فصول ومسائل تتعلق بالمساجد
سادسا: اتخاذ المسجد مستقرا أو سكنا لغير حاجة
فإنه يلزم من ذلك فعل ما يكره فيه، أو ما يحصل بعده، كامتهان للمسجد، واستهانة بحرمته، مع أن جنس ذلك واقع في العهد النبوي، وجائز للحاجة، فقد اشتهر أنه كان في المسجد صفة أو حجرة يأوي إليها المهاجرون الذين لا يجدون مستقرا ومأوى، فقد يجتمع فيها عدد كثير يبيتون في المسجد، ويقيمون فيه، فإن وجد أحدهم مأوى غيره، أو استغنى بسكن انتقل إليه، وقد يعملون في النهار، ثم يأتون في الليل إلى تلك الصفة، وقد يهدى إليهم أطعمة ومأكولات فيضطرون إلى الأكل أو الشرب في المسجد، والنوم فيه، وذلك جائز للحاجة، ومع الأمن من تلويث المصلى، ومع العناية بنظافة المسجد.
وقد روى البخاري اسم> في قصة العرنيين عن أنس اسم> قال: رسم> قدم رهط من عكل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانوا في الصفة رسم> .
وروى البخاري اسم> أيضا عن عبد الرحمن بن أبي بكر اسم> قال: رسم> كان أصحاب الصفة الفقراء متن_ح> رسم> . قال في الفتح: والصفة موضع مظلل في المسجد النبوي اسم> كانت تأوي إليه المساكين ولا شك أنه يلزم من بقائهم في المسجد النوم فيه، والأكل والشرب فيه، ولعل ذلك جاز لحاجة.
وجواز النوم في المسجد هو قول الجمهور، لما روى البخاري اسم> وغيره عن ابن عمر اسم> رضي الله عنهما أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي أيضا عن سهل بن سعد اسم> قصة فيها أن علي بن أبي طالب اسم> غاضب فاطمة اسم> فلم يقل عندها ونام في المسجد وقت القيلولة حتى سقط رداؤه عن شقه، وأصابه تراب .. إلخ.
وروي أيضا عن أبي هريرة اسم> قال: رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء .. إلخ. ومعلوم أن هذا العدد لا تتسع لهم الصفة الصغيرة، فيدل على أنهم ينامون في زوايا المسجد، إلا من وجد منهم مأوى، فمن استغنى منهم استقل في منزله.
بل ثبت في الصحيح عن عائشة اسم> أن وليدة سوداء كانت لحي من العرب فأعتقوها.. فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد، أو حفش .. الحديث. والخباء: الخيمة من وبر أو غيره. والحفش: البيت الصغير، وفيه إباحة المبيت والمقيل قي المسجد رأس> لمن لا مسكن له من المسلمين، رجلا كان أو امرأة، عند أمن الفتنة، وإباحة استظلاله فيه بالخيمة ونحوها.
وقد ثبت في الصحيح رسم> أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده متن_ح> رسم> .
وأذن مرة لعائشة اسم> في الاعتكاف معه فبنت لها خباء، ثم بنت حفصة اسم> لها خباء .. إلخ.
ومعلوم أن المعتكف ينام في المسجد، ويأكل فيه ويشرب فيه، ويتخذه مستقرا ليتفرغ فيه للعبادة.
وقد روى الإمام أحمد اسم> أن أبا ذر اسم> رضي الله عنه كان يخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا فرغ من خدمته أوى إلى المسجد، وكان هو بيته يضطجع فيه، وذكر أنه قال: فأين أنام وهل لي بيت غيره. وكذا روى الطبراني اسم> وفي إسناده شهر بن حوشب اسم> وفيه كلام وقد وثق . ولعل أبا ذر اسم> كان من أهل الصفة الذين ليس لهم مأوى سوى المسجد، فينام فيه كغيره للحاجة، مع علمه بحرمة المسجد، ووجوب العناية به، وتنظيفه عن الفضلات والقذر.
فأما الأكل فيه فقد روى الطبراني اسم> كما في مجمع الزوائد عن عبد الله بن الزبير اسم> قال: رسم> أكلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما شواء في المسجد.. متن_ح> رسم> إلخ، وفي إسناده ابن لهيعة اسم> وفيه مقال .
