جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. الإسلام خير الأديان نظافة وآدابا، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتباعه أمرا إلا بينه لهم، حتى آداب قضاء الحاجة وما يتعلق بها من التباعد عن النجاسات ونحو ذلك تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم. الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه
الشهادتان معناهما وما تستلزمه كل منهما
17306 مشاهدة
موته -صلى الله عليه وسلم- كغيره من الأنبياء والرسل

(5) موته -صلى الله عليه وسلم- كغيره من الأنبياء والرسل، قال الله -تعالى- إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وقال -تعالى- وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ .
ثم إن المسلمين يدينون جميعا بأن الأنبياء قبله قديما قد ماتوا وانقضت أعمارهم التي كتب الله لهم في الدنيا، وأصبحوا في عالم البرزخ، وحيث ورد في النصوص ما يقتضي حياة الشهداء، كقوله -تعالى- وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ .
فإن الأنبياء أولى بهذه الحياة، ومعلوم أن الشهداء قد خرجوا من هذه الحياة الدنيا، وقد قسمت أموالهم بين الورثة، وحلت نساؤهم لغيرهم، فكان ذلك أوضح دليل على موتهم، ولكن الله -تعالى- نهى أن نقول لهم أموات في قوله -عز وجل- وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ . وهذه الحياة لا نعلم كيفيتها إلا أنا نتحقق أن أرواحهم خرجت من أبدانهم، وأن أعمارهم انقضت، وأعمالهم قد ختمت، وقد فسرت حياتهم في الحديث الصحيح بأن أرواحهم جعلت في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة ، وهذا يحقق أنها قد فارقت أبدانهم، وإنما تميزوا بهذه الحياة الخاصة، ومعلوم أن الأنبياء والرسل أولى بهذه الحياة، وبكل حال فإنها لا تمكنهم من إجابة من دعاهم، أو إعطاء من سألهم، فنحن نعتقد أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- في حياة بزرخية أكمل من حياة الشهداء، وقد تميز بحماية جسده عن البلى، كما ثبت في سنن أبي داود عن أوس بن أوس عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن من خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا من الصلاة علي فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي. قالوا: يا رسول الله، كيف تعرض عليك وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسام الأنبياء ، وهذا أوضح دليل على أن روحه قد خرجت من جسده، ورفعت إلى الرفيق الأعلى، كما كان ذلك آخر طلبه من الدنيا، وكذا قد ورد في الحديث عن أبي هريرة قوله -صلى الله عليه وسلم- ما من مسلم يسلم عليَّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام رواه أبو داود ، وفي كيفية هذا الرد خلاف، والله أعلم بذلك.
وقد روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ، وروى الحافظ الضياء في المختارة وغيره عن علي بن الحسين بن علي -رضي الله عنه- أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا؛ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم ، وقال سعيد بن منصور حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي -رضي الله عنهم- عند القبر فناداني فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء ؛ فهذه الآثار تدل على شهرة ذلك عند السلف، وحرصهم على حفظ هذه السنة وتبليغها، ومعنى قوله: لا تجعلوا بيوتكم قبورا أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور التي لا تجوز الصلاة عندها، والمراد صلاة التطوع.
ولا تتخذوا قبري عيدا نهى -صلى الله عليه وسلم- من زيارة قبره على وجه مخصوص واجتماع معهود بحيث يكون كالعيد الذي يتكرر الاجتماع فيه في زمن محدد، ويحصل به فرح واغتباط يعود ويتكرر كل عام مرة ومرارا، ثم أخبرنا بأن صلاتنا تبلغه أين ما كنا ، يعني أن ما يناله من الصلاة والسلام حاصل مع القرب والبعد، فلا مزية لمن صلى عليه أو سلم عند القبر، وهذا معنى قول الحسن بن الحسن ( وما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء )، ومن قصد القبر للسلام فقط، ولم يكن قصده المسجد؛ فقد اتخذه عيدا كما فهم ذلك الحسن بن الحسن -رضي الله عنه- وقد كره الإمام مالك -رحمه الله- لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي القبر النبوي؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك قال: (ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ).
وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- وكذا كبار التابعين يصلون في المسجد النبوي خلف الخلفاء الراشدين أغلب الأوقات، ثم ينصرفون بعد السلام، أو يجلسون في قراءة أو عبادة، ولم يحفظ عنهم الإتيان إلى القبر بعد كل صلاة، بل يكتفون بالصلاة والسلام عليه في التشهد، وذلك أفضل من الوقوف أمام القبر لذلك، رغم تمكنهم من الوصول إلى القبر في حياة عائشة وبعدها، قبل بناء الحيطان دونه، بعد أن أدخل في توسعة المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك .
وبكل حال فإن الصحابة لم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج إذا قدم من سفر فيسلم عليه ثم ينصرف، كما نقل ذلك عن ابن عمر ولم يحفظ عن غيره من الصحابة، ولم يكن يفعله دائما، فتكرار ذلك كل وقت بدعة ووسيلة إلى تعظيمه أو دعائه مع الله، وقد اتفق الأئمة -رحمهم الله- أن من سلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأراد الدعاء لنفسه لا يستقبل القبر، وإنما يستقبل القبلة التي هي أفضل الجهات وأرجى لقبول الدعاء، وأما الحكاية عن مالك أنه قال للمنصور: ولم تصرف وجهك عنه.. بل استقبله واستشفع به.. إلخ فهي حكاية موضوعة مكذوبة عليه، كما حقق ذلك العلماء رحمهم الله .