إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه. إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف اشترط كثير من العلماء أن يكون التيمم بتراب له غبار يعلق باليد، ومنعوا التيمم بالرمل ونحوه مما لا غبار له، وألزموا المسافر أن يحمل معه التراب إذا سافر في أرض رملية، ولعل الصحيح جواز التيمم بالرمل؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" متفق عليه.
مجموعة محاضرات ودروس عن الحج
103681 مشاهدة
شرح كتاب ثلاثة الأصول (تابع)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وقال الله تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ أخبر تعالى بأنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين؛ لينذروا أممهم حتى لا يحتج محتج ويقول: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فحجة الله بالغة وشريعته قد بلغها رسله، وقد أرسل الله في كل أمة رسولا، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ .
في كل أمة بعث الله رسولا منهم يأمرهم بعبادة الله، وينهاهم عن عبادة ما سواه، وكذلك يقول الله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ؛ أي ما من أمة من الأمم إلا بعث الله إليها نذيرا ورسولا يبين لهم ويعلمهم ويبلغهم شرع الله تعالى ودينه الذي أمروا به: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ .
وأول الرسل نوح فيما ظهر؛ ولهذا قال الله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ .
ويظهر أن الأنبياء من بعد نوح فيكون أول المرسلين؛ وذلك لأن الذين قبله كانوا على الهدى من عهد آدم ذكر المؤرخون أن بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم كانوا على الهدى وعلى التوحيد، ثم وقع الشرك فيهم؛ وسببه الغلو، وكان من جملة من غلو فيهم قوم من الصالحين؛ ذكر الله بعضهم في قوله تعالى: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا .
يقول ابن عباس هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى أوليائهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم؛ ففعلوا ولم تعبد؛ حتى إذا هلك أولئك ونسي علمهم بذلك، ففشا فيهم الشرك الذي هو عبادة هذه الصور وعبادة هذه الأصنام، وسموها آلهة؛ لأن قلوبهم تألهها.
فأرسل الله تعالى إليهم نوحا فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما أي: بقي فيهم تسعمائة وخمسين سنة وهو يبلغهم. مد الله تعالى في عمره هذه المدة، ومع ذلك ما قبلوا، بل أصروا على ما هم عليه، واستكبروا كما ذكر الله عنه قوله: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ؛ يعني عن قبول الحق، فكان هذا فعلهم إلى أن أهلكهم الله، فأغرق من كان على وجه الأرض إلا أصحاب السفينة: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ أنجاهم الله تعالى وبقية من على الأرض أغرقهم؛ فكان هذا أول عقوبة عامة عاقب الله بها الكفار.
هذا نوح أول الرسل، بعد ذلك أرسل الله الرسل بعده مبشرين ومنذرين، وختمهم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو آخر الرسل، قال الله تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ؛ أي آخرهم.
وقد بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل، وانقطاع من السبل، وذلك أنه وجد فترة بين عيسى وبين نبينا صلى الله عليه وسلم، قيل: نحو ستمائة سنة لم يبعث فيها رسول، فعيسى هو آخر الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء وآخر الرسل.
اختاره الله تعالى لحمل رسالته؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم بعث في هذا البلد، بعث في مكة ومكة هي أفضل البلاد في ذلك الزمان، وإلى هذا الزمان؛ لأنها البلد الأمين؛ كما في قوله تعالى: وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ وقد أقسم الله بها في قوله: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ أي: مقيم به، وهي البلد الحرام التي حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض، وقال الله تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وقال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ .
وسماها الله تعالى أم القرى في قوله تعالى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا قيل: إن القرى والأرض دحيت من تحتها من أرضها؛ فكانت بذلك أم القرى ؛ يعني أصلها وأساس القرى هكذا قال بعض العلماء؛ فكان لها مزية وفضيلة في اختيار الله تعالى لها وجعلها مطاف بيته العتيق.
ومن حماية الله لها أن حبس عنها الفيل، وذلك أنه لما بنى رجل من الحبشة يقال له: أبرهة كنيسة وأراد أن يصرف الحجاج إليها، ثم إن رجلا من العرب تقذرها تلك الكنيسة، فغضب ذلك الملك، وأقسم أن يهدم كعبة العرب أي هذا البيت، فحماه الله تعالى؛ لما جاء بجنوده، وجاء معهم فيل صدهم الله تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فهلكوا لم ينج منهم أحد حماية من الله لبيته العتيق.
في ذلك العام ولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كان العرب يؤرخون بزمن الفيل.
ولد صلى الله عليه وسلم وظهرت عناية الله تعالى به؛ حيث اصطفاه، مع أنه مات أبوه في حال حمله قبل أن يولد؛ فتولى الله تعالى العناية به، ولما ولد استرضع في بني سعد من هوازن.
ذكر أن حليمة السعدية جاءت لتطلب من ترضعه؛ فعند ذلك لم تجد إلا محمدا صلى الله عليه وسلم، استرضع عندهم وبقي عندها سنوات، وظهرت أيضا في ذلك الزمان علامات النبوة عليه صلى الله عليه وسلم.
