شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) اشترط كثير من العلماء أن يكون التيمم بتراب له غبار يعلق باليد، ومنعوا التيمم بالرمل ونحوه مما لا غبار له، وألزموا المسافر أن يحمل معه التراب إذا سافر في أرض رملية، ولعل الصحيح جواز التيمم بالرمل؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" متفق عليه. شرع الله تطهير هذه الأعضاء وغسلها وتنظيفها عند القيام إلى الصلاة أو عند وجود حدث؛ حتى يصير المصلي نظيف البدن، وحتى يحصل له النشاط والقوة، وحتى يقبل على الصلاة بصدق ومحبة ورغبة (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم.
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري
31933 مشاهدة
باب الاغتباط في العلم والحكمة


باب الاغتباط في العلم والحكمة. وقال عمر رضي الله عنه تفقهوا قبل أن تسودوا. قال أبو عبد الله : وقد تعلم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في كبر سنهم.
قال : حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثني إسماعيل بن أبي خالد -على غير ما حدثناه الزهري -قال: سمعت قيس بن أبي حازم قال: سمعت عبد الله بن مسعود قال: قال النبي –صلى الله عليه وسلم- لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها .


التفقه هو: تعلم العلم وتفهم معناه فيقول عمر -رضي الله- عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا أي: قبل أن تكونوا –مثلا- سادة في مناصب رفيعة؛ فتحتشموا وتستحيوا أن تتعلموا؛ فإن هناك كثيرا فرطوا في التعلم وهم صغار؛ فلما صاروا أمراء، ووزراء وموظفين في وظائف رفيعة؛ احتقروا أن يتعلموا وقالوا: كيف نجلس نتعلم مع هؤلاء الشباب ومع هؤلاء العامة، ونحن قد ارتفعت رتبتنا، وقد كبرت أسناننا؛ فبقوا على الجهل، بقوا على جهلهم.
فيقول لهم عمر -رضي الله عنه- تفقهوا قبل أن تسودوا -يعني قبل أن تكونوا سادة- مع أن هذا أيضا لا يجوز أن يمنعكم من التفقه -يعني كبر السن وارتداء الرتبة- ونحو ذلك، لا ينبغي أن يمنعكم من التعلم، بل عليهم أن يتعلموا ولو كانوا كبارا، ويأخذوا العلم ولو عن الأصاغر يتعلم أحدهم من ولده، ومن ابن أخيه ومن الصغار والكبار ونحوهم فإن العلم شرف لأهله، والجهل عيب وذل وصغار على الجاهلين، فما يجوز لأحد أن يبقى على الجهل وهو يجد من يعلمه ولو أصغر منه فلا يبلغ درجة العلم حتى يأخذه من الصغير ومن المتوسط ومن الكبير.
ويقول بعض الصحابة: لا ينال العلم مستح ولا متكبر المستحيي الذي يقول: أستحي أن أسأل عن هذه المسألة وأنا في رتبة رفيعة، أستحي أن يقول الناس: هذا جاهل مع أنه رفيع المكانة مع أنه من الأثرياء، ومن أشراف الناس، أستحي أن أسأل، لا تستحيي اسأل.
وقيل لابن عباس بم بلغت هذه الرتبة؟ يعني هذا العلم فقال: بلسان سئول، وقلب عقول.
ذكر بعد ذلك أن الصحابة -رضي الله عنهم- تعلموا وهم كبار، ولم يمنعهم كبر السن من أن يتعلموا، أسلم بعضهم وهم في سبعين من العمر، وفي أقل أو أكثر، ومع ذلك تفقهوا، قالوا يا رسول الله: علمنا مما علمك الله، والذين أسلموا في آخر حياته تعلموا أيضا من غيرهم، لما فتحت مكة احتاجوا إلى من يعلمهم فجعل عندهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عتاب بن عسيل -مع كونه صغيرا- وأخذ يعلمهم ولو كانوا كبار الأسنان، يعلمه مما علمه الله لو كان صغيرا، وكذلك كان يبعث شبابا إلى البلاد البعيدة ويعلمونهم؛ بعث معاذا وهو لا يزال شابا، صار يعلم أهل اليمن بعثه داعيا ومعلما وقاضيا وجابيا للصدقات ونحوها، فهذا دليل على أن الإنسان لا يمنعه كبر السن عن التفقه في الدين فيبقى على جهله.
