تفسير سورة الحجرات من تفسير ابن كثير
تفسير قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) إلى قوله تعالى: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيم)
الخطاب للمؤمنين. رسم> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قرآن> رسم> ذكر ابن كثير اسم> عند قوله تعالى في سورة البقرة: رسم> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا قرآن> رسم> قال ابن مسعود اسم> إذا سمعت الله يقول: رسم> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قرآن> رسم> ؛ فأصغ لها سمعك ؛ فإنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه. وهكذا فالخطاب للمؤمنين، ويكون تعليمات؛ أي: تعليمات للأمة؛ خير يأمر به؛ كحكم من الأحكام، أو أمر من الأوامر، أو نهي وشر تنهى عنه. قالوا: علامة السورة المدنية أن يكون فيها: رسم> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قرآن> رسم> وأما رسم> يَا أَيُّهَا النَّاسُ قرآن> رسم> ؛ فجاءت في سور مدنية وسور مكية؛ منها هذه السورة، جاء فيها: رسم> يَا أَيُّهَا النَّاسُ قرآن> رسم> في آخرها. قوله: رسم> لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قرآن> رسم> .
روى البخاري اسم> وغيره أن وفد بني تميم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال أبو بكر اسم> أمر الأقرع بن حابس اسم> فقال عمر اسم> أمر عيينة بن حصن اسم> أو كان ذلك بالعكس؛ فقال أبو بكر اسم> ما أردت إلا خلافي. فقال عمر اسم> ما أردت خلافك؛ فتجادلا؛ فلذلك يقول الراوي: كاد الخيران أن يهلكا؛ يعني في هذه المجادلة؛ فأنزل الله تعالى تأديبا لهم ولغيرهم: رسم> لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه قرآن> رسم> .
أي لا تتقدموا بهذه الاقتراحات ولا بهذه الآراء الذي تختلفون فيها رسم> بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه قرآن> رسم> أي: الأمر يكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أنتم فإن عليكم الإشارة إذا استشاركم. كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرهم كثيرا؛ عملا بقوله تعالى: رسم> وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ قرآن> رسم> ؛ فكانوا إذا استشارهم يشيرون فيقولون: نرى كذا وكذا، فأمروا أن يشيروا عليه بما يرونه، ثم كذلك أمروا بأن لا يتقدموا بين يديه: رسم> لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه قرآن> رسم> .
أي: لا تتقدموا برأي تقترحونه قبل أن يرى النبي محمد اسم> صلى الله عليه وسلم رأيه؛ عليكم أن تسلموا لأمره وألا تخالفوه. هل هذا خاص بحياة النبي صلى الله عليه وسلم؟
الصحيح أنه ليس خاصا، بل لا يجوز لأحد أن يتقدم برأي أو بأمر في مسألة إذا كان فيها نص، أو دليل من كتاب الله تعالى، أو من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يقول: هذا رأي استحسنته؛ فإننا نرده ونقول: كلام الله مقدم على كلامك، كلام النبي صلى الله عليه وسلم مقدم؛ فلا تتقدم برأيك ولا بإشارتك ولا بنظرك قبل أن تنظر في الدليل؛ الدليل مقدم على قول كل أحد. هذا هو الرأي، وهذا هو النظر: رسم> لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه قرآن> رسم> .
وكذلك أيضا لا تتقدموا قبل حكم الله تعالى وحكم رسوله ، ولا تقدموا حكمكم ولا اختياركم ولا رأيكم ونظركم قبل أن تعرضوا الأمر على شرع الله تعالى وعلى حكمه وأمره؛ فإذا وجد في الكتاب والسنة رأي ونظر، أو حكم من الأحكام؛ فلا يلتفت إلى ما يخالف ذلك من الأحكام، قضاء الله أحق؛ كما جاء في حديث عائشة اسم> أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رسم> قضاء الله أحق، وشرع الله أوثق، والولاء لمن أعتق متن_ح> رسم>.
ثم الآية بعدها؛ ذكروا أن ثابت بن قيس بن شماس اسم> خطيب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما جاء وفد بني تميم جاءوا معهم بخطيب وبشاعر؛ فخطيبهم خطب خطبته التي أرادها، فجاء ثابت اسم> وخطب خطبة بليغة، جاء شاعرهم وأنشد قصيدة له، فجاء شاعر النبي صلى الله عليه وسلم حسان اسم> وأنشد قصيدة له؛ فقالوا: شاعرك أبلغ من شاعرنا، وخطيبكم أبلغ من خطيبنا.