وفى سنة خمس وثلاثين من عمره جددت الكعبة جددت قريش بناء الكعبة وذلك بعد أن انهدمت وطالت مدة انهدامها، ولما رفعوا البناء ووصلوا إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا أيهم يضع الحجر في موضعه؛ وذلك لشرفه ومكانته فاتفقوا على أن أول من يدخل عليهم هو الذي يضع الحجر، فكان أول من دخل النبي محمد صلى الله عليه وسلم فرضوا به. فقال: ضعوا الحجر على-ضعوه- خرقة أو بساط، فوضعوه عليه ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بطرف من أطراف هذا البساط، ثم رفعوه جميعا فرفعوه، وأخذه صلى الله عليه وسلم، ووضعه في موضعه هذا؛ فكان ذلك أول ما تميز به.
وكان أيضا قبل ذلك ظهرت عليه أمارات الصدق فكانوا يسمونه بالأمين؛ لأنه كان مأمونا وموثوقا يثق الناس به، فاختاره الله تعالى لحمل رسالته، فبعدما تم من العمر أربعين سنة أنزل الله عليه الوحي.
وكان قبل ذلك أول ما رأى الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت به مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء؛ الخلوة فكان يخلو بغار حراء ويتزود لذلك الليالي ذوات العدد.
لما أراد الله تعالى إنزال الوحي، جاءه الملك وهو بغار حراء وأنزل عليه أول شيء سورة اقرأ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ .
؛ فنبئ باقرأ يعني كان نزولها عليه علامة على أنه قد اختاره الله تعالى نبيا، ولما نزلت عليه فتر الوحي مدة نحو ثلاث سنين.
ثم بعد ذلك رأى الملك –رآه- جالسا على كرسي بين السماء والأرض؛ ففزع منه وجاء وقال: دثروني دثروني ؛ أي غطوني، فتدثر بلحاف فجاءه الملك وأنزل عليه: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ .
فكان ذلك الوقت الذي أرسل فيه أنزل الله عليه أول هذه السورة المدثر؛ يعني الملتحف بهذا اللحاف.
وفي هذه السورة يقول الله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ أي: من الآن قم أنذر الناس؛ يعني حذرهم، الإنذار هو التخويف، والله تعالى جعله مبشرا ونذيرا. المبشر والبشير هو الذي يبشر بالخير؛ يعني يبشر من أطاعه ويبشر من اتبعه ويبشر من آمن به، يبشر أهل الإيمان؛ كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا .
والنذير هو الذي ينذر المشركين، ينذر عن الشرك ويحذر أهله، ويخوفهم، ويبين لهم عاقبة الشرك، وأن الشرك كفر بالله تعالى؛ فلذلك قال الله: قُمْ فَأَنْذِرْ فالإنذار هو التخويف.
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي: عظم ربك بالتوحيد، وإياك أن تجعل معه من يعظم فهو سبحانه وحده هو المعظم: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ التكبير هو التعظيم يعني: كبره تكبيرا بمعنى: اعتقد أنه الكبير، الكبير المتعالي الذي له الكبرياء وله العظمة وله الجبروت، وهو الكبير الجليل إذا عظمت ربك سبحانه وتعالى وكبرته؛ عرفت بذلك أنه وحده هو الإله وأن ما سواه لا يصلح أن يكون إلها، لا تصلح الألوهية لشيء من المخلوقات.
فهذا هو السبب في أن الله تعالى أمره في أول ما أنزل عليه أن يعظم الله: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي: عظمه بالتوحيد واعتقد كبرياءه حتى لا يكون معه من هو شريك له في هذه العبادة، عظمه بالتوحيد.
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ قيل: إن المراد طهر أعمالك عن الشرك؛ وذلك لأن الشرك يعتبر دنسا، يعتبر وسخا وقذرا؛ فلذلك لا بد أن يطهره: أن يطهر توحيده وأعماله عما يدنسها، كما أن الثياب التي يلبسها يحرص على أن تكون نظيفة، ليس فيها وسخ وليس فيها قذر، فكذلك الشرك يدنس الأعمال ويوسخها ويقذرها؛ فالمعنى طهر أعمالك ونزهها عما يدنسها وعما يفسدها، ويكون ذلك أيضا أمرا للأمة بهذا، أن الأمة كذلك يطهرون أعمالهم عن الشرك.
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ الرجز الأصنام. قرأها بعضهم (الرِجز) بكسر الراء وبعضهم: (والرُجز).
الرجز هو كل ما عبد من دون الله تعالى؛ ولهذا يسمى رجزا ويسمى رجسا؛ كما قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وقال تعالى: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وسمى الله تعالى الأنصاب رجسا في قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ .
الأنصاب هي الأصنام، رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فالرِجز والرُجز هي الأصنام، وهجرها تركها وأهلها والبراءة منها ومن أهلها.
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أي اهجر المعبودات التي يعبدها أهل زمانك، وكذلك مرهم أن يهجروها وأن يتركوها وأن تتركوا أهلها وأن يبتعد عنهم ويتولوا عنهم؛ فكان ذلك من أول ما فرضه الله تعالى عليه أن يدعو إلى التوحيد وأن يبينه، وأن يحذر من الشرك، وأن يحذر من أصنافه، وأن يبين لهم أن العبادة حق الله تعالى.
بقي على ذلك عشر سنين بعدما أوحي إليه، عشر سنين وهو يدعو إلى التوحيد، وينذر عن الشرك، لم يؤمر بشيء من العبادات من الصلاة والزكاة ولا غيرها وإنما كان يركز على التوحيد؛ أي على إخلاص العبادة لله: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ يأمر بالتوحيد؛ فكان يحث على عبادة الله وعلى إخلاص الدين له، وعلى ترك عبادة ما سواه، وأن الله تعالى هو وحده الإله المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له.