كذلك في هذا الحديث ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- هاتين الخصلتين وسمى ذلك حسدا؛ ولكنه ليس بالحسد المذموم، بل هو حسد ممدوح ويسمى حسد غبطة أي: أن الإنسان الذي هذه حالته يغبطه الآخرون.
في بعض الأحاديث أنه-صلى الله عليه وسلم- قسم الناس إلى أربعة أقسام: رجل آتاه الله مالا وعلما، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما، ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما ، ولكن في هذا الحديث اقتصر على العلم والمال، العلم هو: القرآن والسنة، فإذا آتاك الله -تعالى- علما بكتاب الله وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فوفقك الله للتعليم وللتعلم وللعمل الصالح، وللقيام بأداء وبتعليم مما علمك الله؛ فإن هذه رتبة رفيعة شريفة يغبط عليها صاحبها، فإذا رآه من ليسوا كذلك غبطوه وتمنوا أن يكونوا مثله، فهذا يسمى حسد غبطة.
آتاه الله -تعالى -علما فهو يعمل به ويعلمه يعلمه ليلا ونهارا، ويبذله لمن يحتاج إليه فيغبطه الآخرون ويتمنوا أن يكونوا مثله، ولا يحسدونه على منصبه حسد حرمان على ما آتاه الله، وذلك لأنه إنما آتاه الله تعالى هذا العلم لشرفه فهو يعلمه لميزته.
الحسد المحرم: صفته أن يسعوا في إضراره وأن ينموا فيه ويتكلموا فيه بسوء، يقولون: هذا متقول، وهذا متكبر، وهذا متغطرس، ومتعجرف، ويكون بغير علم، وهذا جاهل ومتجاهل، وما أشبه ذلك، حتى يسعى فيه بالحرمان، ويمنع من التعليم ونحو ذلك.
يقع هذا في كثير من أمثاله، حتى قال بعض العلماء: إن الحسد أكثر ما يكون في العلماء؛ بمعنى أن العالم إذا ارتفعت رتبته، وآتاه الله -تعالى- منزلة رفيعة ، فإن الآخرين قد يحسدونه إذا رأوا إقبال الناس وإكبابهم عليه ويسعون في الوشاية به ويقولون إنه يفعل كذا، وإنه وإنه، يريدون بذلك أن يمنع وأن يحال بينه وبين نشر العلم، فهذا هو الحسد المذموم.
فنقول لهؤلاء: لا تمنعوه إذا كان ينشر ما أعطاه الله -تعالى- من العلم ويبينه للناس، عليكم أن تفعلوا كما فعل-إذا كنتم مثله- فعليكم أن تعلموا كما كان يعلم، ولكن إذا رأيتم الناس لا يتقبلون منكم ولا يقبلون كلماتكم ونصائحكم وحلقاتكم ومجالسكم؛ فإن ذلك ليس لنقص ولكن لأمر قدره الله-تعالى- روي أن مالك بن أنس -رحمه الله-آتاه الله -تعالى- رتبة ورفعة؛ فأقبل الناس عليه، فكان يقف في المنبر ويحدث وكان يقول: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن وربيعة موجود في المسجد، جاءه إنسان.
فقال: -رحمك الله- هذا مالك يحدث عنك وأنت موجود، فقال يا بني: مثقال من دولة خير من حِمل علم يعني أن مالكا أعطاه الله دولة، يعني حظا وشهرة وسمعة ومكانة في الناس، وشعبية في الأمة فأحبوا مجلسه؛ مع أنه يروي عني مع أني شيخه الذي علمته كثيرا ولا يأتون إلي، وذلك لما له من هذه الدولة وهذه المكانة.
فنقول: لا تحسدوا هذا الذي أعطاه الله-تعالى- هذه الشهرة فيما بين الناس وتقولون، لم لا يأتينا الناس مثل ما يأتون؟! نحن نقيم حلقات ولا يأتون إلينا بكثرة كما يأتون إلى هذا؛ فتسعون في حسده وتسعون في حرمانه، وتصغرون شأنه وأمره، الحسد موجود بكثرة بين العلماء؛ ومع ذلك فإنه لا يسقط من قدر بعضهم إذا تكلم في بعض.
