محاضرة بعنوان شر غائب ينتظر
فتنة الدجال
أما الدجال فلا شك أنه إنسان، أنه إنسان؛ يعني من جنس الناس. وقد ورد عن بعض الصحابة اعتقاد أنه قد وجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنه كان من اليهود شاب يقال له: صافي بن صياد أو ابن صائد اسم> وكان يتكهن، فروي أنه هو الدجال؛ حتى أن جابرا اسم> رضي الله عنه كان يحلف أن ابن صياد اسم> هو الدجال، ويقول: إني سمعت عمر اسم> رضي الله عنه يحلف أن ابن صياد اسم> هو الدجال.
والصحيح أنه ليس هو الدجال، وقد يكون هو من جملة الدجالين؛ أي من جملة الكذابين الذين تأتيهم الشياطين. ورد أنه صلى الله عليه وسلم لقي ابن صياد اسم> فقال: رسم> ما يأتيك؟ فقال: يأتيني صادق وكاذب. فقال: لبس عليك. وقال: إني قد خبأت لك خبيئا. فقال: هو الدخ متن_ح> رسم> وكان قد خبأ له الدخان يعني قوله تعالى: رسم> فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ قرآن> رسم> قد خبأ له هذا الدخان، فلما قال ذلك -قال: رسم> اخسأ فلن تعدو قدرك. فقال عمر اسم> رضي الله عنه: دعني أقتله يا رسول. فقال: إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله متن_ح> رسم> ؛ أي إن كان هو الدجال فإنك لا تسلط عليه؛ وذلك لأنه لا بد أن يخرج، ولا بد أن يأتي ما أخبر عنه؛ فلا تقدر عليه، ولن تتسلط عليه، وإذا لم يكنه فإنك لا خير لك في قتله؛ لأنه من جملة المعاهدين.
فالصحيح أنه ليس هو ابن صياد اسم> ؛ وإنما ابن صياد اسم> دجال؛ يعني كذاب وكاهن من جملة الكهنة الذين تأتيهم الشياطين. ورد أيضا أن الدجال لا يزال موثقا، وأنه مربوط في مكان لم يطلع عليه أحد، ويدل على ذلك حديث روته فاطمة بنت أبي حبيش اسم> ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم مرة لما جاءه خبر دعا الناس فاجتمعوا، فقص عليهم قصة، وأخبرهم بأن تميما الداري اسم> حدث بما كان النبي عليه الصلاة والسلام يحدثه، أخبر بأنهم كانوا في سفينة، فانكسرت بهم تلك السفينة، ثم ذكر أنهم آواهم المبيت إلى مكان موحش؛ فإذا بدابة كبيرة شعرها طويل؛ فاقشعروا منها ورعبوا. فقالوا: ما أنت؟! فتكلمت وقالت: أنا الجساسة.
هكذا تكلمت تلك الدابة، ثم قالت: إن في ذلك المكان إنسانا بحاجة إلى أخباركم، هو إلى أخباركم في غاية الأشواق. دخلوا عليه وإذا إنسان موثق بالحديد، وإذا صفته ما وصف النبي صلى الله عليه وسلم من صفاته، ثم قصوا عليه خبرهم، فسألهم عن ما حدث؛ فأخبروه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث؛ فكأنه استبشر بذلك، وقال: إن هذا أوان أو قرب أوان خروجي. فلا شك أن هذا فيه دليل على أنه موثق وأنه حي موجود؛ وإن لم تكن حياته كحياة أهل الدنيا الذي يتمتعون بما يتمتعون به من المأكل والمشرب ونحوه؛ ويمكن أن الله تعالى أحياه وبعثه؛ حتى تكلم أمام تميم الداري اسم> ومن معه.
هذا الحديث في صحيح مسلم اسم> حديث ثابت، رواه الشعبي اسم> وهو حافظ التابعين عن فاطمة بنت أبي حبيش اسم> حفظته مع أنها سمعته مرة من النبي صلى الله عليه وسلم؛ مع كونه يوجد في آخر صحيح مسلم اسم> أما الأحاديث التي وردت في صفة الدجال فهي كثيرة، وقد يكون بينها شيء من الاختلاف، وقد يكون بعضها فيه نظر في صحته وثبوته. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال مرة فرفع فيه وخفض؛ حتى ظنه الصحابة في طرف الحائط، فانصرفوا بعد ذلك وهم مهمومون؛ فلما رجعوا إليه رأى تغيرهم، فقال: ما لكم؟ قالوا: يا رسول الله، ذكرت الدجال ورفعت فيه وخفضت حتى ظنناه في طائفة النخل.