وكذلك أيضا كان ينهى عن العادات الجاهلية؛ عن العادات السيئة؛ ولذلك أنزل الله عليه من -الدعوة- الآيات التي تبين له وتبين للناس الأمر الذي أمر به، وكذلك ما يفعله أهل الجاهلية من المنكرات ومن المحرمات وما أشبهها، مثل قول الله تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا والخطاب له ولكن المراد أمته؛ أي أنك إذا فعلت ذلك، فإنك تقعد ملوما مخذولا.
ومثل قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ هذا تأكيد للتوحيد: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أمر الله تعالى أيضا في هذه السور التي نزلت في هذه المدة بالأوامر والشرائع التي يؤيدها العقل مثل قوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ومثل قوله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ أمر الله بالإحسان إلى الوالدين، وأمر بالإحسان إلى الأقارب؛ وذلك مما تقتضيه العقول؛ العقول الذكية والفطر السليمة.
إذا نظر الإنسان بعقله عرف أن هذا مما يأمر الله تعالى به وأنه من الدين: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ؛أي أعطهم حقهم، وتصدق على المسكين وعلى ابن السبيل. وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا النهي عن التبذير الذي هو إفساد المال، دليل أيضا على أنه جاء بما تؤيده العقول.
كذلك نهاه الله تعالى ونهى الأمة عن الفساد، عن القتل بغير حق فقال: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ هذا أيضا مما جاءت به هذه الشريعة لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق.
ونهى عن الفواحش بقوله تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا وكان أيضا مما تنكره العرب مع إنه متفش وظاهر، ولا يزني عندهم إلا الإماء والمماليك من النساء.
كذلك أيضا نهى عن قتل الظلم بقوله: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ونهى عن الاعتداء على حقوق المستضعفين بقوله: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ وأمر بالقسط وإيتاء حقوق الناس بقوله تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ أمر بإيفاء المكاييل والموازين، وعدم بخس الناس حقوقهم.
ونهى عن الكبر في قوله تعالى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ؛ يعني متكبرا متجبرا، وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ كل ذلك من الأخلاق والآداب التي يؤدب الله تعالى بها نبيه، ويؤدب بها الأمة قبل أن تفرض عليه الصلوات، وقبل أن يؤمر بالزكاة وبالصيام وبالحج يعني: أمر فريضة كل ذلك من الأخلاق التي جاء بها، والتي إذا تأملها العاقل عرف أنها من عند الله تعالى.
وبعدما مضى عشر سنين وهو يقرر التوحيد وينهى عن العادات السيئة، بعد ذلك فرض الله عليه الصلوات الخمس وأسرى به، وذلك أنه جاءه الملك، وهو في بيت أم هانئ بنت أبي طالب فأسري به، وقبل الإسراء أدخل إلى داخل المسجد، وغسل قلبه من ماء زمزم وشرح له صدره، ولما طهر قلبه أسري به إلى بيت المقدس ؛ إلى المسجد الأقصى ثم من المسجد الأقصى أيضا عرج به إلى السماء، صعد به الملك إلى السماء الدنيا، ثم إلى السماء الثانية والثالثة والرابعة.
ذكر ذلك في حديث الإسراء وحديث المعراج، وذكر أنه وجد موسى نبي الله في السماء السادسة، وأنه كلم ربه، وأن الله فرض عليه خمسين صلاة في كل يوم وليلة ولما رجع ومر بموسى سأله فقال: ما فرض عليك؟ قال: خمسون صلاة. فقال: لقد عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا تطيق ذلك؛ فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فرجع فأنزل الله عليه أو أسقط عنه عشرا وخفف عنه، ولم يزل يتردد بين موسى وبين ربه فيخفف عنه ويقول: خفف عن أمتي حتى جعلها الله خمسا -وهي هذه الصلوات الخمس- فناداه مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي هي خمس وهي خمسون -أي: من حافظ على هذه الخمس فله أجر خمسين صلاة فإن الحسنة بعشر أمثالها.
فصلى بمكة ثلاث سنين كان يصلي في المسجد الحرام وكان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس إذا صلى، وكان في أول أمره مستخفيا هو ومن آمن معه؛ كانوا يستخفون في بيت يقال له: دار الأرقم قريبا من الصفا فلما أسلم معه بعض من أصحابه بلغوا نحو الأربعين وكان فيهم حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر بن الخطاب عند ذلك قالوا: لماذا لا نخرج، ونصلي في المسجد، ونعلن عبادتنا، ونعلن أمرنا؟
فخرجوا في صفين، لما رآهم المشركون ساءهم ذلك، ولكن لم يقدروا وفيهم حمزة أسد الله وأسد رسوله، وفيهم عمر بن الخطاب فاروق هذه الأمة، فهابوا أن يجرءوا عليهم أو يعذبوهم لما أسلم عمر ؛ يقول ابن مسعود رضي الله عنه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر ؛ أي: انتصر لهم وحماهم وكان رشيدا وكان شجاعا لم يقدروا على أن يتجرءوا بتعذيب المؤمنين مع أنهم كانوا يعذبونهم بذلك قبل.
