اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . لا بأس أن يكتب المسلم اسمه في طرة المصحف (جانبه) مخافة اشتباه مصحفه بغيره، فقد لا يناسبه إلا مصحفه المخصص له، ولا بأس أن يكتب بعض الفوائد على الهوامش كتفسير كلمة أو سبب نزول أو ما أشبه ذلك. الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم. تعبير الرؤيا يرجع فيه إلى معرفة أشياء تختص بالرائي وما يتصل به، وكذا معرفة القرائن والأحوال، ومعرفة معاني الكلمات وما يتصل بها لغة وشرعا وما يعبر به عنها، وهذه الأمور ونحوها يختص بها بعض الناس لانشغالهم بمعرفتها وما يدور حولها، فعلى هذا لا يجوز لكل أحد أن يعبر الرؤى، فقد يفهم فهما بعيدا، وقد يأخذ التعبير من اللفظ لا من المعنى فيخطئ في ذلك.
شفاء العليل شرح منار السبيل
196062 مشاهدة
باب إزالة النجاسة

قوله: [باب إزالة النجاسة: يشترط لكل متنجس سبع غسلات] لقول ابن عمر أمرنا بغسل الأنجاس سبعا وعنه: ثلاث غسلات لأمره -صلى الله عليه وسلم- القائم من نوم الليل أن يغسل يديه ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده علل بوهم النجاسة. وعنه يكاثر بالماء من غير عدد قياسا على النجاسة على الأرض، ولقوله -صلى الله عليه وسلم- لأسماء في دم الحيض يصيب الثوب حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء ولم يذكر عددا، وفي حديث علي مرفوعا بول الغلام ينضح وبول الجارية يغسل ولم يذكر عددا.


الشرح: قد ثبت في غسل الأنجاس ثلاث روايات:
1- رواية أنها تغسل سبعا.
2- ورواية أنها تغسل ثلاثا.
3- ورواية أنها تكاثر بالماء حتى تزول عينها.
أما دليل الرواية الأولى فهو قول ابن عمر أمرنا بغسل الأنجاس سبعا وهذا الحديث اشتهر في كتب الفقهاء، ولكن لا أصل له، حيث لم يروه أحد من المؤلفين المشهورين، وإنما اشتهر في كتب الفقه الحنبلي، فقد ذكره القاضي أبو يعلى في بعض كتبه فتبعه على ذلك الفقهاء، حيث يذكرونه ولا يذكرون له تخريجا، وبعضهم يتوقف فيه فيرويه بصيغة التمريض، وبعضهم يرويه بصيغة الجزم، وقد جاء في المغني لابن قدامة بصيغة التمريض روي عن ابن عمر ، وفي نسخة أخرى بالجزم روى ابن عمر .
ولم أجد من خرجه، أو ذكر له إسنادا يعتمد عليه، وقد أشار الشيخ عبد الرحمن بن قاسم - رحمه الله- في (حاشية الروض) إلى أن القاضي عزاه إلى بعض المخرجين ولكن لم أقف على إسناده.
فهذا الحديث لا يصلح دليلا، وقد روي عن ابن عمر نفسه في المسند حديث يخالف هذا الحديث بلفظ كانت النجاسات تغسل سبعا، فلم يزل النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل التخفيف حتى صارت واحدة فهذا يدل على ضعف ذاك الحديث.
إذا فليس للفقهاء في غسل النجاسات سبعة سوى حديث ابن عمر الأول، وقد عرفت ما فيه، ولعلهم قاسوا ذلك على نجاسة الكلب، ولكن هناك فرقا بينهما كما هو ظاهر.
أما الرواية الثانية فدليلها القياس على غسل اليد بعد اليقظة من النوم ثلاثا، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده ثلاثا قبل أن يغمسها في الإناء فإنه لا يدري أين باتت يده فعلل -صلى الله عليه وسلم- ذلك بأنه قد يصيبها نجاسة آثناء النوم، فأمر بغسلها ثلاثة بعد اليقظة، فدل هذا على أن جنس المتنجس يغسل ثلاثا.
وقد يقال بأن الغسلات الثلاث لأجل إزالة النجاسة كليا، فالغسلة الأولى قد يتلوث منها الشيء المتنجس، والغسلة الثانية قد تزيل النجاسة، ولكن يبقى بعدها شيء من بللها على العضو، فالغسلة الثالثة تزيل ذلك البلل.
فهذا القول له وجهـه.
أما الرواية الثالثة، وهي أنها تكاثر بالماء، فهذا قول علته واضحة، وهو أن السبب في غسل النجاسة إزالة عينها، فمادمنا نرى عين النجاسة فنحن نغسلها حتى تزول، فلهذا تكاثر بالماء حتى تذهب.
فلو زالت النجاسة بغسلة واحدة لحصل المقصود، وهكذا لو زالت بغسلتين، أو ثلاث غسلات، وهذا القول لعله الأرجح، وهو الذي يختاره شيخ الإسلام .
ولا فرق في هذا بين النجاسة التي على الجدار، آو على الأرض، أو على الثوب، أو على البدن، أو غير ذلك، فما دام أننا نرى عين النجاسة فإننا نكاثرها بالماء حتى تزول.
وإزالة النجاسة من الأمور الفضولية، فلا تحتاج في غسلها إلى نية، فلو غسلها غير مكلف، كطفل أو مجنون مثلا، صح ذلك، وطهر المكان بغسله.
وهكذا لو نشر الثوب المتنجس فنزل عليه مطر حتى غمزه وزال أثر النجاسة، حصل المقصود.
وهكذا لو خاض بالثوب المتنجس في البحر، أو في السيل، أو في النهر، فنظف الثوب دون أن يقصد غسله، حصل المقصود.
فالحاصل: أن النجاسة تكاثر بالماء حتى يزول أثرها، ومن الأدلة على ذلك- أيضا- أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر أسماء أن تغسل دم الحيض، ولم يذكر عددا، بل قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه فهذا دليل واضح على أن غسل النجاسات لا يحتاج إلى عدد.
ومن الأدلة أيضا: قياس ذلك على غسل الأرض إذا تنجست، فمن المعلوم أنها تكاثر بالماء- كما سيأتي إن شاء الله- فكذلك مثلها سائر النجاسات التي تكون على الثياب، أو على الأواني، أو غير ذلك.
وقد ورد الأمر بغسل الأواني إذا كانت متنجسة في حديث أبي ثعلبة الخشني لما ذكر أنهم يحتاجون أن يستخدموا آنية الكفار التي يطبخون فيها الخنازير، ويشربون فيها الخمر، فقال -صلى الله عليه وسلم- إن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها ولم يذكر عددا لذلك الغسل، ومعلوم أن لحم الخنزير نجس، ومع ذلك لم يقل حبسه: اغسلوها خمسا، أو سبعا، أو نحو ذلك، فهذا دليل على صحة القول بأن النجاسة تغسل حتى تزول عينها.
وسيأتينا- إن شاء الله- أن المراد زوال ما يمكن زواله؛ لأنه قد يبقى من النجاسة شيء يصعب إزالته، كاللون مثلا، فقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن دم الحيض يصيب الثوب، فقال يكفيك الماء، ولا يضرك أثره .
وقد وجد زماننا من المزيلات ما يأتي عليه كله، لكن الأصل أن الغسل يكون بالماء، أو ما يقوم مقامه.