إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . إذا ضعفت العقيدة في القلوب ضعف العمل، فإذا رأيت الذي يكون ضعيفا في عباداته، في صلواته وزكواته وما إلى ذلك، فاعلم أن ذلك لضعف في عقيدته بالأساس.فالعقيدة حقيقة إذا امتلأ بها القلب ظهرت آثارها على الجواربالوقوف قائما أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة
شرح كتاب العظمة المجموعة الثالثة
69961 مشاهدة
العبر والحكم في خلق السماوات والأرض

...............................................................................


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قد أخبر الله تعالى بأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ولو شاء لخلقها في لحظة فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، وجعل في خلقها عبرة وعظة كما قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ هذه الآية وما بعدها في آخر سورة آل عمران آيات عظيمة ذكر الله تعالى في أولها خلقه لهذه السماوات والأرض، وذكر أن فيها لعبرة للمعتبرين وآيات للمتفكرين الذين يذكرون الله في كل حالاتهم ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أنزلت عليه هذه الآيات العشر في ليلة من الليالي بكى طوال ليله ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها .
وسئل بعض السلف الرواة ما المخرج من هذا الويل فقال: أن يقرأها وهو يعقلها يعني يقرؤها وهو حاضر اللب حاضر القلب عند قراءته لها؛ ذكر الله تعالى فيها أن خلق السماوات والأرض فيه آيات ولكنها آيات ودلالات وعجائب في هذه المخلوقات، ولكن إنما يعتبر بها ويتذكر أولو الألباب يعني أهل العقول الذكية الذين ينتبهون لما أمروا به ويتفكرون في هذه الآيات؛ ولذلك مدحهم وذكر شيئا من صفاتهم بقوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ من هم الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ أي دائما ذكرهم لربهم لا ينقطعون عن ذكره ولا ينشغلون بغيره بل هم دائما يذكرونه ويتفكرون في خلقه، ولهذا قال: وَيَتَفَكَّرُونَ أي تفكر تعقل وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ويقولون رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
إذا تفكروا في هذه المخلوقات العلوية والسفلية عرفوا أن الله ما خلقها لهوا ولا خلقها باطلا فإنه سبحانه يتنزه عن أن يخلق شيئا عبثا، فما خلق الإنسان عبثا ولا خلق هذه المخلوقات عبثا كما قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ يعني أن الإنسان إذا تفكر في خلقها اعتبر بذلك وعرف فيها الآيات عرف أنها آيات عظيمة ودلالات كبيرة تدل على عظمة من خلقها.
إذا نظرت في هذه الأرض التي هي واحدة من سبع أرضين وهي صغيرة بالنسبة إلى بقية خلق الله تعالى، إلى بقية ما خلقه فإنك بذلك تعتبر وتقول: سبحان من خلقها ومن أوجدها فتسير فيها أياما وتجد فيها اختلافا فتجد أرضا مستوية ليس فيها ارتفاع ولا منخفض، وتجد بعدها أرضا رملية فيها كثب وفيها مرتفعات، ثم تجد بعدها أرضا جبلية فيها صخور وفيها جبال إما مستوية وإما شاهقة مرتفعة، وتجد أحيانا أرضا فيها شعاب وفيها أودية وفيها أشجار، وتجد الأشجار والنباتات تختلف من بقعة إلى بقعة وهكذا أيضا قول الله تعالى: وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ أي ما خلقه فيها من هذه الدواب الزاحفة والطائرة والسائرة الكبيرة والصغيرة لا شك أنها عبرة وموعظة.
ذكر الله تعالى أيضا الليل والنهار يعني هذا الليل والنهار آيتان من آيات الله تعالى لو شاء الله كما في بعض البلاد لجعل الليل كله دائما ولو شاء لجعل النهار دائما ولهذا قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ يأتيكم بنور تمشون فيه الله تعالى هو الذي يأتي بذلك، ثم قال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا يعني دائما مستمرا مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ فهو سبحانه جعل هذا الزمان منقسما إلى ليل ونهار وجعل الليل يستقرون فيه ويهدءون وتهدأ حركاتهم ويريحون أنفسهم بعد التعب وبعد الكد وبعد التقلب في أمورهم وفي مصالحهم، وجعل الليل لهم سكنا كما في قول الله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار؛ فالنهار هو محل العمل ومحل التقلب في الحرف والأعمال وما أشبهها والليل جعله سكنا.
كذلك أيضا جعل لكل منهما آية قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً فآية النهار في هذه الشمس التي إذا طلعت أضاءت الدنيا أضاءت ما على وجه الأرض وأشرقت لهم واستضاءوا بنورها، وصاروا في نهار ظاهر يتقلبون في حاجاتهم ويذهبون فيما يريدونه، فإذا غابت عنهم أظلم عليهم الزمان؛ وآية النهار هي الشمس وآية الليل هي القمر، إذا جاء الليل فإنهم ينتفعون بالقمر حيث يضيء لهم بعض الإضاءة بعض الإضاءة فيستدلون به ويسيرون على ضوئه إذا احتاجوا إلى السرى في الليل هذه الشمس وهذا القمر آيتان من آيات الله قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ يعني أنهما آيتان مخلوقتان من آيات الله الشمس والقمر جعلهم الله تعالى دائبين قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ أي يسيران دائبين لا يتوقفان.