والحاصل أنه صلى بمكة ثلاث سنين، ولما قوي وكان عنده أصحاب، ورأى كثيرا منهم مستضعفين؛ أمر أكثرهم بالهجرة إلى الحبشة فهاجروا إلى الحبشة ذكر لهم أن فيها ملكا لا يظلم أحد عنده، وهو النجاشي فهاجروا. هاجر كثير منهم بنفسه وبعضهم هاجر بامرأته، وكان منهم عثمان بن عفان وكان زوج بنت النبي صلى الله عليه وسلم التي هي رقية فهاجر هناك، ثم بعدما أسلم أهل المدينة وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة .
وسبب إسلام أهل المدينة أنه كان عندهم طوائف من أهل الكتاب من اليهود؛ عندهم بالمدينة ثلاث طوائف: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، فكان اليهود يهددون العرب المشركين ويخوفونهم، ويقولون: إنه قد قرب زمان بعثة نبي من الأنبياء، سوف نقاتلكم معه ونقتلكم، فدائما يخوفونهم، فلما بعث ولم يكن منهم وكانوا يظنون أنه منهم يعني من اليهود؛ حسدوه حيث إنه من العرب؛ قال الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ .
كانوا يستفتحون يقولون: سنقاتلكم مع النبي الذي سيبعث، فلما سمع به الأنصار وعرض عليهم ما يدعو إليه؛ عرفوا صفته وقالوا: هذا هو النبي الذي يحدثنا به اليهود، ويخوفوننا؛ فهلم فلنبايعه ولنكن من السابقين.
فأراد الله بهم خيرا فكانوا من السابقين، ولما بايعوه صلى الله عليه وسلم التزموا أنهم ينصرونه مما ينصرون منه أموالهم وأولادهم وأسرهم وأهليهم إذا هاجر إليهم، فعند ذلك أمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة .
أرسل إلى المدينة مصعب بن عمير يفقههم ثم بعد ذلك أذن لأصحابه بالهجرة؛ فكان ممن هاجر سابقا عمر بن الخطاب في عشرين من المهاجرين، ثم بعد ذلك أذن الله تعالى لنبيه أن يهاجر.
وكان المشركون قد هددوه بأن يقتلوه وتآمروا على ذلك، وعقدوا مؤتمرا أو ندوة في دار الندوة وحضرهم الشيطان إبليس في صورة شيخ نجدي، قال الله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ واتفق رأيهم على أنهم يقتلونه؛ يأخذون من كل قبيلة شابا شجاعا ويعطونه سيفا ويقولون: اضربوه ضربة رجل واحد حتى يموت ويتفرق دمه في قبائل قريش؛ حتى ترضى بنو هاشم بالعقل يعني: بالدية.
هكذا اتفقوا، ولكن الله تعالى حماه وعصمه؛ أمره بأن يخرج ليلا، فخرج هو وأبو بكر واختفيا في غار ثور الذي جنوب مكة في قبة جبل ثلاثة أيام حتى هدأ الطلب، ثم جاءهم رجل قد أمناه راحلتيهما عامر بن فهيرة فركبا على بعيرين وتوجها إلى المدينة ووصل إلى المدينة سالما مع كثرة الطلب الذي يطلبه قريش حتى جعلوا لمن جاء به مائة من الإبل، ولكن الله تعالى حماه.
في طريقه إلى المدينة رآه بعض بني مدلج هو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فركب خلفه، ركب فرسا حتى يدركه ويرده، ولكن لما قرب دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فساخت قوائم فرسه في الأرض، وكان ذلك من نصر الله تعالى، فعلم بذلك أنه معصوم فتعهد له وقال: ادع الله لي حتى ينجيني ولا أتعرض لك، فدعا له وأسلم بعد ذلك سراقة .
وكذلك أيضا حدثت أية ومعجزة له وذلك أنه ضاف بامرأة يقال لها: أم معبد وليس عندها غنم إلا شاة عجفاء هزيلة ليس فيها لبن ولا شحم ولا لحم، فقال : هل تأذنين لنا أن نحلبها؟ فقالت: ما فيها لبن، فمسح ضرعها فدر حتى امتلأ فحلبوا منها فملئوا أواني كثيرة وشربوا وتركوا أوانيها وقدورها مليئة باللبن وذلك من المعجزات التي أيده الله تعالى بها.
ذكروا أن قريشا سمعوا هاتفا ينشد أبياتا، يمشي وهم ما يرونه وكأنه رأي من الجن يخبرهم ويصف طريق النبي صلى الله عليه وسلم أنه توجه إلى المدينة ؛ فعرفوا أنه قد نجا.
الهجرة التي هي الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام فريضة؛ فرضها الله تعالى على المستضعفين، ونهى أن يقيموا بين المشركين إذا كانوا يضطهدونهم ولا يقدرون على إظهار دينهم، أول ما نزل على المؤمنين قول الله تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ .
أذن الله لهم وهم بمكة يعذبون ويضطهدون أن يهاجروا: إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ أرض الله واسعة؛ يعني أخبرهم بأن أرضه واسعة.
فهذا دليل على أن الله تعالى أمر المؤمنين الذين يضايقون في هذا البلد أن يهاجروا مع أن مكة أفضل البلاد، وأن بها بيت الله، ولكن لما كان أهلها مشركين يعذبون من آمن؛ فإن لهم أن ينتقلوا منها إلى بلد يأمنون فيها على أنفسهم، وعلى أموالهم.
