وعقوبات الله تعالى منوعة منها: عقوبة قسوة القلوب؛ فإن المعاصي تقسي القلوب وتصدها عن الخير، ومن العقوبات أيضا عقوبة مؤالفة المعاصي واستحسانها وكأنها طاعات، وهذا أيضا من انتكاس المعرفة، إذا انتكست معرفة المرء فأصبح يستحسن المعاصي وكأنها طاعات وعبادات؛ كان ذلك من أسباب الانتكاس، ومن أسباب الضلال والعياذ بالله.
وأما العقوبات الحسية فمنها: نزع البركات، الطاعات سبب لكثرة الخيرات وإنزال البركات، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
فبركات السماء والأرض ليس لها نهاية، ومعنى ذلك أنهم لما لم يفعلوا نزعت عنهم البركات من السماء والأرض.
ومن آثار ذلك رد الأدعية؛ يعني كون الإنسان يدعو الله تعالى وهو مقيم على المعصية أو مقر لها؛ فإن ذلك يكون سببا في رد أدعيتهم، وعدم إجابتهم إذا دعوه.
وكذلك أيضا العقوبات الحسية قال الله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ
ومكر الله هو: إظهاره لهم أنه يعطيهم ويمنحهم، وإنما ذلك من باب الاستدراج.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا رأيت الله يعطي العبد وهو مقيم على معاصيه فاعلم أنه استدراج
يعني قول الله تعالى:
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
الإملاء: التأخير، وكذلك ورد أيضا في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:
إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقرأ قول الله تعالى:
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ
( يملي له ) يعني: يؤخره وهو مع ذلك مقيم على معاصيه، ولكن إذا حان الأجل انتقم الله منهم، والله عزيز ذو انتقام.
فنتواصى أيها الإخوة بأن نكون باذلين لما نستطيعه من الأمر والنهي؛ حتى يعيننا الله تعالى، وحتى يفتح علينا وينصرنا، فقد وعدنا بذلك بقوله: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
وأخبر بأن هذه العمل يعتبر جهادا في سبيل الله؛ قتال الكفار فرع عن الأمر والنهي؛ لأنهم لما كانوا منكرين للتوحيد وجاحدين له، ومقرين للشرك وللكفر، كان المسلمون يؤمرون بدعوتهم قبل قتالهم، والدعوة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فإذا امتنعوا قاتلوهم؛ إذا لم يقبلوا الفعل فعل الأمر والنهي أذن لهم في قتالهم، ولهم على ذلك أجر؛ إن قتلوا فهم شهداء، وإن انتصروا فهم سعداء.
فكذلك الآمرون والناهون يعتبرون أيضا مجاهدين؛ لأنهم يبذلون ما يستطيعونه من الجهد، ويخشون أن يعاقبهم الله تعالى كما عاقب من قبلهم، كما ورد في الحديث المشهور قال صلى الله عليه وسلم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم ووانسوهم وآكلوهم وشاربوهم، فضرب الله بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم
عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ
.
حدث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، وكان متكئا على جنبه أو على ظهره، فاستوى جالسا لأهمية الأمر، ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم أو السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم
واللعن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله.
معنى ذلك أن الذين لا يأمرون ولا ينهون وهم قادرون، يخاف عليهم أن ينزل بهم من اللعن ما نزل ببني إسرائيل، ولا شك أن هذا ليس ببعيد، فالرب سبحانه وتعالى يغضب إذا عصي، ويغضب أيضا إذا أقرت المعاصي مع القدرة على إنكارها؛ فيعاقب الجميع.
كذلك أيضا شؤم المعصية يتعدى فاعلها إلى غيره في دنياه وفي أخراه، ذكر الإمام أحمد في رسالته في الصلاة: أن الرجل يتعلق بجاره يوم القيامة فيقول: يا رب هذا خانني. فيقول: والله ما خنته في أهل ولا مال. فيقول: صدق يا رب؛ ولكنه رآني على منكر فلم ينهني عنه يعني: رآني لا أصلي؛ علم ذلك فلم ينهني، أو رآني على منكر من المنكرات وعلم ذلك كالمسكرات والأغاني والزنا والتبرج وما أشبه ذلك، ولم ينكر علي؛ فيتعلق به حتى يخاف أن يشاركه في ذنبه.