أحيانا يجتمعان في أول الشهر فيكون القمر مقاربا للشمس وبعد ذلك يتأخر عنها كل يوم منزلة من المنازل إلى أن يكون في الشرق والشمس في الغرب، وذلك عندما ينتصف الليل جعل الله تعالى عندما ينتصف الشهر جعل الله ذلك لمعرفة الأوقات فيعرفون اليوم بهذه الشمس، ويعرفون الأسبوع بالشمس ويعرفون الشهر بالقمر، وكذلك يعرفون السنة بهذا القمر يعرفون السنة بالأشهر التي يعرفونها بهذا القمر وذلك قوله تعالى: وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ أخبر تعالى بأنه جعل هذه الآيات حتى يعرفوا ذلك ثم معلوم أن الشمس تطلع كل يوم وتغرب كل يوم أي مساء كل يوم تغرب على قوم وتطلع على آخرين فإذا طلعت علينا فقد غربت عن غيرنا وذلك لأن الأرض متسعة فتغرب عنا وتطلع على آخرين على غيرنا وهكذا دأبا.
وكذلك أيضا القمر قد يطلع عندنا في وقت من الأوقات ويكون غائبا على غيرنا قد يطلع عند غيرنا يكون طالع علينا فجعلهما الله تعالى سائرين دائبين لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ كل منهما يسير بتسيير الله تعالى جعل الشمس لها فلكا تسير فيه حتى تقطع هذا الفلك في يوم وليلة أي تقطع هذه المسافة الطويلة في يوم وليلة وجعل القمر أيضا في فلك ولذلك قال تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي الليل والنهار والشمس والقمر كل منها مركَّبة في فلك تسبح يعني سائرة كما ركبت وكما سخرت، هكذا أخبر بأنه سخر الشمس والقمر كل أي كل منهما يجري؛ يجري يعني يسير في جهته التي يسير فيها قال تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا أي تسير سيرها الحثيث الذي سيرها الله وركبها والقمر يجري أي يسير ولهذا قال: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ فذكر جريانهما، وجريانهما على ما قدر الله وعلى ما يسره فكل منهما يسير السير المعتاد إلا أن سير الشمس أسرع من سير القمر.
ولهذا إذا كان في أول الشهر يكونان مجتمعين في المغيب في المغرب نراهما غائبين جميعا، ثم في اليوم الثاني نرى القمر تأخر عنها قليلا، ثم في اليوم الثاني تأخر عنها، ثم في اليوم الثالث تأخر إلى أن يصير القمر في المشرق والشمس في المغرب في نصف الشهر، وهكذا لا يزال يتأخر إلى أن تدركه مرة ثانية يعني تقرب منه فعند ذلك يكون ذلك علامة على تمام الشهر، وإذا كان كذلك فإن الله تعالى قد ذكر أن للشمس مشرقا أو مشارق وكذلك للقمر قال الله تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ كيف يكون لها مشارق ومغارب مشارق الشمس ومشارق القمر ومغارب كل منهما؛ أي الذي يشرق ويغرب وذلك لأن الشمس تارة تطلع من جنوب الأرض فيما نرى وتارة تكون من وسطها وتارة تكون من الشمال.
وكذلك أيضا القمر تارة يطلع من جهة الجنوب وتارة من وسط الأرض وتارة من جهة الشمال وهكذا؛ الغروب نشاهده مثلا أنه يغرب من جهة الشمال ثم في أشهر يتأخر قليلا إلى أن يغرب في وسط المغرب ثم يسير قليلا قليلا إلى أن يغرب في جهة الجنوب فلأجل ذلك جمع الله المشارق والمغارب فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وثناهما أيضا في قوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ المراد مشرق الشمس في الشتاء ومشرقها في الصيف، وكذلك مغرب الشمس في الشتاء، مغربها في الشتاء في جنوب الجهة الغربية، وفي الشتاء في شمالها فثناهما في هذه الآية رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ وأفردهما أيضا في قوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أي المراد بالمشرق الشرق كله الذي يشرق منه الشمس والقمر، والمغرب الغرب كله الذي يغرب منه القمر.
فقول الله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي له الشرق والغرب أي كله من كله، لله المشرق الذي هو جهة الشرق ولله المغرب الذي هو جهة الغرب ولهذا قال موسى لفرعون رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي ربهما ومالكهما ومالك ما بينهما، والذي بينهما هم الخلق كلهم فإنهم بين المشرق والمغرب يعني على وجه الأرض التي فيها شروق وفيها غروب.