه. نقول هذا تهنئة لكم أيها الحجاج، وأيها العمار. هنيئا لكم هذه الأعمال الصالحة ونقول لكم: تفقدوا أنفسكم هل تجدون راحة وطمأنينة وشوقا ومحبة لهذه الأعمال؟ هل ظهر منكم فرح، وسرور، واغتباط بعد أن وفقكم الله، ويسر لكم السبل، ووصلتم إلى هذه المشاعر التي هي مشاعر لهذه العبادات؟ فإذا كنتم فرحتم بذلك، وسهل عليكم مفارقة أهليكم، ومفارقة أولادكم، ومفارقة أموالكم، ومساكنكم، وأماكن راحتكم سهلت عليكم في سبيل إظهار دين الله وعبادته فإن ذلك علامة الخير، وعلامة القبول أن الله تعالى يقبلكم، ويخلف عليكم ما أنفقتم من مال. وكذلك أيضا يخلف على من أنفق على هذه الجماعات ونحوها، ويضاعف له الأجر إن شاء الله تعالى. فإذا كان المسلم قد اغتبط بذلك فإنه من الذين يرجى قبول دعائهم، وقبول أعمالهم. كثير من الناس يحجون ويعتمرون مجرد عادة. كأنه شيء اعتادوه؛ فيقولون: لا نقطع هذه العادة. ولم يكن الدافع لهم هو الأجر والثواب والتماس الثواب عند الله تعالى. فمثل هؤلاء لا يظهر فرحهم وسرورهم وابتهاجهم بهذه الأعمال. وكثير من الناس يحملهم على ذلك الفخر والرياء والسمعة بحيث إن أحدهم يتحدث في الأماكن فيقول مفتخرا: إني أحج كل عام يريد أن يمدحوه، ينتشر له ذكر، أو يحب أن الناس يمدحونه وينشرون له سمعة حسنة بينهم أنه كثير الحج، وأنه كثير التردد إلى مكة للحج والعمرة، أو ما أشبه ذلك. وهذا أيضا مما يفسد عليه عمله، ومما يحبطه فإن ربنا -سبحانه وتعالى- يقول في الحديث القدسي: { أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه } ويقول للذين يراءون بأعمالهم: "اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون فانظروا هل تجدون عندهم من ثواب أعمالكم شيئا"؟. أما إذا كانت نيتك أن تؤدي هذه المناسك، وأن تطلب من الله قبولها، وأن يثيبك على عملك فإنها نية صالحة تشتمل على أعمال صالحة يرجى قبولها، ويرجى مضاعفتها. فأنت أولا فارقت أهلك لهذا القصد، فارقت بلادك وأولادك وأموالك ومستقرك وأمنك. هذه المفارقة فيها مشقة؛ ولكنها سهلة يسيرة إن شاء الله على من أراد وجه الله والدار الآخرة. كذلك أيضا اغتبطت بهذا اللباس، لباسك هذا الذي هو يميز المتعبد من غيره، يميز المحرم من غيره هذا اللباس، تركت مألوفاتك، تركت تغطية رأسك، وتركت لبس القمص والسراويلات والفانلات والمشالح والعباءات وما أشبهها مما أنت تألفه، وارتديت بهذا اللباس الخاص. لا شك أنه ما حملك على ذلك إلا إرادة وجه الله تعالى، وأن تتبع الشريعة التي هذا من شعائرها. كذلك أيضا نويت الدخول في النسك، وتجنبت المحظورات التي كانت مألوفة، امتنعت عن زوجتك، وعن النساء، وكذلك عن الطيب والرفاهية، وعن النظافة بحلق الشعر أو بتقليم الأظفار. كل ذلك امتثالا لأمر الله، ومحبة لما جاء به الشرع. لا شك أنك إذا نويت بذلك العمل الصالح، والأجر والثواب فإن ذلك مما يضاعفه الله، ومما يثيبك عليه. كذلك أيضا تتقرب برفع صوتك بالإهلال قائلا: لبيك اللهم لبيك، مجيبا لدعوة الله تعالى على لسان خليله إبراهيم لما أمره بذلك بقوله: { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } يعني: أعلن الناس بالحج ونادهم فأنت مجيب لذلك بهذه التلبية؛ تقول: لبيك يا رب أي: أنا مجيب لدعوتك، وأنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة. كذلك أيضا تتقرب إلى الله تعالى بالطواف بذلك البيت البيت الحرام تمتثل قول الله تعالى: { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وتمتثل قول الله