فتغيير المنكرات في هذه الأزمنة صَعُبَ بسبب التساهل، وبسبب كثرة المعاصي، وكثرة العصاة، ولكن على المحتسب أن يبذل ما يستطيعه من التغيير بقدر الطاقة، لعل الله تعالى أن يعذره، وإذا لم يكن عنده قدرة في بعض الأحيان فإنه يأتي بمن معه، يأتي برئيس أو بعضو آخر وزميل أو بأحد المواطنين إلى أن يزيلوا هذا المنكر، وكذلك أيضا في الإمكان أن يرفع الأمر إلى ولاة الأمور الذين عندهم القدرة والصلاحية في إزالة مثل هذه المنكرات، فهكذا يجب أن...
أسئـلة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ... أيها الأخوة الأحباب: نشكر لفضيلة الوالد الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين على كريم الزيارة التي خص بها ... كما نشكره حفظه الله .. هذه التوجيهات والإرشادات نسأل الله جل وعلا أن ينفعنا بها ... جزيل الأجر والثواب.
ونستأذن فضيلة والدنا على أن نطرح عليه بعض الأسئلة ونرجو أن يتكرم بالإجابة عليها:
س: سائل يقول: نسمع من بعض.. من الناس: ..أن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ... في إزالة المنكر الموجود فهل من كلمة -حفظكم الله- توجهون بها الآباء وأئمة المساجد.. ومن بيده الاستطاعة... في القيام بهذا الواجب شكر الله لكم؟
صحيح أن أعضاء الهيئة قد لا يكفون؛ لقلتهم واتساع البلد، وكذلك أيضا كثرة المنكرات وفشوها في الأماكن المتباعدة؛ فلذلك يكون جميع الأمة عليهم الواجب بقدر استطاعتهم لعموم الحديث: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده
فالوالدان يعلمون أولادهم، ويغيرون عليهم ما وقعوا فيه.
وكذلك كل من تولى على أمر؛ يعني مثلا: الرؤساء إذا كان تحت رئاستهم من يفعل شيئا من المنكر فإن من الواجب على الرئيس أن يقيم الأمر والنهي، وأن يؤكد على من تحت ولايته؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عن رعيته
.
وكذلك رئيس شركة أو رئيس مؤسسة تحت يده عمالة مسلمون؛ عليه أن يقيم عليهم أمر الله، وأن يلزمهم بشرعه، فيؤكد عليهم أداء الصلوات، وينهاهم عن المحرمات ولو كانت من الصغائر إذا حصل عليها الإصرار، كشرب الدخان وحلق اللحى وما أشبه ذلك؛ حتى لا يكون بذلك مقرا لهذه المنكرات.
كذلك بقية أفراد الأمة لعموم: من رأى منكم منكرا فليغيره
فإن الأفراد عليهم واجب أن يغيروا بقدر استطاعتهم.
فمن قدر منهم على الإقناع وجب عليه أن يأتي إلى صاحب المنكر فيقنعه ويقول له: إنك مسلم تنتمي إلى الإسلام، وتفتخر بأنك من أهل الدين الصحيح، وإنك تؤمن بالبعث بعد الموت، وتعرف أن كلا يبعث ويجازى بعمله، وإنك تؤمن بعذاب الله عاجلاً وآجلاً، فإذا كنت كذلك وتعرف أن هذا من المحرمات فكيف مع ذلك تقره. يعني يأتيه بأسلوب حسن جذاب يؤثر فيه حتى ينصاع إلى الحق ويقبله بدون ممانعة.
فأما إذا لم يقره بل سكت أو لم يزله فإنه معذور إذا عجز عن إزالته، وبكل حال كل واحد من الأمة عليه واجب، أما التغيير باليد وبالأخص إذا كان بقوة فقد لا يكون مستطاعاً لكل فرد، وأما التغيير باللسان فإنه مستطاع حتى ولو بكلمة.
س: صاحب الفضيلة: هل يجوز للآمر بالمعروف، وللناهي عن المنكر أن يبحث عن المنكر إذا كان ذلك المنكر مختفيا حتى يتمكن ذلك الناهي.. ، أم يتوقف عند المنكر الظاهر؟
يجوز إذا علم عن طرق أن هناك منكرات خفية فله أن يبحث عنها، لا شك أن هناك يوجد منكرات خفية إما اعتقادية وإما عملية أو ما أشبه ذلك، فإذا رُئي بيوت يدخلها بعض المفسدين، أو المتهمين يخشى أن يكون فيها زنا أو لواط أو نحوه فلا يكون فعليه أن يبحث، ولكن لا يتجشم ما يضره، أو يفعل ما يلام عليه، بل يكون بحثه بحثا ظاهرا أو دقيقا يوصل إليه من غير أن يوقع نفسه في حرج، وكذلك بقية المنكرات.
