اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . logo إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة
shape
فصول ومسائل تتعلق بالمساجد
18473 مشاهدة print word pdf
line-top
خامسا: رفع الأصوات في المساجد

وذلك لأن المساجد أماكن الطاعة والعبادة، وفيها يقبل العبد على صلاته وأوراده، ويحضر قلبه، ويخشع لربه، فمتى سمع الأصوات المزعجة انشغل قلبه، وغفل عن ذكر الله تعالى، وتشوش عليه فكره، وتشتت عليه ذهنه، فلا جرم لزم احترام المساجد، ولو كانت خالية من المصلين والتالين، لحرمة الملائكة وأماكن العبادة.
وقد روى البخاري عن السائب بن يزيد أن عمر بن الخطاب أمره أن يأتيه برجلين في المسجد، فقال: من أين أنتما؟ فقالا: من الطائف فقال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله .
فالظاهر أنهما يتكلمان كلاما عاديا يسمعه عمر رضي الله عنه وهو في جانب المسجد، فزجرهما عن رفع الصوت مطلقا، وليس خاصا بمسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنما ذكر الواقع منهما.
وقد روى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإياكم وهيشات الأسواق . قال النووي أي اختلاطها، والمنازعة والخصومات، وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها .
وهذا عام في وقت الصلاة وغيرها، وذلك لأن الأسواق يحصل فيها الاختلاف ورفع الصوت والنزاع، فأمرهم باحترام أماكن الصلاة، وإبعادها عما يحصل في الأسواق.
فأما الحديث الذي رواه البخاري وغيره عن كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في بيته، فخرج إليهما فنادى: يا كعب قال: لبيك يا رسول الله. قال: ضع من دينك هذا. وأومأ بيده أي: الشطر، قال: قد فعلت. قال: قم فاقضه .
فقد استدل به على جواز التقاضي والملازمة في المسجد، ورفع الصوت فيه ما لم يتفاحش، ولعلهما كانا في أحد جوانب المسجد، أي: بقربه، أو أن الصوت كان خاصا يسمعه القريب، ويمكن أن الدين تأخر وفاؤه، ولم يتمكن كعب من رؤيته إلا في المسجد، ولعلهما رفعا الصوت، فأصلح بينهما لينقطع رفع الصوت .
ويستثنى من ذلك رفع الصوت بالذكر الوارد بعد انقضاء الصلاة المكتوبة، بالاستغفار ثلاثا، وقول: اللهم أنت السلام.. إلخ، وقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. إلخ، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
وقال ابن عباس كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته. وفي رواية: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بالتكبير .
ولعل ذلك فيما إذا انشغلوا كلهم بالذكر والتهليل والتوحيد، فيجتمع من أصوات المجموع ما يرتفع، حتى يسمعه من هو خارج المسجد، وإن لم يسمع صوت كل واحد بمفرده.
وأما التصويت بقراءة القرآن خارج الصلاة فيجوز إن كان ذلك أولى للقارئ، وأقرب إلى استحضاره وتدبره، ولم يكن من يتضرر برفع الصوت، فأما إن كان هناك نائم أو نيام يتضررون بالصوت، فالأولى خفض الصوت بالقراءة والذكر، فإن كان الجميع يقرؤون ويصوتون صوتا عاديا، وحصل به نشاط فلا بأس به، وقد قال تعالى: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا .
وقد ذكر ابن كثير عند تفسير هذه الآية: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما كان متواريا بمكة كان إذا صلى ورفع صوته بالقراءة سمعه المشركون فسبوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فنزلت الآية) وهو حديث متفق عليه .
وروى ابن جرير عن ابن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض، وأن عمر كان يرفع صوته، فسئل أبو بكر فقال: أنا أناجى ربي، وقد علم حاجتي، وقال عمر أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان. فلما نزلت الآية قيل لأبي بكر ارفع شيئا. وقيل لعمر اخفض شيئا .
وهذا يعم القراءة في الصلاة وخارجها، وسواء كان في المسجد أو في غيره، فمتى كان القارئ يجد نشاطا وقوة في الجهر، ويحصل منه التدبر والتعقل، وحضور القلب، ولا يحصل ضرر منه على غيره، فله أن يجهر بحيث لا يقصد الإعجاب ولا الرياء ولا السمعة.


line-bottom