تعالى: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } . لا شك أن هذا كله من الأعمال الصالحة. عندما تطوف بهذا البيت تتذكر أن هذا بيت الله الذي أضافه إلى نفسه { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } . لا شك أن هذه الإضافة تقتضي شرفا؛ وإلا فإن كل البيوت ملك الله، وكل ما على الدنيا فإنه لله وحده؛ ولكن هذه الإضافة اقتضت شرفا، ورفعة، ومكانة؛ ولأجل هذا اختص هذا البيت العتيق بأنه يطاف عليه، يستدار حوله مع الخشوع، ومع الدعاء، ومع التذلل. ليس في الدنيا، وليس على وجه الأرض بقعة يجوز أن يطاف بها تعبدا إلا هذا البيت العتيق فإذا طاف به المسلم فكأنه يتذكر حالته وعبادته، ويتذكر أيضا أحوال الذين طافوا قبله. يعرف أنه قد طاف به آدم وطافت به الأنبياء قبله، وآخر الأنبياء نبينا -صلى الله عليه وسلم- وطاف به الخلفاء الراشدون، والصحابة، والمؤمنون في كل قرن، وفي كل زمان إلى زماننا هذا. والحمد لله أنه مستمر لا ينقطع زواره والطائفون به في وقت من الأوقات إلا نادرا. لا شك أن هذا يكسب المؤمن غبطة يقول: أحمد ربي أن أوصلني إلى هذه البقعة التي يتمناها خلق كثير، وأن مكنني أن أتقرب إليه، وأمتثل أمره بهذا الطواف الذي هو عبادة ليس عبادة للبيت ولكن عبادة لرب البيت امتثالا لقول الله تعالى: { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ } فأنت في طوافك تدعو الله، وتخشع له، وتتواضع بين يديه، وتكون حاسر الرأس غالبا، وتكون مهطعا مقنعا متذللا متخشعا، متواضعا، وكذلك في بقية نسكك. وكذلك أيضا تتعبد بطوافك بين الصفا والمروة الذي هو السعي، وتتعبد أيضا بوقوفك في المشاعر التي يقف فيها الحجاج. وقوفنا غدا في يوم عرفة في عرفة الذي يجتمع فيه الحجاج يجتمعون من كل مكان، وكذلك أيضا بمبيتنا في مزدلفة وكذلك برجوعنا إلى منى إلى هذه الأماكن. وكذلك أيضا بما نتقرب به في يوم العيد من ذبح، ومن رمي، ومن حلق، ومن طواف وسعي، وغير ذلك. كل ذلك ذكر لله، وكل هذا عبادة لله تعالى فرمي الجمار لأجل الذكر، والطواف بالبيت ذكر، والسعي بين الصفا والمروة ذكر، وكذلك أيضا الوقوف بعرفة . لما كانت عرفة مكانا فسيحا واسعا يجتمع فيها الحجاج كلهم، ولما كان لذلك المكان شرف، واليوم الذي يقف فيه الحجاج مكانة وشرف. يجتمعون فيه كلهم حاسرين رءوسهم، ملبين مكبرين، ذاكرين الله تعالى وداعين له؛ كان لذلك المكان فضيلة وشرف. فنقول: يغتبط المسلم بهذا، ويحمد ربه على أن أوصله إلى مكان يتمنى الوصول إليه خلق كثيرون، ولا يستطيعون الوصول إليه وإن كانوا مثابين على نيتهم فإن الأعمال بالنيات. فالذين لا يقدرون لعجزهم بدنيا أو ماليا يثابون على ما نووه. ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: { إن في المدينة لأقواما ما قطعتم واديا ولا نزلتم منزلا إلا كانوا معكم وهم بالمدينة حبسهم العذر } فكذلك الذين يتمنون الوصول إلى هذه البقاع؛ ولكنهم حبسهم العذر لهم أيضا أجرهم. ولكن الذين وفقهم الله تعالى، وأعانهم، وتكبدوا المشقة، ووصلوا إلى هذه البقع، وتعبدوا فيها، وأدوا مناسكهم، وقضوا فرضهم الذي فرضه الله أجرهم كبير كما ورد في ذلك من الأحاديث الكثيرة. منه قوله -صلى الله عليه وسلم- { الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة } وقوله: { تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والفضة } وكذلك قال -صلى الله عليه وسلم- { من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه } لا شك أن هذا فضل كبير يحصل لمن أخلص نيته لله تعالى وأدى هذه المناسك. |