فتاوى في الطهارة الشرعية وموجباتها
الفصل السادس نواقض الوضوء وما في بعضها من الخلاف
وهي ما يلزم إعادة الوضوء بعد أحدها.
(فأولها): الخارج من السبيلين رأس> أي من القبل أو الدبر، فينقض قليل البول والغائط وكثيره، وينقض خروج الريح من الدبر؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- رسم> لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ متن_ح> رسم> ثم فسر الحدث بخروج النسم من الدبر، وهو بعض أمثلته، فإن كان الخارج بولا أو غائطا أو ريحا انتقض الوضوء، وإن كان تخيلا وتوهما فلا يلتفت إليه؛ ولهذا سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يخيل إليه في الصلاة أنه يجد الشيء -أي الريح- فقال: رسم> لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا متن_ح> رسم> رواه الشيخان وغيرهما . حديث>
وذلك أن بعض الناس يحصل معه حركة في بطنه، وهو ما يسمى بالقراقر، فيظن أنه أحدث، وقد يكون ذلك من وسوسة الشيطان، فنهي عن قطع الصلاة أو إعادة الوضوء حتى يتحقق خروج الخارج.
ومن النواقض (ثانيا): ما يخرج من البدن إذا كان كثيرا نجسا، كالدم والقيء والمذي والقلس، كما روى ذلك في حديث عن عائشة اسم> -رضي الله عنها- عند ابن ماجه اسم> والدارقطني اسم> وفيه مقال، وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قاء فتوضأ، كما عند أحمد اسم> والترمذي اسم> عن ثوبان اسم> وأبي الدرداء اسم> أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاء فتوضأ، قال ثوبان اسم> أنا صببت له وضوءه (والقيء) خارج من الجوف مستقذر.
ويلحق به الدم كالرعاف، ودم الجراح، فقد روى ابن ماجه اسم> والحاكم وصححه عن عائشة اسم> -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: رسم> إذا صلى أحدكم فأحدث فليمسك على أنفه ثم لينصرف متن_ح> رسم> رجاله ثقات حديث> ومعناه أن من أحدث في الصلاة فقد يستحيي من الناس، فله أن يمسك بأنفه، ليوهم من رآه أنه مرعوف، فإن الرعاف معروف عندهم أنه يبطل الطهارة، لكن يعفى عن الدم اليسير، وعن الخارج الذي لا يتوقف، وهو من حدثه دائم؛ لقول الحسن اسم> ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم. وعصر ابن عمر اسم> بثرة فخرج منها الدم ولم يتوضأ. وبزق ابن أبي أوفى دما اسم> فمضى في صلاته.
صلى عمر اسم> وجرحه يثعب دما؛ لأنه حدث دائم، وكذا الصحابي الذي أصابه سهم فنزفه الدم ومضى في صلاته، فيلحق به كل من حدثه دائم كسلس البول، لكن يتوضأ لكل صلاة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للمستحاضة: رسم> ثم توضئي لكل صلاة متن_ح> رسم> .
ومن النواقض (ثالثا) زوال العقل بنوم، أو إغماء، أو سكر ونحوه ؛ لأنه بعد زوال عقله لا يشعر، مما يخرج منه.
والدليل ما رواه علي اسم> ومعاوية اسم> أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: رسم> العين وكاء السه، فمن نام فليتوضأ متن_ح> رسم> . وفي حديث معاوية اسم> رسم> فإذا نامت العينان استطلق الوكاء متن_ح> رسم> قال أحمد: حديث علي أثبت وأقوى حديث> ومعناه أن الإنسان إذا كان مستيقظا فإنه يمسك نفسه ويشعر بما يخرج منه، فإذا نام زال إحساسه، فربما يخرج منه الريح وهو لا يشعر، وخصه المحققون بما إذا كان مضطجعا واستغرق في النوم، بخلاف نوم الجالس المتمكن، وكذا نوم الراكع والساجد، فإنه في العادة لا يستغرق، ويلحق بالنوم الإغماء، والجنون، والسكر، فإنه يزيل العقل، فهو أولى بالوضوء بعده من النوم.