وعن ابن عمر اسم> قال: رسم> أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسجد الفضيخ بفضيخ بسر فشربه، فلذلك سمي مسجد الفضيخ. متن_ح> رسم> [ رواه أحمد اسم> وأبو يعلى اسم> حديث> وفي إسناده مقال] .
وروى الإمام أحمد اسم> بإسناد حسن عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- رسم> أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توضأ في المسجد متن_ح> رسم> . ولعل ذلك وضوء تجديد، وكان في أحد جوانب المسجد.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد اسم> عن زيد بن ثابت اسم> رسم> أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم في المسجد رسم> .
فقد ذكر مسلم اسم> في كتاب التمييز له أن ابن لهيعة اسم> أخطأ فيه، وأن الصواب (احتجر) أي اتخذ حجرة أي جانبا يجلس فيه للاعتكاف .
وكل هذه الأفعال تفعل بقدر الحاجة، وعند الأمن من تلويث المسجد، وظهور أثر الوسخ ورائحة الفضلات، وبقايا الطعام فيه، وقد يقع في هذه الأزمنة وقبلها وضع الأطعمة في المساجد وقت الإفطار من صوم رمضان، لكثرة الفقراء من العمالة، والفقراء، والمساكين الذين يعوزهم تحصيل طعام الإفطار المتواجد عند الأثرياء، ويشق جمعهم في المساكن، فاحتيج إلى تفطيرهم في المساجد أو ما يقرب منها كبناء خيمة داخل المسجد أو خارجه.
ويلزم مع ذلك تنظيف المساجد بعدهم، وإخراج بقايا الأطعمة ونحوها وإزالة النفايات وما يشوه المنظر، مع التزام رضع الأطعمة على خوان أو سفرة غليظة لا تخرقها المياه التي تتساقط عند الشرب من القهوة ونحوها، وكذا لا بد من التهوية والطيب الذي تزول معه روائح الأطعمة، ولا بد من إبعاد ما له رائحة مكروهة كالبصل والكراث والفجل ونحوها، حيث ورد النهي عن الإتيان إلى المساجد بروائح مستكرهة، وأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم اسم>
ومما يحرص على تنزيه المسجد منه: الحدث فيه، وهو خروج الريح الذي هو النسم الخارج من الدبر، وقد دل على كراهته حديث أبي هريرة اسم> في الصحيح، ولفظه: رسم> الملائكة تصلى على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث متن_ح> رسم> .
وقد فسر أبو هريرة اسم> الحدث بالصوت، ولكنه قد يقع بغير الاختيار، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- رسم> لا ينصرف -أي: من الصلاة- حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا متن_ح> رسم> [متفق عليه] حديث> . وورد في الحديث: رسم> إذا أحدث أحدكم في الصلاة فليمسك بأنفه ثم لينصرف متن_ح> رسم> [ رواه البيهقي اسم> والحاكم اسم> حديث> وصححه ووافقه الذهبي اسم> ] .
قال الحافظ اسم> في الفتح: يدل على أن الحدث يبطل ذلك، أي: استغفار الملائكة، ولو استمر جالسا، وفيه دليل على أن الحدث في المسجد أشد من النخامة، لأن لها كفارة، ولم يذكر لهذا كفارة، بل عوقب بحرمان استغفار الملائكة، ودعاؤهم مستجاب .
ثم إن العادة في هذه الأزمنة إغلاق المساجد، ومنع النوم فيها، وذلك خوف الفساد، ووقوع المعاصي داخل المسجد، فقد عثر على أفراد يفعلون الفواحش ليلا، وربما نهارا على حين غفلة من الناس، فكان من صيانة المساجد إغلاقها، ومنع المبيت بها، حتى تصان بيوت الله عن هذه الفواحش التي هي من أقبح المحرمات، والتي كثرت وتمكنت في كثير من الأفراد دون ارتداع، ولو كان في ذلك حرمان الضعفاء من النوم فيه للحاجة، لكن صيانة أماكن العبادة والطاعة أولى من مراعاة حاجة أولئك الذين قد يجدون ملاذا في البلاد الواسعة، والله الموفق.
مسألة>