ونزل في ذلك أيضا قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ذكر أنه في غزوة بدر خرج المشركون لينصروا عيرهم، وليقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولما خرجوا بقوتهم وحدهم وحديدهم وأسلحتهم، أخرجوا معهم بعض من كان قد آمن اثنين أو ثلاثة ممن كانوا قد أسلموا بمكة ولكنهم بقوا بين أهل مكة فخرجوا مع أهل مكة مع المشركين فقتلوا في المعركة. علم بهم المؤمنون وقالوا : قتلنا إخواننا قتلنا فلانا وفلانا ممن كانوا قد أسلموا فبين الله أنهم ليسوا إخوانا لكم؛ وذلك لأنهم لم يؤمنوا حقيقة الإيمان.
فلذلك قال الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ؛ أي هؤلاء الذين أقاموا بمكة وهم يقدرون على الهجرة ظالمي أنفسهم توفاهم ظالمي أنفسهم فتسألهم فيم كنتم؟ فيقولون: كنا مستضعفين في الأرض أي: إننا مستضعفون، فتقول الملائكة: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا لماذا لم تهاجروا مع المهاجرين الذين هاجروا إلى الحبشة أو الذين هاجروا إلى المدينة ؟ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا .
توعدهم الله بقوله: فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ثم استثنى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ هؤلاء عذرهم الله؛ لأنهم لا يستطيعون حيلة ليس لهم حيلة في الهروب ولا يقدرون عليه وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لا يدرون الطرق، ليس عندهم أموال يخرجون بها، وليس عندهم رواحل يرحلون عليها، وليس عندهم نفقات فأولئك عذرهم الله: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا .
فهذه أدلة تدل على أن الهجرة أوجبها الله تعالى على المسلمين: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، إذا كانت البلاد بلاد شرك، لا يقدر الإنسان أن يظهر دينه، ولا أن يترك الشرك بل يخاف على نفسه، يفتن في دينه ويعذب في نفسه، ويضطهد ويؤذى ويحبس ويضرب ويهدد بالقتل؛ كما حصل لكثير من المستضعفين بمكة أذن الله تعالى لهم بالهجرة وعذر المستضعفين الذين لا يستطيعون.
وكذلك ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها هكذا أخبر بأن الهجرة التي هي الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، أنها باقية لا تنقطع حتى تطلع الشمس من مغربها، إذا طلعت الشمس انقطعت التوبة؛ وذلك مذكور في قول الله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا هذا وقت طلوع الشمس لا ينفع نفسا إيمانها، يختم على الأعمال، وذلك قريب من قيام الساعة، قرب قيام الساعة.
والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله تعالى بمكة وهاجر إلى المدينة ولما استقر في المدينة أمر ببقية الشرائع؛ فرضت عليه الشرائع فمنها: الأذان الذي هو الإعلام بدخول الوقت، رفع الصوت بهذا النداء للصلاة، ومنها: الصيام. صام تسع رمضانات، كان فرضه في السنة الثانية من الهجرة ومنها: الجهاد، فرض على مراتب:
المرتبة الأولى: الإذن في قوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي: أذن لهم بالقتال.
ثم مرتبة ثانية: قتال من قاتلهم في قوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا أي: لا يقاتلوا من لم يقاتلكم، فقاتلوهم دفعا لشرهم.
ثم بعد ذلك مرتبة ثالثة: قتال المشركين لشركهم، وهو معنى قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .
هذا من جملة ما فرضه الله تعالى عليهم، كذلك أيضا فرضت عليه الزكاة ذات الأنصبة، وفرض عليه الحج وكان فرضه على الصحيح في سنة ست بنزول قول الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وكان قبل ذلك غير فريضة وإنما هو سنة؛ يعني أن يحجوا من غير فرض، فلما فرضه الله أصبح ركنا من أركان الإسلام، الحج والجهاد وما أشبه ذلك.
وفرض عليه وعلى أمته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي المدينة أيضا نزلت الحدود التي هي عقوبات على ذنوب مقدرة؛ يعني أنزل الله تعالى تحريم الزنا وذكر العقوبة فيه بقوله: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وكان أول ما نزل فيه الأمر بالحبس في قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ثم نزل بعد ذلك العقوبة بقوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ .
وفرض عقوبة القذف الذي هو رمي المحصنات بقوله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وفرض عقوبة السرقة في قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وكذلك نزل تحريم الخمر في قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ أي: ابتعدوا عنه واتركوه؛ فذلك دليل على أنه محرم، وكذلك بقية المحرمات والعقوبات التي رتبت عليها، كل ذلك نزل بالمدينة .
واستمر نزول الوحي والآيات فيها أحكام، والتي فيها تعاليم إلى أن قرب أجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقبل موته بثلاثة أشهر ونحوها أو أقل، نزل عليه قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نزلت عليه وهو واقف بعرفة في حجة الوداع أخبر بأنه أكمل الله تعالى له الدين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ؛ وذلك لأنه أظهر الله تعالى نصره بعد فتح مكة .
خرج من مكة في راكبين ثاني اثنين، ورجع إليها بعد ثمان سنين رجع إليها ودخلها في عشرة الآلاف، وذلك نصر الله تعالى؛ وذلك لأن دينه الذي جاء به دين صحيح من الله تعالى، من تأمله وتفكر فيه علم بأنه من الله، وبأنه موافق للشرع، والموافق للعقل.