ومن النواقض (رابعا) مس الذكر أو الفرج باليد بدون حائل فقد ورد فيه أحاديث كثيرة، ذكرها الحافظ ابن حجر اسم> في التلخيص الحبير وتبعه الشوكاني اسم> في النيل وقد بلغت سبعة عشر حديثًا مرفوعًا، وكثير منها يبلغ درجة الصحة أو الحسن، وأشهرها حديث بنت صفوان اسم> فقد رواه مالك اسم> في الموطأ باب الوضوء من مس الفرج، ورواه أحمد اسم> وأهل السنن وقال الترمذي اسم> هذا حديث صحيح، ثم ذكر له طرقا عن بسرة اسم> وعن عروة اسم> ونقل عن البخاري اسم> أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث بسرة اسم> قال الترمذي اسم> وهو قول غير واحد من أصحاب النبي والتابعين، وبه يقول الأوزاعي اسم> والشافعي اسم> وأحمد اسم> وإسحاق اسم> ونقل الحافظ اسم> في التلخيص عن أحمد اسم> أنه صحيح، وصححه أيضا الدارقطني اسم> وابن معين اسم> والبيهقي اسم> وغيره .
ثم روى مالك اسم> في الباب عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص اسم> قال: كنت أمسك المصحف على سعد اسم> فاحتككت فقال سعد اسم> لعلك مسست ذكرك؟ فقلت: نعم. قال: قم فتوضأ، ثم روى عن نافع اسم> عن ابن عمر اسم> قال: إذا مس أحدكم ذكره فقد وجب عليه الوضوء وروى عن عروة اسم> نحوه وروى عن ابن عمر اسم> أنه كان يغتسل ويتوضأ، ويذكر أنه أحيانا يمس ذكره فيتوضأ بعده .
وكل ذلك يدل على شهرة انتقاض الوضوء من مس الذكر، ويلحق به مس المرأة فرجها؛ لحديث أم حبيبة اسم> مرفوعا: رسم> من مس فرجه فليتوضأ متن_ح> رسم> صححه أحمد اسم> وأبو زرعة اسم> حديث> وقال ابن السكن اسم> أعلم له، علة ذكره في النيل وهو يعم القبل والدبر.
وشرطه أن يباشر مسه بدون حائل؛ لحديث أبي هريرة اسم> رفعه: رسم> مَن أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء متن_ح> رسم> رواه أحمد اسم> وابن حبان اسم> وقال: صحيح سنده، عدول نقلته، وصححه الحاكم اسم> ورواه البيهقي اسم> وغيره، وجوَّده ابن السكن اسم> كما في التلخيص . حديث>
وأما حديث طلق بن علي اسم> أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن مس الذكر في الصلاة، فقال: رسم> وهل هو إلا بضعة منك متن_ح> رسم> رواه أحمد اسم> وأهل السنن وغيرهم حديث> فقد صححه ابن المديني اسم> وغيره، وقال عمرو الفلاس اسم> هو عندنا أثبت من حديث بسرة اسم> وضعفه الشافعي اسم> وأبو حاتم اسم> وأبو زرعة اسم> والدارقطني اسم> وغيرهم، ورجح ابن حبان اسم> والطبراني اسم> وابن العربي اسم> وغيرهم أنه منسوخ وهو الأقرب.
ثم إن من شرط النقض أن يمسه ببطن الكف أو بظهرها، فلا ينقض المس بالرجل والذراع، كالساق والفخذ.
ومن النواقض (خامسا) مس المرأة بشهوة؛ ودل عليه قول الله -تعالى- رسم> أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ قرآن> رسم> وفي قراءة: (أو لمستم النساء)، وهي قراءة سبعية وخص النقض بما كان لشهوة، أي لذة يحصل معها التلذذ والانتشار، كالتقبيل، والمس باليد، أو بشيء من أعضاء الجسم، وأما الحديث عن عائشة اسم> رسم> أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل بعض نسائه ولم يتوضأ متن_ح> رسم> رواه أبو داود اسم> وغيره حديث> فضعفه بعض العلماء وحمل على أن التقبيل للشفقة والرحمة.
ثم إن اللمس يعم مس المحرم والأجنبية والزوجة، إذا كان بشهوة، ويعم المس باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد.
ومن النواقض (سادسا) تغسيل الميت وقد ورد الأمر بالاغتسال منه في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- رسم> من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ متن_ح> رسم> رواه أحمد اسم> وأبو داود اسم> والترمذي اسم> وحسنه حديث> وله طرق كثيرة يبلغ بها درجة الحسن، وحمل الاغتسال على الندب، وقال الإمام أحمد اسم> أقل ما فيه الوضوء. وذهب إليه بعض الصحابة والأئمة، وأما حمل الميت فلعل المراد احتضانه بدون حائل، ففيه الوضوء، دون حمل السرير وهو عليه، فلا حاجة مع الحمل للجنازة إلى الوضوء، أما من غسله بأن دلك جسده، ولو مع حائل كخرقة ونحوها، فالمختار أنه يتوضأ، وستحب له الاغتسال، ويعم تغسيل الصغير والكبير، والرجل والمرأة، وإن لم يتوضأ فلا حرج عليه؛ لوجود الخلف بين العلماء، ولا يعم من صب الماء على الميت، إذا لم يمس بشرته ويدلكه بيديه.
