إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. logo إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم.
shape
درس الفجر - القواعد الأربعة
5931 مشاهدة print word pdf
line-top
القاعدة الثانية: اتخاذ الواسطة بين الخالق والمخلوق سبب للشرك


القاعدة الثانية: أنهم يقولون: ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة، فدليل القربة قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ .
ودليل الشفاعة قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ الآية.
والشفاعة شفاعتان: شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة.
فالشفاعة المنفية: ما كانت تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ والدليل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ .
والشفاعة المثبتة: هي التي تطلب من الله ، والشافع مكرم بالشفاعة، والمشفوع له: من رضيَ اللهُ قوله وعمله بعد الإذن، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ .


هذه القاعدة الثانية، فيها سبب شرك الأولين، والذي حملهم على ذلك العمل وصاروا به مشركين، هو نفس الذي يفعله القبوريون الذين يعبدون الأموات؛ فإن الجميع مشتركون في القصد، يقولون: ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لأجل القربى ولأجل الشفاعة، وإلا فنعرف أنهم لا يخلقون ولا يرزقون، لا يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعا ولا ضرا، ولكن نجعلهم شفعاء، نجعلهم وسطاء، لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله.
يضربون مثلا -ولله المثل الأعلى- فيقولون: إذا كان لك حاجة عند الملك فإنك تطلب واسطة يتوسط لك حتى تقضى حاجتك. فأنا حاجتي عند الله المغفرة والرزق، أطلب واسطة، أتوسط بهذا النبي وبهذا الولي، فأقول: يا ولي الله، أو يا نبي الله اشفع لي عند الله، واسأله لي حتى يرزقني ويعافيني ويشفيني من هذا المرض، ويقضي عني هذا الدين، أو يكف عني هذا العدو، أو ينصرني على من عاداني، أتوسط بك، أدعوك حتى تدعو الله لي. هكذا شبهتهم.
ونقول: إن الملوك بشر، إن الملك والأمير والوزير ونحوهم مثلنا في البشرية، لا يعلمون الغيب ولا يطلعون على الحقائق، ولا يعرفون مَن الصادق مِن الكاذب، ولا تتحمل نفوسهم أن يعرفوا جميع حاجات الخلق.
الرب -سبحانه وتعالى- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فهو لا تخفى عليه خافية من عباده يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى لا يشغله سمع عن سمع، لا تغلطه كثرة المسائل مع اختلاف اللغات وتفنن المسؤولات، يسمع دعاءك ودعاء هذا ودعاء الخلق كلهم في لحظة واحدة، وفي طرفة واحدة، وإذا كان كذلك، فكيف يكون محتاجا إلى وسطاء، وكيف يقاس بخلقه؟
فلا يجوز لكم أن تقيسوا الخالق بالمخلوق، وتقولون: نجعل بيننا وبين الله وسطاء نتوجه بهم إلى الله ليقربونا إلى الله، ليفتحوا لنا الأبواب حتى ندخل على الله، وحتى يقبل منا أو يشفعوا لنا؛ هذا كله قياس فاسد؛ لا يجوز لكم أن تقيسوا الخالق بالمخلوقين.
ذكر الدليل على ذلك، فالدليل على أنهم يقصدون التقرب قول الله تعالى في سورة الزمر: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يعني يفصل بينهم فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ وصف هذا بأنه كذب وكفر.
كذبوا، هؤلاء الذين يعبدونهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، حتى الأنبياء؛ ولذلك قال الله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا فكيف يقربونكم إلى الله؟‍
حتى نبينا -صلى الله عليه وسلم- قال الله في سورة الأعراف: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ .
ويقول الله في الآية في سورة الانفطار: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ فكيف يقربونكم إلى الله زلفى؟ وكيف ينفعونكم وهم أموات غير أحياء، كما وصفهم الله في قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ؛ يعني: لا يخلقون وهم مخلوقون، ثم وصفهم بأنهم: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أموات سواء كانوا جمادات أو من الأموات الذين قد ماتوا وانقضت حياتهم: وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ يعني: لا يدرون متى البعث، قد انقضت أعمارهم الدنيوية، فكيف مع ذلك يقربونكم إلى الله زلفى؟
ودليل الشفاعة هذه الآية في سورة يونس: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ يعبدون هؤلاء الأموات أو هؤلاء الغائبين أو هذه الجمادات أو هذه القبور ونحوها: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ يشفعون لنا، فيطلبون الله حتى يقضي حوائجنا، حتى ينصرنا على أعدائنا، حتى يكثر أموالنا وأولادنا، وحتى يعطينا ما نطلبه: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ أتخبرون الله بشيء يجهله؟ فالله عالم بكم، وأعلم بكم من هؤلاء الذين تدعونهم وتجعلونهم وسطاء بينكم وبين الله: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وهكذا كانت عبادتهم لأجل هذا الشرك أنهم يسمونهم شفعاء.
في قصة صاحب يس لما أسلم قال: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا كيف أتخذ مع الله آلهة؟ سماها آلهة، وذكر أنها لا تغني شفاعتهم شيئا، وذلك دليل على أنهم يقصدون الشفاعة لعبادة تلك الآلهة، ويسمونها آلهة؛ لأن قلوبهم تألهها أي تعظمها وتحبها.
وهكذا إذا بعثوا في يوم القيامة يقولون: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ويقولون لآلهتهم: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ نسويكم به؛ يعني بتعظيمنا لكم وفي عبادتنا لكم، لم يسووهم برب العالمين في الخلق والتدبير، وإنما سووهم في استحقاق العبادة، دعوهم كما يدعى الله، فهذا دليل على أنهم يعرفون الله، وأنهم يعبدونه، ولكن يتخذون معه هذه الآلهة للشفاعة.

line-bottom