فقال صلى الله عليه وسلم: رسم> غير الدجال أخوف مني عليكم متن_ح> رسم> ؛ أي أخاف عليكم فتنا أكثر من الدجال، ثم قال: رسم> إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه متن_ح> رسم> ثم أخبر بأنه لا بد وأن يخرج؛ فأمرهم بأن يحاج كل واحد منهم عن نفسه. ثم أخبرهم بعلامة عليه بأنه أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية؛ أي كأنها حبة عنب أسود طافية، قد نزع ماؤها أي ما فيها من الماء، فصارت كأنها عين وليست بعين. هكذا أخبر. أخبر أيضا بأنه مكتوب بين عينيه: كافركاف، وفاء، وراء. يقرؤها كل مؤمن، هذه أيضا ميزة له أنه يقرأ هذه الكتابة عليه كل مؤمن، ويعرف بذلك أنه كافر ليس بمؤمن.
أما فتنته فورد فيها أدلة وأحاديث كثيرة، منها ما ذكر من أنه يأتي القرية، فتطيعه القرية، وإذا أطاعته؛ فإن من الفتنة أن ينزل عليهم الغيث، وأن يكثر دَرُّهم، ويكثر نسل مواشيهم، وتكثر أموالهم ويدعون أن هذا حصل ببركة اتباعهم له، وببركة تصديقهم له؛ فيكون ذلك من الفتنة. ويأتي القرية التي قد مات أهلها؛ فيدعو أهلها وهم أموات، فيخرجون، ويتبعونه كيعاسيب النحل. اليعسوب هو قائد النحل، إذا طار إلى جهة تبعته بقية النحل؛ كأنه رئيس لها. فشبه اتباعهم للدجال اتباع تلك القرية أهلها أحياء وأمواتا، أنهم يتبعونه كما يتبع النحل رئيسهم الذي هو اليعسوب.
وذكر أنه إذا عصاه أهل قرية سلط عليهم أو دعا عليهم فأصبحوا مسنتين؛ أي أصبحوا في سنين جافة، ليس عندهم جدب ولا خصب، أصبحوا في غاية القحط وفي غاية الجفاف؛ هذا أيضا من الفتن. كذلك أيضا ورد أنه يأتيه رجل من المؤمنين حقا فيعصيه إذا دعاه إلى أن يعترف بأنه هو الرب، فقال: إني أؤمن بأنك أنت الدجال الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنك تخرج. فيقول لأتباعه: أرأيتم لو قتلته ثم أحييته؛ هل تشكون؟ قالوا: لا. فيقطعه نصفين، ثم يقول له: قم فيحيا، فيكون ذلك من الفتنة، فيقول بعد ذلك، ذلك الرجل: لم أزدد بك إلا بصيرة، أنت الدجال الذي أخبرنا عنك النبي محمد اسم> صلى الله عليه وسلم فيما أنت عليه. فهذا أيضا من الفتن. ثم يحاول أن يعود ليقتل ذلك الرجل فيحفظه الله تعالى ولا يقدر عليه.
في بعض الروايات أن بعض الصحابة قال: كنت أشد الناس سؤالا عن الدجال، فقلت: يا رسول الله، إنه يقال: إن معه جنة ونار. فقال: رسم> هو أهون من ذلك رسم> أهون على الله وأحقر من ذلك؛ ولكن ورد في بعض الآثار أن معه جنة ونارا، وأن ناره عبارة عن ظل ظليل أو ماء طيب، وأن جنته نار، وهذا أيضا مما قلب الله تعالى صورته وغير حالته. وبكل حال، فإن صفاته كثيرة، وغاية ما يدعو الناس إليه أن يدعوهم بأنه هو الرب، أنه هو الله، يوهمهم أنه قادر على ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رسم> إنه أعور العين اليمنى وإن ربكم ليس بأعور متن_ح> رسم> ؛ أي لا يخفى عليكم أمره، فهذه علامة ظاهرة. ولا شك أن هذا دليل على نقصه، دليل على أنه ناقص القدر؛ حيث إنه فاقد لإحدى عينيه وهي العين اليمنى كأنها عنبة طافية.
ثم ذكر في الأحاديث أن الله تعالى يحرس الحرمين اسم> فلا يدخل مكة اسم> ولا يدخل المدينة اسم> على كل باب من أبوابها ملائكة يقودونه لا يدخلها. وأما انتشاره في الأرض فذكر أنه كانتشار الريح؛ يعني أنه ينتشر فيها، ويمشي فيها مشي الريح ومشي الهبوب؛ وذلك دليل على أنه قد سخرت له المواصلات التي يقطع فيها المسافات المتباعدة، يقطعها في زمن قريب؛ أي أنه إما أنه يطير أو يركب مواصلات توصله إلى البلاد البعيدة في زمن قصير، فمشيه كمشي هذه الرياح أو مشي هذه السحب التي تقطع المسافة في زمن قليل. وورد أيضا رسم> أنه يمكث أربعين يوما؛ يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وبقية أيامه مثل أيامكم، فقالوا: يا رسول الله، اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه خمس صلوات؟ فقال: لا. اقدروا له متن_ح> رسم> ؛ أي قدروا لتلك الصلوات بمواقيتها؛ أي بعد كل عبادة، دخول كل وقت بالتقريب فاقدروا له.
