إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف القلوب أوعية؛ منها ما يستوعب الخير، ومنها ما يستوعب الشر. وأفضل القلوب هي التي تمتلئ بالخير،تمتلئ بالعلم وتمتلئ بالدين والعبادة، تمتلئ بالعلم النافع والعقيدة السليمة، هذه هي القلوب الواعية، وهي أرجى القلوب لتحصيل الخير    عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة)
إبهاج المؤمنين بشرح منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين (الجزء الأول)
141474 مشاهدة
باب أهل الزكاة ومن لا تدفع له

[باب: أهل الزكاة ومن لا تدفع له]
لا تدفع الزكاة إلا للأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى بقوله. إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60] .
ويجوز الاقتصار على واحد منهم، لقوله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم: إن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم متفق عليه .


[باب: أهل الزكاة ومن لا تدفع له]
قوله: (لا تدفع الزكاة إلا للأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: ...إلخ):
ثبت أن وجلا جاء يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- من الزكاة فقال: إن الله لم يرض فيها بقسمي ولا بقسم أحد حتى تولى قسمها، فإن كنت من أهلها الذين سماهم الله أعطيناك فثبت بذلك أن الله تعالى هو الذي تولى قسم الزكاة، كما أنه هو الذي فرض الفرائض، فيقتصر على هذه الأصناف الثمانية المذكورة في هذه الآية.
وقوله: (إنما) تفيد الحصر، أي: لا تصلح إلا لهذه الأصناف الثمانية.
الصنف الأول والثاني: الفقراء والمساكين:
بدأ الله تعالى بالفقراء والمساكين، وذلك لأنهم الأغلب والأكثر، والفقراء أشد حاجة، وذلك لأن الفقر مشتق من الفقار الذي هو انكسار الظهر، والظهر يسمى فقارا، فكأن الفقير من شدة حاجته مكسور الظهر بحيث لا يستطيع تكسبا ولا يستطيع تقلبا، وأما المسكين فإنه مشتق من السكون؛ وذلك لأنه لحاجته كأنه ساكن الحركة لا يستطيع تقلبا ولا تكسبا.
فإذا ذكرا معا الفقير والمسكين، فالفقير أشد حاجة، قال بعضهم: الفقير هو الذي يكفيه كسبه أقل من نصف شهر، فإذا كان راتبه مثلا أو دخله من صنعة أو نحوها يكفيه أربعة عشر يوما أو ثلاثة عشر يوما، وهذه المدة أقل من نصف شهر فنسميه فقيرا، لأنه بقية الشهر يقترض، أو يتصدق عليه.
أما المسكين : فهو الذي يكفيه دخله عشرين يوما أو ثمانية عشر أو نحو ذلك، أي: أقل من الشهر، وبقية الشهر يقترض أو يتصدق عليه.
هذا تفريقهم بين الفقير والمسكين.
وكثيرا ما يذكر الله تعالى الفقراء ويحث على الصدقة عليهم، ويصفهم بأوصاف يستحقون بها الصدقة، قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 271] فقد اقتصر الله على الفقراء، ثم قال: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ [البقرة: 273] إلى آخر الآية؛ اقتصر أيضا على الفقراء، وفي آية أخرى قال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الحشر: 8] فقد اقتصر الله على
الفقراء في هذه الآيات.
وقد يقتصر أحيانا على المساكين كقوله تعالى: وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الفجر: 18] وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون: 3] أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد: 16] فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة: 89] فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة: 4] فهنا اقتصر الله تعالى على المساكين، ولا شك أنه يدخل فيهم الفقراء، فإنهم أولى بالإطعام وأولى بالصدقة، ولكن نظرا للأغلب فإنه إذا اقتصر على المساكين دخل فيهم الفقراء، وإذا اقتصر أيضا على الفقراء دخل فيهم بالتبعية المساكين.
الصنف الثالث: العاملون عليها:
أما العاملون عليها فهم الجباة الذين يجمعونها، فهم يجبون الزكاة ويجمعونها من أهلها، ويسمون العمال والعاملين.