ومن النواقض (سابعا) أكل لحم الإبل، وهو اللحم الأحمر الذي يطلق عليه اسم اللحم، وقيل: إنه ينقض أيضا أكل الكبد، والطحال، والكلية، والأمعاء، ونحوها، فإنها تدخل في لحم الإبل عند الإطلاق، كما تدخل في تحريم لحم الخنزير ونحوه.
والعلة في الوضوء من أكل لحم الإبل خاصة قوة التغذية؛ فإن للحمها من القوة ما ليس لغيره، فناسب الوضوء بعده تخفيفا لتأثيره على الشهوة أو البدن، ويمكن أن العلة ما ورد من أن على ذروة كل بعير شيطانا والشيطان خلق من النار، والنار تنطفئ بالماء، فناسب الوضوء بعد أكل لحمها، وورد أيضا أنها جن خلقت من جن وفي الصحيحين عن أبي مسعود اسم> مرفوعا رسم> وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل متن_ح> رسم> وعند أبي هريرة اسم> -رضى الله عنه- مرفوعا: رسم> والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل والفدادين، أهل الوبر والسكينة في أهل الغنم متن_ح> رسم> .
فعلى هذا يجب الوضوء على من أكل من لحمها، وقد دل عليه حديث جابر بن سمرة اسم> رسم> أن رجلا سأل رسول الله: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا توضأ. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، فتوضأ من لحوم الإبل. قال: أصلي من مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا متن_ح> رسم> .
وعن البراء بن عازب اسم> قال: رسم> سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: توضئوا منها، وسئل عن لحوم الغنم، فقال: لا توضئوا منها، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: لا تصلوا فيها؛ فإنها من الشياطين، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: صلوا فيها فإنها بركة متن_ح> رسم> رواه أحمد اسم> وأهل السنن وابن حبان اسم> وابن خزيمة اسم> في صحيحه وغيرهم حديث> ولا عذر لمن ترك العمل بهذين الحديثين مع صحتهما، وحديث ترك الوضوء مما مست النار عام مخصوص هذا الحديث؛ لأنه فرق بين الإبل والغنم، وكلاهما مما مست النار، وتكون الرخصة في ترك الوضوء من الخبز، وأكل الطعام المطبوخ، والأقط، والخضار التي تطبخ، ويبقى لحم الإبل يتوضأ منه، ولو أكله غير مطبوخ، ولا مشوي؛ لظاهر الحديث، والله أعلم.
(وثامن) النواقض الردة عن الإسلام نعوذ بالله من ذلك، وهي الكفر بعد الإسلام، أو عمل يحصل به الكفر، من الأقوال، أو الأفعال، كدعاء الأموات، والطواف بالقبور، والتمسح بأتربتها، والسجود لها، والسخرية بالله أو بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أو بالقرآن، وإنكار شيء من أركان الإسلام، واستحلال الزنى، أو الربا المحرم، أو المسكرات ونحو ذلك.
والدليل قوله -تعالى- رسم> لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ قرآن> رسم> وقوله: رسم> وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قرآن> رسم> ولا شك أن الطهارة عمل شرعي، فإذا ارتد عن الدين، وأشرك بالله حبط وضوؤه، ولزمه تجديد الوضوء، والتوبة النصوح.
ويستحب تجديد الوضوء لكل صلاة، فقد قال أنس اسم> رسم> كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ لكل صلاة، قيل: وكيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث متن_ح> رسم> رواه البخاري اسم> حديث> وروى بريدة اسم> قال: رسم> صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد متن_ح> رسم> رواه مسلم اسم> . حديث>
ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث لم يلتفت إلى الشك، وصلى في تلك الحال، أما إن تحقق الحدث، وشك هل توضأ بعده، لزمه الوضوء لرفع الشك، والمحدث لا تصح منه الصلاة فرضا، ولا نفلا، ويصح منه سجود التلاوة والشكر، ولا يمس المصحف إلا على طهارة كاملة، ولا يطوف بالبيت حتى يتطهر من الحدثين.
مسألة>