ذكر أن أعرابيا وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عما جاء به، فبين له الواجبات وبين له المحرمات؛ فأسلم في حينه في يومه ورجع إلى قومه فلامه أكثرهم وعاتبوه فقالوا: كيف تركت دينك؟ كيف اتبعت هذا الرجل الذي جاء بدين جديد؟ فقال ذلك الأعرابي: إني نظرت فيما جاء به وفيما أمر به؛ فرأيته ما أمر بأمر فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به، بل كل ما جاء به وكل ما أمر به؛ فإنه موافق للعقل؛ كل ما أمر به فإن العقول السليمة تستحسنه، وكل ما نهى عنه وحرمه فإن العقول السليمة تستقبحه.
ولا عبرة بمن شذ وانصرف عن الاستقامة، ولا عبرة بمن يستحسن القبيح ويستقبح الحسن، لا عبرة بأولئك. فلما بلغ الرسالة، وأكمل الله تعالى له الدين، وأتم به النعمة، وحصل أنه علم الأمة ما يحتاجون إليه، بعد ذلك اختاره الله لجواره ورفعه إلى الرفيق الأعلى، وقبضه إليه بعدما بشره بأنه قد بلغ ما أنزل إليه، أمره في آخر الأمر بقوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فقبل ذلك وبلغ ما أنزل إليه، وكان من علامات قرب أجله.
كذلك أيضا نزل عليه في آخر أمره سورة النصر: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا .
استنبط ابن عباس رضي الله عنه من هذه السورة أن هذا أمر له بالاستعداد للموت؛ كأنه يقول: إنك بلغت وأديت ما أرسلت إليهم به أديت الرسالة ونصحت للأمة، وبلغت ما أوحي إليك فاستعد للقاء الله، واختم عملك واختم عمرك بالذكر بالتسبيح والتحميد والتوبة والاستغفار.
فكان يمتثل ذلك في آخر حياته لا يقوم مقاما ولا يقعد مقعدا إلا قال: سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، سبحانك ربنا وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك امتثالا لهذا الأمر.
فقبضه الله تعالى إليه وبقي دينه، دينه الذي دعا إليه: هو هذا الدين الذي هو دين الإسلام، فلا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها عنه؛ ورد عنه أنه قال: لقد تركتم على البيضاء – أو المحجة البيضاء- ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك .
ترك أمته على هذا الدين بعدما أكمله الله تعالى له، أكمل الله له الدين وأتم عليه النعمة ورضي له الإسلام دينا، وقبضه إليه وبقي دينه.
لما قبض صلى الله عليه وسلم خلفه صحابته، قام أبو بكر رضي الله عنه فقال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقرأ قول الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ؛ أي كيف تنقلبون وترتدون وتتركون الدين الذي قد من الله تعالى به عليكم ورضيه لكم؟ الذي هو الإسلام.
فعند ذلك قام صحابته -رضي الله عنهم- بتبليغ هذا الدين لمن بعدهم؛ فكانوا يدعون إليه ويعلمونه لأولادهم، ويعلمونه لتلاميذهم، وينشرون هذا الدين في أرجاء المعمورة، ويقاتلون من كفر ويدعونهم إلى الإسلام، لا يريدون إلا هداية الناس وإدخالهم في دين الله تعالى الذي هو الدين القويم؛ فغزوا البلاد ونصرهم الله تعالى؛ وذلك لأنهم كانوا يثبتون في قتالهم، ولا ينهزمون؛ كما في الآية التي سمعنا في قراءة الإمام في هذه الصلاة، وهي قول الله تعالى: إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ .
فكانوا يثبتون عند القتال ولا يولون العدو أدبارهم، وذلك من شجاعتهم ومعرفتهم بأنهم إذا صبروا نصرهم الله وأظهرهم على أعدائهم، ومكن لهم دينهم؛ فبلغوا الوحي والقرآن إلى أقاصي البلاد وإلى دانيها، وأظهر الله تعالى هذا الدين ونصره وحقق قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ فكان هذا من جملة نصر الله تعالى لهذا الدين حيث تكفل بإظهاره على الدين كله.
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دخل أهل الجزيرة أهل هذه الجزيرة وصل الإسلام إلى البوادي التي في أطراف العراق وفي البحرين وفي كذلك اليمن انتشر الإسلام في اليمن وهكذا أيضا في الحجاز وفي نجد .
ثم في عهد الصحابة دخل أهل العراق وأهل الشام وأهل مصر وأهل خراسان وأهل إفريقيا وأهل تلك البلاد، قاتلهم الصحابة حتى أدخلوهم في دين الله تعالى، أو بذلوا الجزية والتزموا بأحكام الإسلام، فذلك من نصر الله تعالى وإظهاره لهذا الدين.
لا خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها عنه. ما أماته الله حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة. الخير الذي دل الأمة عليه هو التوحيد، والدين الصحيح والإسلام الصحيح، وكل ما يحبه الله تعالى وكل ما يرضاه وكل ما يأمر به من الخير دل الأمة عليه، وقال: ما تركت من شيء يقربكم إلى الله إلا حدثتكم به وثبت عنه أنه قال: ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، ويحذرهم من شر ما يعلمه لهم الشر الذي حذرهم عنه هو الشرك، وكل ما يكرهه الله تعالى ويأباه.
فهكذا بعثه الله تعالى، وأبقى هذا الدين فهذا دين الله الذي هو دين الإسلام، الذي لا يرضى غيره بقوله تعالى : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ .
بين صلى الله عليه وسلم أمر الإسلام وأمر المسلمين بأن يصححوا عقائدهم ويصححوا أعمالهم ويصححوا إيمانهم، وأخبرهم بأنهم إذا أطاعوا الله واتبعوا ما جاء به في هذه الشريعة؛ فلهم الأجر العظيم، ولهم النصر ولهم التمكين.
أنزل الله تعالى عليه قول الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا فحقق الله تعالى ذلك لهم، فبدلهم بعد الخوف أمنا، بعد ما كانوا يخافون؛ لا يسافر أحدهم إلا في جوار فأمنوا؛ وقد بشرهم بذلك، قد أخبرهم أنه سوف تسير الظعينة من أقصى اليمن حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله .
وكذلك أيضا أخبرهم بأنهم إذا عملوا عملا صالحا فسيلقون جزاء أعمالهم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فمن عمل عملا صالحا جازاه الله به في دنياه وفي أخراه؛ أنزل عليه قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
فكان ذلك من البشارة؛ البشارة بأن الله تعالى سوف ينصرهم ويؤيدهم ويقويهم ويظهرهم ويؤيد ما كانوا عليه، ويحيهم حياة طيبة؛ حياة السعداء، وفى الآخرة لهم الأجر الكبير، الأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى، حقق الله تعالى لكل من اتبعه هذا كله.
أخبرهم أيضا بالجزاء الأوفى في الآخرة، أخبرهم بأنهم -ولا بد- سوف يموتون، وبعد الموت لا بد أنهم يبعثون، أخبرهم بالدار الآخرة: أن هذه الدنيا ليست دار قرار، بل هي دار ظعن وارتحال، وأنهم إذا قدر الله تعالى وجود من يوجد من الخلق؛ فإنه قدر أيضا أنهم سيموتون عندما ينفخ في الصور، وإذا ماتوا فلا بد أنهم سيبعثون، قرر الله تعالى في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن هناك دارا أخرى هي دار القيامة، التي يجازون بها، وأخبرهم بأن الناس سوف يبعثون ولا بد؛ ليسوا إذا ماتوا يهملون:
ليـس من مـات فاستـراح بميـت
.......................................
ليسوا متروكين، إنهم إذا ماتوا لا بد أنهم يبعثون بعد الموت، ويجازون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ولما أخبرهم بالدار الآخرة عرفوا أنهم مبعوثون فكانوا يستعدون للدار الآخرة، ويعملون الأعمال الصالحة التي تنجيهم بعد الموت أي: بعد البعث، تنجيهم من عذاب الله تعالى، هذا وعد الله تعالى وخبره بقوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى .
وأخبر بأن الذين يكذبون بالدار الآخرة، ويكذبون بالبعث ليسوا بمسلمين، بل إنهم كفار، وأقسم على البعث في ثلاث آيات من القرآن:
في قوله تعالى في سورة يونس، أخبر تعالى بأنهم سوف يبعثون، وكذلك في سورة سبأ، وفي سورة التغابن قال الله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ .
أقسم بقوله: لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بَلَى وَرَبِّي هذا قسم منه بالله تعالى. وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ بَلَى وَرَبِّي أقسم بربه، وقال تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ يعني: أن البعث حق فمن كذب به فقد كفر كما في هذه الحالة: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا .
وكذلك أيضا أخبر بأنهم بعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم؛ كما في هذه الآية: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى هذا الجزاء يعم الجزاء في الدنيا ويعم الجزاء في الآخرة؛ ليجزي الذين آمنوا ويجزي الذين أحسنوا بأحسن ما كانوا يعملون؛ كما في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ .
فيعتقد المسلمون صحة ما جاء به ويحرصون على أن يتمسكوا بالدين الذي تركهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه؛ حتى يلقوا ربهم، وحتى يكونوا في زمرة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ويحرصون أيضا على أن يكونوا موحدين، يعبدون الله تعالى ولا يعبدون سواه؛ فإنه أمرهم بعبادته ونهاهم عن عبادة الطاغوت؛ كما في قول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وقال الله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ .
الطواغيت: كل ما عبد من دون الله تعالى، فرض الله على الجميع الإيمان بالله والكفر بالطاغوت؛ كما قال تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى من كفر بالطاغوت؛ الذي هو كل ما عبد من دون الله وآمن بالله وحده؛ فهذا هو الذي استمسك بالعروة الوثقى، والعروة الوثقى هي كلمة لا إله إلا الله، وكلمة الإسلام وكلمة الإخلاص؛ من تمسك بها نجا، ومن تركها أو أخل بها هلك.
مثلت بأنها عروة أي: عروة وثيقة، من تمسك بها وأمسكها بيديه؛ فقد تمسك بالسنة، وهي السنة النبوية التي أوصى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين؛ تمسكوا بها وعضوا عليها بالتواجذ .
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى والطاغوت: كل ما عبد من دون الله، يقول ابن القيم في تعريف الطاغوت: الطاغوت كل ما عبد من دون الله، أو ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فهو الطاغوت، كل من تجاوز حده فهو طاغوت؛ وذلك لأنه مشتق من الطغيان فقوله تعالى: أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ؛ أي اتركوا عبادة ما سوى الله تعالى ممن تجاوز حده وتعدى طوره من معبود أو متبوع أو مطاع فهو طاغوت.