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعث من يجبي الصدقات من أهلها وبالأخص من البوادي؛ وذلك لأن أغلب أموال الناس في ذلك الزمان هي بهيمة الأنعام، فكان يحتاج إلى من يذهب إليهم ليجمعها، فيعطي الذين يذهبون أجرتهم أو حقا مقابل تعبهم ومقابل عملهم، ولكنه يحثهم على الأمانة، ويحثهم على ألا يخونوا وألا يخفوا شيئا من الصدقة، ويقول لهم ما معناه: أعطوا من رأيتم مستحقا الزكاة من الفقراء، فإذا أتيتم إلى البوادي: هذا غني عنده زكاة غنم وإبل، وهذا فقير ليس عنده شيء، فلكم أن تأخذوا من هذا الغني وتعطوا هذا الفقير، وما بقي معكم فإنكم تأتون به إلينا لنتولى توزيعه ونعطكم حق أتعابكم وأجرتكم، فكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحثهم على ذلك.
وقد ورد في حديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: هدايا العمال غلول ومعناه: إن العامل لا يقبل هدية من أحد عن الزكاة، وكذلك لا يقبل ضيافة، مخافة أنه إذا قبل ضيافة أو قبل هدية فإنه قد يتغاضى عن صاحبها، وإذا لم يهد له أو لم يكرمه ولم يضيفه ظلمه وزاد عليه وأخذ منه ما لا يستحق، بل يكون عفيفا، ويكون بعيدا عن أن يستضيف عند أحد، أو يقبل من أحد هدية، فإذا أهدي إليه فلا يقبل الهدايا.
وفي قصة ابن اللتبية أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعثه مزكيا للأغنام والإبل فجاء وقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقام خطيبا وقال: ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي؟! أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟! ثم أخذ يوبخهم على الغلول فقال: والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه؛ بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة بعير . وأخذ يعدد من أصناف المال، فكأنه يعرض بأن هذا الفعل يعتبر غلولا.
والله تعالى يقول: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 161] أي: عقوبة له أنه يحمل ما غله، ويأتي به حتى يتمنى التخلص منه.
فاعتبر هذا هدية؛ واعتبره غلولا؛ لأنه إذا أهدي إليه تغاضى معهم، فإذا جاء إلى أناس وزكاتهم- مثلا- عشر من الغنم وخمس من الإبل المتوسطة، فأهدوا إليه شاة أو ضيفوه وأكرموه، فإنه يستحي منهم، فيأخذ من الغنم رديئها، ومن الإبل رديئها، فيأخذ منهم دون ما يجب عليهم؛ لأنهم كرموه وأهدوا له، فبدلا من أن يأخذ الشاة التي قيمتها أربعمائة يأخذ ما قيمتها مائتان وهكذا.
فهذا ظلم للفقراء، وهذا يعتبر غلولا، وأما إذا لم يقبل هديتهم فإنه يأخذ الواجب، وقد تقدم أنه يأخذ الأوسط، فلا يأخذ الأردى والأدون، ولا يأخذ الخيار والنفيس.
وفي زماننا هذا تفرض الحكومة للعمال رواتب شهرية كسائر الموظفين، فإذا كان كذلك فإنه لا يحق لهم أن يخفوا شيئا من هذه الزكوات، بل يعتبرون كوكلاء يجمعونها ويدخلونها في بيت المال، ولا يحل لهم منها شيء لا قليل ولا كثير، وذلك لأن الحق الذي فرضه الله لهم، إنما هو إذا لم يكن لهم شيء مسمى من الدولة، فإذا قيل لهم: لا نعطيكم شيئا، ولن يفرض لكم شيئا ولكن خذوا قدر ما تستحقونه من إعاشتكم ومن مكافأتكم، فيأخذون بقدر حقهم، فلا ظلم على العامل ولا ظلم على الموكل، أما إذا فرض لهم فليس لهم أن يتجاوزوه.
الصنف الرابع: المؤلفة قلوبهم:
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطي المؤلفة قلوبهم تأليفا لهم، إما قائدا يرجى إسلامه، أو يرجى إسلام نظيره، أو يرجى كف شره، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه، أو يرجى أنه يتولى جباية الزكاة من قومه، فإذا لم يعط فإنه لا يجبي الزكاة؛ بل يجحدها أو يمنعها، فهؤلاء سادة في قومهم مطاعون يعطون تأليفا لهم؛ حتى يؤمن شرهم، وحتى يقوى إيمانهم، وحتى يكونوا ناصحين ومخلصين لولي الأمر، فهذا هو سبب إعطائهم.
فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه وقوي الإسلام وتمكن وصار القادة والسادة الذين في أول الإسلام يخاف من شرهم؛ صاروا كآحاد الناس لم يعطهم من الزكاة، وقال: إن الله قد نصر الإسلام، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
وفي قصة عيينة بن حصن عندما وفد إلى المدينة وكان ابن أخيه الحر بن قيس من جلساء عمر رضي الله عنه، وكان جلساء عمرهم القراء شبابا كانوا أو شيبا، فقال عيينة لابن أخيه: لك يد عند هذا الأمير اشفع لي حتى أدخل عليه، وكان قد اشتكى أن عمر لم يعطهم ما كان يعطيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فدخل عليه وقال بصوت جهوري: هيه يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فهذه كلمة نابية جافية من أحد أجلاف العرب، وغضب عمر وكاد أن يبطش به، ولكن ابن أخيه حثه على العفو، وقرأ عليه قول الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] فوالله ما جاوزها وكان وقافا عند كتاب الله.
وكان عيينة بن حصين هذا من المؤلفة قلوبهم، هو والأقرع بن حابس، ففي صحيح مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- لما انتصر على هوازن وقسم غنائمهم قسم الإبل فأعطى عيينة بن حصين مائة هن الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى شاعرا من شعراء بني سليم وهو العباس بن مرداس أقل من المائة، فأنشأ يقول:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عييينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداسا في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما ومن يخفض اليوم لا يرفع


يعرض بالأقرع وعيينة، فدل على أنهما ممن كان يتألفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما كان في عهد عمر قطع هذا التأليف وأسقط حقهم.
اتصل بي مرة من البحرين أحد الجهلة من أهل السنة، الذين انخدعوا بمن عندهم من الرافضة الذين طعنوا في عمر، فقالوا: إن عمر قد أسقط حقا في كتاب الله، أسقط حق المؤلفة قلوبهم، وهو في القرآن، فجعلوا ذلك طعنا، فعجبت لهذا الذي صدقهم، فقلت له: إن التأليف يستعمل عند الحاجة إليه، فهو لم يسقط الآية ولم يسقط حقهم الذي في الآية، بل الآية موجودة، ولكنه رأى أن التأليف له مناسبة وله وقت، فإذا لم يحتج إلى التأليف لقوة الإسلام فلا حاجة إلى إعطائهم؛ لأن هذه الصدقات تجمع من الناس لمن يستحقها، وهؤلاء أثرياء وأغنياء فلا حاجة إلى تأليفهم ما دام الإسلام قويا.
الصنف الخامس: في الرقاب:
ويراد بهم المكاتبون، فالعبد الذي يشتري نفسه بثمن مؤجل، ثم يخلي بينه وبين الحرفة ويبدأ يحترف ويتكسب، وكلما حل نجم أعطاه، فقد لا يقدر على تحصيل ذلك النجم أو ذلك القسط في تلك السنة لعجز أو لقلة مصالح، فيتصدق عليه، ويعطى من الزكاة؛ حتى يخلص نفسه ويفك رقه.
ويجوز لمن كان عنده زكاة كثيرة أن يشتري رقيقا ويعتقه؛ لأن هذا من الرقاب.

الصنف السادس: الغارمون:
وقد قسم الغارم إلى قسمين:
الأول: غارم لنفسه أو لحاجته: وهو المدين الذي استدان وتحمل دينا لهذا ولهذا ولهذا، وكثرت الديون التي عليه، فلم يف بها ماله، ولو كان مظهره مظهر الأغنياء، ولو كان ينفق ويكرم ويطعم ويلبس فاخر الثياب ويركب فاخر السيارات وما أشبه ذلك، ولكن تراكمت عليه الديون، فلم يستطع وفاءها، فهو من الغارمين.
ومع ذلك يرشد إلى أنه لا يحل له هذا الإسراف ما دام أنه مدين، وأن عليه أن يحرص على إبراء ذمته ووفاء الدين الذي عليه؛ حتى لا يبقى مطالبا بحقوق الناس، وقد قال النبي-صلى الله عليه وسلم- من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن الدين أي: إن يستدين الإنسان إلا للضرورة، حتى إنه كان لا يصلي على الميت إذا كان عليه دين لم يخلف عنه وفاء إلا إذا تحمله أحد أصحابه، إلا في آخر الأمر كان يتحمل الديون عن الأموات ويوفيها من بيت المال، ويقول: أنا أولى بالمسلمين من أنفسهم، من ترك مالا فلورثته، ومن ترك دينا فالي وعلي .