س: فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. شيخنا نشهد الله أننا نحبك ...؟
.. أنتم بحاجة إلى أن تعملوا ما تستطيعونه حسب هذه الأمور، لا شك أن هناك شركيات أن منها مسبة الصحابة رضي الله عنهم، ومنها الاستغاثة التي ذكر السائل أن هناك من يستغيث بالأموات إما في المسجد، وإما في البقيع وإما عند الشهداء ويدعوهم دعاء صريحا.
الواجب إذا عرف أن هذا الذي يلقن ويسمونه المزور أنه يتعاطى مثل هذه الشركيات بأن يؤخذ على يديه، وأن يرفع بأمره، وأن يؤمر بالاقتصار على السلام المشروع وما أشبهه، فإذا أصر على ذلك فلا بد من عقوبته؛ لأنه قد يوقع هؤلاء الجهلة في الشرك، يستحسنون ما يدعو به لأنهم جهلة، فإذا عرف مثل هؤلاء إما أنهم يزينون لهؤلاء الجهلة التمسح بالحيطان بالبقيع أو بالمزارات وما أشبهها، أو أنهم يزينون لهم دعاء الأموات؛ فالواجب أن يرفع بأمره، وأن يؤخذ على يديه، وأن يبين للعامة أن هذا من دعاة الضلال، وأن يبين لهم السلام المشروع والدعاء المشروع.
س: لكن الغالب ما تحصل المخالفات.. هذا السائل يسأل ويقول: صاحب الفضيلة يقام في كل عام مولد .. من بعض أصحاب الطوائف احتفالا مبتدعا كالمولد ... وفي أيام رمضان يوم السابع عشر والثامن عشر في بدر. ما توجيهكم حفظكم الله حيال هذه الاحتفالات؟
لا شك أنها بدع؛ ولكنها متمكنة في نفوس كثير من هؤلاء المتصوفة والغلاة الذين رأوا أنها من السنة، وأنها لا بأس بها، وصاروا يحتجون عليها بشبهات واهية، فنحن دورنا أن نقوم بنصحهم، إن قدرنا على منعهم وتفريقهم، وإلا فبقدر ما نستطيعه من النصح والتوجيه، ونرفع إلى ولاة الأمر ليأخذوا على أيديهم إذا أظهروا هذه البدع والمنكرات والمحدثات، ففي استطاعة ولاة الأمر أن يأخذوا على أيديهم وأن يمنعوهم.
أما إذا كانوا يخفون ذلك في منازلهم فلسنا بمسئولين عن الأشياء التي يخفونها، وكذلك أيضا إذا كانوا يعتقدون ذلك في قلوبهم، أو يضمرونه في أفئدتهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم
إنما نأخذهم بالظاهر.
ثم على المدرسين أن يوجهوا الطلاب إلى السنة ويحذروهم من البدع، وكذلك واجب الخطباء، وكذلك أيضا واجب الدعاة الذين عندهم قدرة على الدعوة في المجتمعات وفي المناسبات وما أشبه ذلك، أن يبينوا مثل هذه البدع، وأن يبينوا خطرها، وأن كل محدثة بدعة، لعل ذلك يؤثر في السامعين.
س: فضيلة شيخنا حفظك الله وبارك فيكم. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. نرجو شرح هذه الآية الكريمة: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وجزاكم الله خيرا.
ظاهرة، أن سبب نزولها أن اليهود كانوا يأمرون الأنصار قبل الإسلام أن يتبعوهم، أو يذكرون لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يخرج، ثم إنه لما خرج لم يتبعوه بل عصوه وعاندوا، فعاتبهم الله تعالى بهذه الآية، فكل من أمر غيره بمعروف وعمل بر ولم ينتفع بذلك الفعل ولم يأتمر؛ دخل في هذه الآية.
قد ورد فيه الحديث المشهور عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه فيها، فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع أهل النار إليه فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن فينا تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه
فهذا جزاؤه أنه يلقى في النار بهذه الصفة والعياذ بالله، ومثله بعض العلماء بالسراج الذي يضيء للناس ويحرق نفسه، وذمه بعضهم بقوله:
مـواعظ الـواعظ لـن تقبلا | حــتى يعيهــا قلبـه أولا |
يـا قـوم من أظلم من واعظ | خالف ما قد قالـه في المـلا |
أظهـر بيـن النـاس إحسانه | وخـالف الرحمن لمـا خـلا |