والطواغيت كثير، ورءوسهم خمسة يعني: أشهر الطواغيت فأولهم: الشيطان، وهو المذكور في قوله تعالى: أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ الشيطان: إبليس هو رأس الطواغيت؛ لأنه تعدى وبغى وطغى فاستحق العذاب وأقدم عليه.
فكل من طغى فإنه متشبه بالطاغوت أي: متشبه بإبليس، وكل من عبد وهو راض؛ يعني عظمه الناس وعبدوه وخضعوا له وتمسحوا به، انحنوا له وخشعوا له فإنه يعتبر طاغوتا، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه؛ يعني أمرهم بأن يعبدوه وأن يقوموا له وأن يخضعوا وأن يخشعوا وأن يركعوا له، وأن يتذللوا بين يديه، وأن يمشوا على ركبهم تعظيما له يعتبر ذلك طاغوتا؛ لأن هذا عبادة والعبادة لا تصلح إلا لله.
وكذلك كل من ادعى علم الغيب، ادعى أنه يعلم الغيب ويعلم ما لم يكن، مما هو من الأمور الغيبية، إذا ادعى ذلك فإنه يعتبر من الطواغيت.
وكذلك أيضا الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، مَن حكم بغير شرع الله تعالى فهو من الطواغيت. هؤلاء رءوس الطواغيت، يتجنبهم المسلم، ويحرص على أن يكون من أهل الإيمان الذين آمنوا بالله تعالى، ويتمسك أيضا بدين الإسلام الذي فرضه الله تعالى وأمر به.
ومنه: الجهاد في سبيل الله بكل ما يستطيعه من الجهد؛ ولهذا جاء في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله أي: أعلى سنامه، أعلى الشيء. ذروة الشيء؛ يعني أعلاه كذروة الجبل يعني أعلاه، وذروة سنام البعير يعني أعلاه، فجعل الجهاد ذروة سنام الإسلام.
فمتى جاهد المسلمون وأقاموا الجهاد؛ نصرهم الله تعالى، ومتى تركوه وتخاذلوا؛ فإن العدو يستولي عليهم ويذلهم ويشينهم؛ كما جاء في الحديث: يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أمن قلة بنا يومئذ يا رسول الله؟ قال: أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع المهابة من قلوب أعدائكم ويلقى في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت فإذا تركوا الجهاد؛ فلا بد أن العدو يجاهدهم ويغزوهم ويضطهدهم، كما حصل في هذه الأزمنة؛ فإن الأعداء تكالبوا على المسلمين، وجاءوهم في عقر دورهم فجاءوهم في فلسطين التي هي الدولة الإسلامية العريقة في الإسلام، واستولوا على جزء كبير من بلاد المسلمين.
وكذلك أيضا لما استولوا في القرن الماضي على كثير من البلاد، استولوا بما يسمى بالاستعمار، استعمروا كثيرا من البلاد ونشروا أديانهم الباطلة التي هي دين النصرانية؛ فتمكنت النصرانية من كثير من البلاد الإسلامية؛ وكل ذلك بسبب ترك المسلمين للجهاد في سبيل الله حتى استضعفهم الأعداء.
فنقول: إن على المسلمين أن يرجعوا إلى دينهم؛ حتى ينصرهم الله تعالى، وقد وعدهم الله بذلك بقوله: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ .
فنقتصر على هذا. هذا تلخيص للأصل الثالث من الأصول الثلاثة التي هي معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، والأشياء الظاهرة لم تحتج إلى تعليق. والله أعلم، وصلى الله على محمد .
أسئـلة
بسم الله الرحمن الرحيم...
س: السؤال الأول يقول فضيلة الشيخ: شخص يرغب في السكن في إحدى المدينتين مكة والمدينة ولكنه يرغب مكة أكثر لمضاعفة الأجر ..؟
السكنى في مكة وفي المدينة فيها خير؛ وذلك لوجود المسجدين: المسجد النبوي والمسجد الحرام ولا شك أن مضاعفة الصلاة في المسجد الحرام أكثر؛ فمن حصل له أن يسكن في المدينة فله أجر إذا حرص على أن يصلي في المسجد النبوي وفيها أيضا الجامعة الإسلامية، وبها مشائخ وعلماء من أهل السنة، وإن كان فيها كثير من البدع كالصوفية، وكذلك الرافضة الذين تمكنوا فيها أخيرا لكن إذا تمسك بدينه وتمسك بالسنة؛ وجد من يساعده.
كذلك أيضا مكة فيها الكعبة التي هي بيت الله والمسجد الحرام فمن ظفر بذلك وقدر على أن يصلي في المسجد الحرام كل يوم مرة أو مرتين فله أجر ويطوف بالبيت العتيق ما تيسر فله أجر.
س: يقول: ... امرأة ذهبت إلى العمرة وقبل الطواف حاضت فطافت... ذلك أتت .. بعدة عمر، وحجتين، وتزوجت بعد سنين، فماذا عليها؟
عمرتها الأولى بطلت؛ لأنها طافت وهي حائض ولا يصح الطواف مع الحيض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: <متن_ح ربط=Hits18250.htm معياري=افعلي ما يفعله الحاج غير أن لا أن تطوفي بالبيت حتى تطهري > افعلي ما يفعله الحاج غير أن لا أن تطوفي <اسم مجموعة=علم نوع=مكان معياري