شرح كتاب العلم من صحيح البخاري
باب الاغتباط في العلم والحكمة
باب الاغتباط في العلم والحكمة. وقال عمر اسم> رضي الله عنه تفقهوا قبل أن تسودوا. قال أبو عبد الله : اسم> وقد تعلم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في كبر سنهم.
قال : حدثنا الحميدي اسم> قال: حدثنا سفيان اسم> قال: حدثني إسماعيل بن أبي خالد اسم> -على غير ما حدثناه الزهري اسم> -قال: سمعت قيس بن أبي حازم اسم> قال: سمعت عبد الله بن مسعود اسم> قال: قال النبي –صلى الله عليه وسلم- رسم> لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها متن_ح> رسم> .
التفقه هو: تعلم العلم وتفهم معناه فيقول عمر اسم> -رضي الله- عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا أي: قبل أن تكونوا –مثلا- سادة في مناصب رفيعة؛ فتحتشموا وتستحيوا أن تتعلموا؛ فإن هناك كثيرا فرطوا في التعلم وهم صغار؛ فلما صاروا أمراء، ووزراء وموظفين في وظائف رفيعة؛ احتقروا أن يتعلموا وقالوا: كيف نجلس نتعلم مع هؤلاء الشباب ومع هؤلاء العامة، ونحن قد ارتفعت رتبتنا، وقد كبرت أسناننا؛ فبقوا على الجهل، بقوا على جهلهم.
فيقول لهم عمر اسم> -رضي الله عنه- تفقهوا قبل أن تسودوا -يعني قبل أن تكونوا سادة- مع أن هذا أيضا لا يجوز أن يمنعكم من التفقه -يعني كبر السن وارتداء الرتبة- ونحو ذلك، لا ينبغي أن يمنعكم من التعلم، بل عليهم أن يتعلموا ولو كانوا كبارا، ويأخذوا العلم ولو عن الأصاغر يتعلم أحدهم من ولده، ومن ابن أخيه ومن الصغار والكبار ونحوهم فإن العلم شرف لأهله، والجهل عيب وذل وصغار على الجاهلين، فما يجوز لأحد أن يبقى على الجهل وهو يجد من يعلمه ولو أصغر منه فلا يبلغ درجة العلم حتى يأخذه من الصغير ومن المتوسط ومن الكبير.
ويقول بعض الصحابة: لا ينال العلم مستح ولا متكبر المستحيي الذي يقول: أستحي أن أسأل عن هذه المسألة وأنا في رتبة رفيعة، أستحي أن يقول الناس: هذا جاهل مع أنه رفيع المكانة مع أنه من الأثرياء، ومن أشراف الناس، أستحي أن أسأل، لا تستحيي اسأل.
وقيل لابن عباس اسم> بم بلغت هذه الرتبة؟ يعني هذا العلم فقال: بلسان سئول، وقلب عقول.
ذكر بعد ذلك أن الصحابة -رضي الله عنهم- تعلموا وهم كبار، ولم يمنعهم كبر السن من أن يتعلموا، أسلم بعضهم وهم في سبعين من العمر، وفي أقل أو أكثر، ومع ذلك تفقهوا، قالوا يا رسول الله: علمنا مما علمك الله، والذين أسلموا في آخر حياته تعلموا أيضا من غيرهم، لما فتحت مكة اسم> احتاجوا إلى من يعلمهم فجعل عندهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عتاب بن عسيل اسم> -مع كونه صغيرا- وأخذ يعلمهم ولو كانوا كبار الأسنان، يعلمه مما علمه الله لو كان صغيرا، وكذلك كان يبعث شبابا إلى البلاد البعيدة ويعلمونهم؛ بعث معاذا اسم> وهو لا يزال شابا، صار يعلم أهل اليمن اسم> بعثه داعيا ومعلما وقاضيا وجابيا للصدقات ونحوها، فهذا دليل على أن الإنسان لا يمنعه كبر السن عن التفقه في الدين فيبقى على جهله.
كذلك في هذا الحديث ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- هاتين الخصلتين وسمى ذلك حسدا؛ ولكنه ليس بالحسد المذموم، بل هو حسد ممدوح ويسمى حسد غبطة أي: أن الإنسان الذي هذه حالته يغبطه الآخرون.