ثم من حماية الله تعالى لبلاده التي هي مكة اسم> و المدينة اسم> أن على كل نقب من أنقابها ملائكة يمنعونه ألا يدخلها؛ فذلك دليل على أنها مأوى للمؤمنين في آخر الدنيا. أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يقتله المسيح ابن مريم اسم> ؛ أي أنه ينزل المسيح ابن مريم اسم> فإذا نزل وعلم بمكان هذا الدجال؛ فإنه يقتله، ورد أنه يقتله بباب لد اسم>
وأنــه يقتــل ذا الـدجــال | ببـاب لـد اسم> خـل عـن جــدال |
في هذه الأزمنة وجد من ينكر هذه الأحاديث، ويرد ما دلت عليه؛ فقد طبع أحد المحققين كتاب ابن كثير اسم> الذي يسمى بالنهاية، في آخر تاريخه طبع في مجلدين، وحققه رجل يقال له أو يكنى أبو عبية اسم> هكذا كنيته؛ ولكن هذا الذي حققه أفسده، فأخذ يرد هذه الأحاديث، ويغيرها ويبدل معانيها ويكذب بها؛ وكأنه نظر إلى ما فيها مما يخالف الواقع، مما يخالف ما نحن فيه؛ فاعتقد كذبها وأنها ليس لها صحة، وتأول بعضها، أو تأول الدجال بأنه الفتن، أو بأنه الشرور التي تحصل في آخر الدنيا، وأكثر من التأويلات التي سلطها على بعض الأحاديث. وتأول أيضا حديث الجساسة الذي في صحيح مسلم اسم> وجعله شبه خيال، وغير ذلك من الأدلة.
وقد ناقشه بعض العلماء الذين كتبوا في هذا الباب؛ من جملتهم شيخنا الشيخ محمود التويجري اسم> رحمه الله في كتابه الذي كتبه بعنوان إتحاف الجماعة في أشراط الساعة المجلد الثاني الذي يتكلم فيه عن الآيات الكبرى، وعن أشراط الساعة الكبرى، فهو مرجع. وإذا عرفنا ذلك فإن على المسلم أن يكثر دائما من الاستعاذة بالله من الشرور والفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يستعيذ بالله من فتنة الدجال؛ حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منه في صلب الصلاة؛ مما يدل على شره وعظم فتنته. نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، نعوذ بالله من الشرور ومن قول الزور ومن شهادة الزور. نعوذ بالله من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال.
نسأل الله أن يعافينا في أدياننا وفي أبداننا وفي أموالنا وأولادنا، وأن يحفظ علينا عقيدتنا، وأن يصلح أحوال المسلمين، وأن يصلح أئمتهم وولاة أمورهم، وأن يجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، إنه على كل شيء قدير. والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد اسم> .
س: جزاكم الله كل خير. سائل يقول: سماحة الشيخ.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نشهد الله على حبك. سؤالي: ما الجمع بين هذين الحديثين: الحديث الأول: ما ورد في صحيح مسلم قول النبي عليه الصلاة والسلام: رسم> ثلاث آيات إذا ظهرت لا ينفع نفس إيمانها: طلوع الشمس من مغربها، والدابة، والدجال متن_ح> رسم> وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن عيسى اسم> عليه السلام ينزل، ويقتل الدجال، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام أو السيف؟
سؤال> أما طلوع الشمس فقد ذكره الله في قوله: رسم> يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قرآن> رسم> ؛ وذلك لأن الناس إذا رأوها قالوا كلهم، قالوا: آمنا؛ ولكن في ذلك الوقت قد ختم على الأعمال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رسم> لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها متن_ح> رسم> وأما خروج الدابة: فورد أيضا أنها من الآيات التي تكون قرب قيام الساعة، وأنها إذا خرجت، في صفتها أحاديث كثيرة قد يكون بعضها فيه مبالغة؛ مع أنها لا يقبل من إنسان بعد خروجها إيمان ولا توبة؛ وذلك لقرب قيام الساعة، وكأن ذلك تحقيق لقول الله تعالى: رسم> فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قرآن> رسم> .
وأما خروج الدجال فالصحيح أنه يقتل، وأن الناس يؤمنون بعده؛ فذكره في هذا يمكن أن يراد به الذين صدقوه، والذين أطاعوه واتبعوه، لا يقبل الله تعالى إيمانهم؛ وذلك لأنهم كذبوا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وصدقوا هذا الكافر الكذاب؛ فلذلك لا ينفعهم إيمانهم؛ ولو آمنوا بعد ذلك، أما الذين لم يؤمنوا به؛ فإن الله يقبل توبتهم ويغفر حوبتهم.
شكر الله لفضيلة الشيخ، ونفع بعلمكم الجميع. ونعتذر للإخوة لارتباط الشيخ بدرس آخر عقب صلاة العشاء في مسجد السميري، فجزاكم الله خيرا. ونسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وصلى الله على نبينا محمد اسم> وعلى آله.
مسألة>