ثم إن الله تعالى أنزل هذه الآية: رسم> لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قرآن> رسم> فسمع بها ثابت اسم> ؛ فظن أنها فيه، وأن عمله قد حبط؛ فبقي في بيته معتزلا يبكي؛ يخشى أن عمله حابط، أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد نزلت هذه الآية رسم> لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قرآن> رسم> وأنا جهوري الصوت، وأخشى أنه حبط عملي وأني من أهل النار. فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رسم> أخبروه بأنه من أهل الجنة رسم>.
يقول الراوي: فكنا نراه من أهل الجنة يمشي على الأرض بيننا.
رسم> لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ قرآن> رسم> يعني: بمجرد الكلام، لا ترفعوا رسم> فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قرآن> رسم> رسم> ولَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ قرآن> رسم> أي: لا تجهروا بالكلام الذي فيه شيء من الجفاء أو نحو ذلك؛ كما يجهر بعضكم لبعض، بل غضوا أصواتكم عنده، ولا ترفعوا صوتكم؛ فإن في ذلك شيئًا من الجفاء، وشيئًا من غلظ الطبع؛ فلذلك ذكروا أنهم تأدبوا؛ فكانوا إذا تكلم أحدهم لا يكاد يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حرصا منهم على التأدب، وخوفا من حبوط الأعمال.
رسم> أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ قرآن> رسم> أي: لا تعلمون، ( تحبط ) يعني: تبطل أعمالكم؛ بسبب رفعكم أصواتكم عند النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على عدم الاحترام له، وعدم الإصغاء إلى كلامه.
يقول بعد ذلك: رسم> أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ قرآن> رسم> يعني يبطل أجرها، ويبطل ثوابها. ولا شك أن المسلم يحرص على الاهتمام ببقاء عمله وبصلاحه وبعدم بطلانه ؛ فلذلك خاف ثابت بن قيس بن شماس اسم> رضي الله عنه أن يكون قد حبط عمله؛ لأن الله تعالى ذكر حبوط الأعمال في قوله تعالى: رسم> ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ قرآن> رسم> وقال تعالى: رسم> وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قرآن> رسم> ؛ مما يدل على أن العمل إذا جاء ما يفسده وحبط؛ بطل العمل كله قليله وكثيره.
قد جاء ما يدل على أن هناك أسبابا تحبط الأعمال؛ كالشرك: رسم> وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قرآن> رسم> رسم> لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ قرآن> رسم> كذلك أيضا: ترك بعض الصلوات: جاء في الصحيح: رسم> من ترك صلاة العصر حبط عمله متن_ح> رسم> ظاهره: أن من تركها يعني تركا كليا؛ لم يقضها ولم يهتم بها رسم> حبط عمله متن_ح> رسم> ؛ فجعل رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب إحباط العمل ؛ وما ذاك إلا أنه يدل على عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قد تقول: هل هذا خاص بحياة النبي صلى الله عليه وسلم؟ ليس خاصا؛ بل ينطبق على ما بعده، كيف يكون ؟ إذا قرئت أحاديثه فلا يجوز رفع الصوت عند قراءتها، ولا الاعتراض عليها، ولا يجوز أيضا الخوض في الكلام الدنيوي، أو الذي لا أهمية له مع وجود من يقرأ الأحاديث أو نحوها.
يعني: على المسلم أن يحترمها؛ يحترم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وليقدر أنه يسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتكلم بذلك؛ ذكروا أن أهل الحديث الذين يروونه ويهتمون به يصدق عليهم أنهم قد صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ؛ يقول بعض الشعراء:
أهل الحديث همُ صحب النبي وإن | لـم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا |
هكذا؛ فعلى هذا إذا كان هناك قارئ يقرأ الحديث؛ فلا يجوز لأحد أن يرفع صوته عند قراءة الأحاديث، بل يغض صوته ويخفضه؛ فلا يجوز له أن يرفعه؛ فيكون قد رفع صوته فوق صوت النبي؛ يعني: فوق حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقول: ما رفعت صوتي فوق صوته، إنما رفعت صوتي فوق صوت هذا القارئ؛ القارئ يقرأ كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنك تسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ تسمعه منه؛ فأنصت لسماعه، واحترمه؛ كما لو كنت تسمعه يتكلم به في حياته؛ فإنك تحترمه وتصغي له وتستمع له، فكذلك بعد موته إذا سمعت من يقرأ حديثه؛ فإنك أيضا تحترمه.
يقول الله تعالى: رسم> إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ قرآن> رسم> .