في بعض الأحاديث أنه-صلى الله عليه وسلم- قسم الناس إلى أربعة أقسام: رسم> رجل آتاه الله مالا وعلما، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما، ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما متن_ح> رسم> ، ولكن في هذا الحديث اقتصر على العلم والمال، العلم هو: القرآن والسنة، فإذا آتاك الله -تعالى- علما بكتاب الله وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فوفقك الله للتعليم وللتعلم وللعمل الصالح، وللقيام بأداء وبتعليم مما علمك الله؛ فإن هذه رتبة رفيعة شريفة يغبط عليها صاحبها، فإذا رآه من ليسوا كذلك غبطوه وتمنوا أن يكونوا مثله، فهذا يسمى حسد غبطة.
آتاه الله -تعالى -علما فهو يعمل به ويعلمه يعلمه ليلا ونهارا، ويبذله لمن يحتاج إليه فيغبطه الآخرون ويتمنوا أن يكونوا مثله، ولا يحسدونه على منصبه حسد حرمان على ما آتاه الله، وذلك لأنه إنما آتاه الله تعالى هذا العلم لشرفه فهو يعلمه لميزته.
الحسد المحرم: صفته أن يسعوا في إضراره وأن ينموا فيه ويتكلموا فيه بسوء، يقولون: هذا متقول، وهذا متكبر، وهذا متغطرس، ومتعجرف، ويكون بغير علم، وهذا جاهل ومتجاهل، وما أشبه ذلك، حتى يسعى فيه بالحرمان، ويمنع من التعليم ونحو ذلك.
يقع هذا في كثير من أمثاله، حتى قال بعض العلماء: إن الحسد أكثر ما يكون في العلماء؛ بمعنى أن العالم إذا ارتفعت رتبته، وآتاه الله -تعالى- منزلة رفيعة ، فإن الآخرين قد يحسدونه إذا رأوا إقبال الناس وإكبابهم عليه ويسعون في الوشاية به ويقولون إنه يفعل كذا، وإنه وإنه، يريدون بذلك أن يمنع وأن يحال بينه وبين نشر العلم، فهذا هو الحسد المذموم.
فنقول لهؤلاء: لا تمنعوه إذا كان ينشر ما أعطاه الله -تعالى- من العلم ويبينه للناس، عليكم أن تفعلوا كما فعل-إذا كنتم مثله- فعليكم أن تعلموا كما كان يعلم، ولكن إذا رأيتم الناس لا يتقبلون منكم ولا يقبلون كلماتكم ونصائحكم وحلقاتكم ومجالسكم؛ فإن ذلك ليس لنقص ولكن لأمر قدره الله-تعالى- روي أن مالك بن أنس اسم> -رحمه الله-آتاه الله -تعالى- رتبة ورفعة؛ فأقبل الناس عليه، فكان يقف في المنبر ويحدث وكان يقول: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن اسم> وربيعة اسم> موجود في المسجد، جاءه إنسان.
فقال: -رحمك الله- هذا مالك اسم> يحدث عنك وأنت موجود، فقال يا بني: مثقال من دولة خير من حِمل علم يعني أن مالكا اسم> أعطاه الله دولة، يعني حظا وشهرة وسمعة ومكانة في الناس، وشعبية في الأمة فأحبوا مجلسه؛ مع أنه يروي عني مع أني شيخه الذي علمته كثيرا ولا يأتون إلي، وذلك لما له من هذه الدولة وهذه المكانة.
فنقول: لا تحسدوا هذا الذي أعطاه الله-تعالى- هذه الشهرة فيما بين الناس وتقولون، لم لا يأتينا الناس مثل ما يأتون؟! نحن نقيم حلقات ولا يأتون إلينا بكثرة كما يأتون إلى هذا؛ فتسعون في حسده وتسعون في حرمانه، وتصغرون شأنه وأمره، الحسد موجود بكثرة بين العلماء؛ ومع ذلك فإنه لا يسقط من قدر بعضهم إذا تكلم في بعض.