والثاني: الغارم لإصلاح ذات البين: وصورة ذلك إذا وقع بين طائفتين قتال، جئت إليهم وأصلحت بينهم، وقلت لهم: إنا أتحمل لكم أيها القبيلة بألف، وأتحمل لكم أيها القبيلة الأخرى بألفين، على أن تسقطوا حقوقكم، فهذه الآلاف التي تحملتها لا نكلفك أن تدفعها من مالك ولو كنت ثريا وغنيا؛ لأن فيها تكلفا كبيرا فيه شيء من الإجحاف في أموال ذوي الجاه؛ فلذلك تستحق أن تأخذها من الزكوات.
وفي حديث قبيصة قال: تحملت حمالة فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أساله من الزكاة، فقال: اجلس عندنا حتى تأتينا الزكاة- أو: الصدقات- فنأمر لك بها لأنه تحمل حمالة لإصلاح ذات البين.
الصنف السابع: في سبيل الله:
قال أكثر العلماء: إنه يراد به الجهاد، أي أنه يصرف في سبيل الله، فيجهز به الغازي الذي ليس له راتب مثلا، وكذلك أيضا يدفع في العتاد، كسلاح ودروع وأدوات للقتال وما أشبه ذلك، ونفقات للمقاتلين إذا لم يكن لهم ما يكفيهم، فكل ذلك داخل في سبيل الله، وأكثر ما ترد هذه الكلمة للجهاد وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران: 169] وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [البقرة: 190] ونحو ذلك.
لكن ذكر بعض العلماء أن الكلمة عامة، وأن سبيل الله في الأصل هو كل أمر يوصل إلى رضاه، فكل شيء يحبه الله ويرضاه فإنه من سبيل الله، فأدخلوا في ذلك كثيرا من الأعمال الخيرية فأدخلوا فيه بناء المساجد وقالوا: هي من سبيل الله، وأدخلوا فيه بناء المدارس وعمل القناطر وإصلاح الطرق التي يحتاج إليها المسلمون وليس هناك مالية تكفيها، وكذلك أيضا تصرف للدعاة الذين ليس لهم قدرة على التكفل بالدعوة، وكذلك المعلمون عند الحاجة إليهم، ومعلم القرآن، وهكذا أيضا نشر العلم الذي يدخل فيه -مثلا- طبع الكتب ونسخ الأشرطة الإسلامية ونشرها وما أشبه ذلك، فقالوا: هذه كلها داخلة في سبيل الله، فإذا لم يوجد من يتبرع بها فإنه ينفق عليها من الزكاة.
ولكن الأكثرون قالوا: لا تدفع من الزكاة، وسبيل الله خاص بالمجاهدين وبالجهاد.
وعلى كل حال إذا تعطلت هذه الأشياء فتعطلت الدعوة وتعطل الدعاة وتعطل نشر العلم وتعطل تحفيظ القرآن، ولم يوجد من ينفق على ذلك إلا الزكاة فعند ذلك يجوز، ولكن إذا وجد من يتبرع ببناء المساجد ويتبرع بإعاشة الدعاة- مثلا- ويتبرع بطبي كتب العلم وما أشبه ذلك؛ فإنها لا تصرف من الزكاة.
الصنف الثامن: ابن السبيل:
وعرفوه بأنه المسافر المنقطع الذي سافر من بلاده، ووصل إلى بلاد أخرى، ولكنه انقطع عن الوصول إلى أهله، ولم يستطع الرجوع إليهم، ولو كان غنيا في بلده، ولكن لا يستطيع أن يصل إليه شيء من ماله.

ويتصور هذا في الأزمنة القديمة أما في هذه الأزمنة، فإن في إمكانه أن يتصل بأولاده -مثلا- ويأمرهم بأن يرسلوا له مالا بواسطة البنوك أو بواسطة المصارف، فيصل إليه ما يكفيه، ولكن إذا وجد منقطع؛ سواء له مال في بلده ولا يقدر عليه أو ليس له مال، فإنه يدخل في ابن السبيل.
قوله: (ويجوز الاقتصار على واحد منهم، لقوله -صلى الله عليه وسلم-... إلخ):
أي: لو كان عندك زكاة فصرفتها كلها إلى الفقراء أجزأ، أو صرفتها على الغارمين أجزأ، أو صرفتها لأبناء السبيل أو للمجاهدين كلها أجزأ ذلك؛ لأنها وقعت موقعها.
وذهب بعض العلماء إلى أنها تقسم ثمانية، فكل من كان عنده زكاة فإنه يقسمها ثمانية أسهم؛ حتى يعم الثمانية، والصحيح أن ذلك ليس بلازم.
والدليل على ذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ... إلى قوله: فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فاقتصر هنا على الفقراء، فدل على أنه من أداها للفقراء فقد برئت ذمته.