رسم> يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ قرآن> رسم> ؛ إذا كانوا عنده فإنهم يغضون أصواتهم عنده، ولا يرفعونها؛ فيكونون بذلك قد شوشوا عليه، واستهانوا بكلامه، ولم يلتفتوا إليه. لا شك أن هذا كله غير صفة المؤمنين.
رسم> إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ قرآن> رسم> يعني: يخفضونها عند رسول الله؛ يعني: في حياته، وعند كلامه بعد موته؛ يكون لهم هذا الأجر. وألحق بعض العلماء رفع الصوت عند قبره، وروي أن عمر اسم> رضي الله عنه سمع اثنين في المسجد النبوي اسم> وهما يتجادلان فدعاهما وقال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف اسم> قال: لو كنتم من هاهنا لأوجعتكما ضربا، ترفعان أصواتكما عند قبر النبي اسم> صلى الله عليه وسلم، أو عند منبر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فدل أيضا على أن الذين يرفعون أصواتهم عند المنبر أو عند القبر؛ أنهم يدخلون في هذا؛ في الذين يرفعون أصواتهم فوق صوت النبي.
فالحاصل: أنك إذا سمعت الأحاديث النبوية تقرأ فإياك أن تعترض عليها؛ فتكون من الذين يقدمون بين يدي الله ورسوله، وإذا سمعت الذين يرفعون أصواتهم فوق حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فحذرهم من ذلك، وخوفهم أنها سوف تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون، وإذا رأيت الذين يغضون أصواتهم عنده فبشرهم بأنهم من أهل الخير؛ حيث إنهم احترموا كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
رسم> امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى قرآن> رسم> يعني: امتحنها؛ الامتحان يراد به الاختبار، رسم> امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى قرآن> رسم> أي: لتقوى الله تعالى؛ فلما امتحنها ظهر أنها ممتلئة بالتقوى، ودل على ذلك غضهم أصواتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدهم الله في هذه الآيات بقوله: رسم> امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ قرآن> رسم> وهذا خير كثير؛ يعني: إذا حصل لهم؛ حصلت لهم المغفرة، وحصل لهم الأجر الكبير. فإن في هذا خيرا كثيرا.
المغفرة: ستر الذنوب، وإزالة أثرها، والأجر: الثواب؛ الثواب الذي يحصل عليه المؤمن مقابل عملٍ عمله؛ أي أجر؛ العامل يؤتى أجره؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل رمضان قال: رسم> ويغفر لهم في آخر ليلة. قيل: يا رسول الله؛ أهي ليلة القدر ؟. قال: لا، ولكن العامل إنما يؤتى أجره بعد قضاء عمله متن_ح> رسم> فإذا كان عمل عملا، وانتهى من عمله وفاه الله تعالى أجره دنيا أو أخرى.
الأجر هاهنا وصف بأنه أجر عظيم؛ مما يدل على أنه كثير، والأصل أنه في الآخرة أعلى أجر هو دخوله الجنة، ونجاته من النار. ومن الأجر أيضا أجر دنيوي: الصحة والتوسعة والغنى والأمن وما أشبه ذلك؛ رسم> لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ قرآن> رسم> ولا شك أن المغفرة من نتيجتها استحقاق الأجر ؛ من غفر الله تعالى له ذنوبه؛ فإنه يحصل على الأجر، من غفر الله له حصل على أجر عظيم، ولكن مع ذلك الأجر قد يكون بزيادة الأعمال؛ لأنك قد تقول: المغفرة إنما تكون للذنوب؛ فهؤلاء ما هي ذنوبهم التي يغفرها الله لهم ؟ فالجواب؛ أن تقول: إن المغفرة هي رحمة من الله تعالى، وإن المغفرة هي غفره لتقصيرهم ونقصهم، فقد يكون بعضهم عليه نقص وخلل؛ فكانت المغفرة لذلك النقص.
وأما الأجر فهو جزاء الأعمال، ومن جملة أعمالهم احترامهم النبي صلى الله عليه وسلم، فالحاصل أن هذه الآيات ليست خاصة بحياة النبي صلى الله عليه وسلم. التقديم بين يديه: التقديم بين يدي سنته وشريعته، وغض الصوت عنده ليس خاصا بحياته، بل يدخل فيه غض الصوت عند كلامه؛ إذا سمع يقرأ فيغض الصوت عنده ليكون ذلك دليلا على أن الله امتحن قلب ذلك الذي يغض صوته وأن له مغفرة وله أجر عظيم.
مسألة>