وجد ذلك في عهد مالك اسم> -رحمه الله- كان في زمانه محمد بن إسحاق اسم> -صاحب السيرة-وكان بينه وبين مالك اسم> بعض المناقشات، كل يدعي أنه أرفع رتبة وأنه أكثر علما، وأنه وأنه، فلما كان كذلك ؛صار بينهم شيء من المنافسة، فروي أن ابن إسحاق اسم> قال: ائتوني بكتب مالك اسم> أبيطرها-يعني أنقحها وأعالجها- يعني أنكم ترون أحاديثه ليست محققة وأنا البيطار، وأنا الطبيب، فسمع بذلك مالك اسم> فمقته وقال: هذا كذاب؛ فلا تأخذوا عنه فوقعت بينهما وحشة، وصار كل منهما يتكلم في الآخر، ولكن هل أسقطنا حديث مالك اسم> لما تكلم فيه ابن إسحاق اسم> ؟ هل أسقطنا كتب ابن إسحاق اسم> -ككتاب السيرة- لما تكلم فيه مالك؟
نقول: هذه من المنافسات؛ فلا ينبغي أن يقدح أحدهما في الآخر، كذلك وقعت منافسة بين البخاري اسم> وبين محمد بن يحيى الذهلي اسم> بحيث إنه كل منهما أخذ يتكلم في الآخر، ومع ذلك ما أسقطنا أحاديث البخاري اسم> ولا أسقطنا أحاديث الذهلي اسم> .
كان مسلم اسم> -رحمه الله- قد روى أحاديث كثيرة عن الذهلي اسم> فلما تكلم في البخاري اسم> أسقطها، وجاء بها إليه وقال: خذ أحاديثك لا حاجة لي فيها، وأما البخاري اسم> فإنه روى عن الذهلي اسم> وإن كان لا يصرح باسمه .
كذلك، المنافسات كثيرة، فمثلا بين شيخ الإسلام ابن تيمية اسم> -رحمه الله- وبين ابن الزملكاني اسم> في زمانه منافسات كثيرة، وكذلك بينه وبين السبكي اسم> منافسات، ومع ذلك كل منهما له رتبته، وهكذا أيضا وقعت منافسات بين ابن حجر اسم> وبين العيني اسم> -وكلاهما شرح البخاري- ومع ذلك ما أسقطنا شرح هذا ولا شرح هذا، وكل منهما يتكلم في الآخر، وكذلك بين السيوطي اسم> وبين السخاوي اسم> منافسات أيضا، وكل منهما تكلم في الآخر ومع ذلك ما أسقطت علوم هذا ولا علوم هذا.
فنقول: لا ينبغي أن نسمع كلام هذا في هذا؛ إذا كان ذلك من باب المنافسة، فكذلك ما وقع في زماننا-قبله-من الحسد لبعض العلماء الذين لهم مكانة ولهم شهرة، حسدهم بعض أهل زمانهم أو أهل بلادهم فوصموهم بأنهم وأنهم، فأما الحسد الذي في الحديث فإنه ليس بمذموم، وذلك لأنه يتمنى مثله، يقول: فلان أعطاه الله هذا العلم، وأعطاه هذا الفقه، فليت لنا مثله فيحسدونه بمعنى: أنهم يتمنون مثل ما أعطاه الله.
وأما الثاني: وهو حسد المال فصفته أو صورته أن يكون الله-تعالى-مَنَّ على إنسان وفتح عليه الدنيا، وأعطاه مالا؛ فسلطه على هلكته في الحق، فكان يتصدق، ويبني مساجد، ويصلح قناطر، ويبني مدارس، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الحق، ويقري الضيف، ويكرم جاره، ويعطي هذا وهذا؛ فيراه آخرون ليس لهم من المال مثل ما له ؛ فيغبطونه ويقولون: ليت لنا مثل ما أوتي.
الحديث الذي ذكرناه أولا، ذكر فيه أنه يثاب على ما أعطاه، الله يقول في الحديث: إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل في ماله بعلمه ؛ فيصل منه الرحم، ويعطي منه المحروم، ويتصدق منه، ويعطي ابن السبيل، فهذا بأفضل المنازل.
- الثاني: رجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا؛ فهو يقول: لو كان لي من المال مثل فلان لعملت مثل عمله -يعني تصدقت وبررت وأعطيت في وجوه الخير- يقول: فهو بنيته وقصده وهما في الأجر سواء، يعني أنه لما أن الله -تعالى- لم يعطه مالا أعطاه على نيته ؛لأنه يقول: لو كان لي مال لعملت مثل ما....
- الثالث آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو ينفقه في....
مسألة>