وجد ذلك في عهد مالك -رحمه الله- كان في زمانه محمد بن إسحاق -صاحب السيرة-وكان بينه وبين مالك بعض المناقشات، كل يدعي أنه أرفع رتبة وأنه أكثر علما، وأنه وأنه، فلما كان كذلك ؛صار بينهم شيء من المنافسة، فروي أن ابن إسحاق قال: ائتوني بكتب مالك أبيطرها-يعني أنقحها وأعالجها- يعني أنكم ترون أحاديثه ليست محققة وأنا البيطار، وأنا الطبيب، فسمع بذلك مالك فمقته وقال: هذا كذاب؛ فلا تأخذوا عنه فوقعت بينهما وحشة، وصار كل منهما يتكلم في الآخر، ولكن هل أسقطنا حديث مالك لما تكلم فيه ابن إسحاق ؟ هل أسقطنا كتب ابن إسحاق -ككتاب السيرة- لما تكلم فيه مالك؟
نقول: هذه من المنافسات؛ فلا ينبغي أن يقدح أحدهما في الآخر، كذلك وقعت منافسة بين البخاري وبين محمد بن يحيى الذهلي بحيث إنه كل منهما أخذ يتكلم في الآخر، ومع ذلك ما أسقطنا أحاديث البخاري ولا أسقطنا أحاديث الذهلي .
كان مسلم -رحمه الله- قد روى أحاديث كثيرة عن الذهلي فلما تكلم في البخاري أسقطها، وجاء بها إليه وقال: خذ أحاديثك لا حاجة لي فيها، وأما البخاري فإنه روى عن الذهلي وإن كان لا يصرح باسمه .
كذلك، المنافسات كثيرة، فمثلا بين شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وبين ابن الزملكاني في زمانه منافسات كثيرة، وكذلك بينه وبين السبكي منافسات، ومع ذلك كل منهما له رتبته، وهكذا أيضا وقعت منافسات بين ابن حجر وبين العيني -وكلاهما شرح البخاري- ومع ذلك ما أسقطنا شرح هذا ولا شرح هذا، وكل منهما يتكلم في الآخر، وكذلك بين السيوطي وبين السخاوي منافسات أيضا، وكل منهما تكلم في الآخر ومع ذلك ما أسقطت علوم هذا ولا علوم هذا.
فنقول: لا ينبغي أن نسمع كلام هذا في هذا؛ إذا كان ذلك من باب المنافسة، فكذلك ما وقع في زماننا-قبله-من الحسد لبعض العلماء الذين لهم مكانة ولهم شهرة، حسدهم بعض أهل زمانهم أو أهل بلادهم فوصموهم بأنهم وأنهم، فأما الحسد الذي في الحديث فإنه ليس بمذموم، وذلك لأنه يتمنى مثله، يقول: فلان أعطاه الله هذا العلم، وأعطاه هذا الفقه، فليت لنا مثله فيحسدونه بمعنى: أنهم يتمنون مثل ما أعطاه الله.
وأما الثاني: وهو حسد المال فصفته أو صورته أن يكون الله-تعالى-مَنَّ على إنسان وفتح عليه الدنيا، وأعطاه مالا؛ فسلطه على هلكته في الحق، فكان يتصدق، ويبني مساجد، ويصلح قناطر، ويبني مدارس، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الحق، ويقري الضيف، ويكرم جاره، ويعطي هذا وهذا؛ فيراه آخرون ليس لهم من المال مثل ما له ؛ فيغبطونه ويقولون: ليت لنا مثل ما أوتي.
الحديث الذي ذكرناه أولا، ذكر فيه أنه يثاب على ما أعطاه، الله يقول في الحديث: إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل في ماله بعلمه ؛ فيصل منه الرحم، ويعطي منه المحروم، ويتصدق منه، ويعطي ابن السبيل، فهذا بأفضل المنازل.
- الثاني: رجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا؛ فهو يقول: لو كان لي من المال مثل فلان لعملت مثل عمله -يعني تصدقت وبررت وأعطيت في وجوه الخير- يقول: فهو بنيته وقصده وهما في الأجر سواء، يعني أنه لما أن الله -تعالى- لم يعطه مالا أعطاه على نيته ؛لأنه يقول: لو كان لي مال لعملت مثل ما....
- الثالث آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو ينفقه في....