إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف logo قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم.    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. من كان مسافرا ولم يصل المغرب والعشاء فأدرك العشاء خلف إمام مقيم فالمختار أنه يصلي المغرب وحده، فإذا صلاها دخل معه في بقية العشاء، وذلك لاختلاف النية؛ فإن المغرب والعشاء متفاوتان بينهما فرق في عدد الركعات. هذا الذي نختاره. وأجاز بعض المشائخ أنه يدخل معهم بنية المغرب، فإذا صلوا ثلاثا فارقهم وتشهد لنفسه وسلم، ثم صلى العشاء، ولكل اجتهاده عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة)
shape
محاضرات عن طلب العلم وفضل العلماء
18252 مشاهدة print word pdf
line-top
الوسائل المعينة على طلب العلم

وإذا كان كذلك فنقول: كيفية طلب العلم تتفاوت عما كانت عليه؛ فنذكر بعض الوسائل التي يكون طالب العلم بها مستفيدا:
فأولا: الإخلاص في الطلب بأن ينوي في الطلب الاستفادة، يعني: أن يكون مستفيدا من هذا العلم فإن هذه النية صادقة وأن ينوي شرف العلم؛ فإن العلم يرفع أهله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ينوي أن يرفعه العلم، وليس رفعه عند الناس أن يحترموه وأن يقوموا له، وإنما رفعه عند الله أن يكون له منزلة، وأن يكون له عند الله تعالى رتبة رفيعة؛ بحيث أنه يَقبل دعوته ويقبل عمله ويُضاعف أجره، فهذه منزلة لأهل العلم.
إذا نويت أن الله تعالى يرفعك عنده درجات، وإن كنت في الدنيا خاملا، ولكن إذا كنت عند الله رفيعا فلست بخامل ولا فاسد عند الله تعالى مع حسن العمل، كذلك أيضا ينوي العمل على بصيرة؛ فإنك مكلف بالعمل ولا بد قبل العمل من التعلم حتى تعرف كيف تعمل، وكذلك أيضا ينوي نفع المسلمين عندما يحتاجون إليك، وإذا أنت تفتيهم وتعلمهم وتبين لهم الأحكام، ففي ذلك فوائد كثيرة، هذه حسن النية والأعمال بالنيات.
كذلك أيضا عليه بعد ذلك أن يُجدَّ في الطلب، كيفية الطلب؟ أولا: أن يأتي العلوم من مبادئها، لا شك أن للعلوم مبادئًا؛ فلا يأتي الكتب من أوساطها ولا من أواخرها، فإنه مأمور بأن يتعلم من أول ما يبدأ به طالب العلم، نحن لا نقول: إنه يَلْزم كل طالب أن يبدأ بالهجاء قبل كل شيء، لكن إذا كان قد تعلم حروف الهجاء وتعلم الكتابة وما أشبهها فيأتي العلوم من أبوابها، ولكل علم باب يطرقه طالب العلم، فمثلا القرآن لا بد أن يبدأه من مبادئه حتى يتقنه ويعرف كيف يقرؤه، لا شك أنه يتفاوت في الأهمية؛ فلأجل ذلك يبدأ بقراءة المفصل، ثم بعد ذلك يواصل قراءته إلى أن يتمه، كذلك أيضا يحرص على تعلم معانيه، وذلك بالكتب المختصرة في التفسير وما أشبهها.
كذلك علم الحديث؛ يحرص على أن يقرأ في المختصرات، فيقرأ في الكتب التي هي مختصرة في علم الحديث، والتي هي صحيحة كالأربعين النووية، وعمدة الأحكام من أحاديث خير الأنام، هذه مبادئ علم الحديث، وبها يعرف كيف يستدل إذا حفظ هذه العمدة أحاديثها؛ نحو أربعمائة وزيادة يسهل حفظها.
كذلك بقية العلوم يأتيها من مبادئها، كان مشائخنا يبدءون بعلم المقدمات كما يُبدأ في المراحل الأولى مرحلة الابتدائية وما بعدها، يحثون طالب العلم أن يبدأ من المبادئ، فبذلك يحصل على رتبة أو على منزلة رفيعة، كذلك يواصل إلى أن يصل إلى الرتبة التي بعد المبتدئين؛ ذلك لأنهم قسموا طلبة العلم وحملته إلى مبتدئين ومتوسطين وإلى منتهين أو مكتملين.
فعندنا مثلا الإمام ابن قدامة -رحمه الله- ألف كتابا في الفقه للمبتدئين وسماه: عمدة الفقه، جعله للمبتدئين الذين في السن العاشرة ونحوها من أعمارهم يحفظونه ويتعلمون أحكامه.
ثم جعل كتابا آخر للمتوسطين وسماه: المقنع، وتوسع فيه بذكر مسائل لم يذكرها في كتاب العمدة، وذكر في بعض المسائل روايتين ليتعود الطالب على الترجيح.
ثم بعد ذلك ذكر كتابا لمن بعدهم وهم المنتهون وهو كتاب: الكافي الذي توسع فيه، وذكر فيه مسائل كثيرة، وإن لم يكن يذكر الخلاف غالبا إلا إذا كان الخلاف قويا، ولما ذكر هذا كله للمشتغلين بالمذهب الحنبلي أحب أيضا أن يذكر كتابا أو يؤلف آخر للمشتغلين بالمذاهب كلها فألف كتاب: المغني؛ الذي ذكر فيه المذاهب كلها المذاهب الأربعة، فهو إنما يحتاجه المنتهون والذين يتزودون.
فنقول لطالب العلم: عليك أولا أن تأخذ مبادئ العلوم، وعليك أن تجتهد على حفظ المتون، كان مشائخنا يحثون على حفظ المتون، ويحثون على حفظ عمدة الفقه وعمدة الحديث؛ لأن هذه في الحديث وهذه في الفقه، وكذلك على المتون التي يستعان بها.
ففي الفرائض يحثون على حفظ: المنظومة الرحبية ويشرحونها للطلاب، وذلك لأن علم الفرائض له أهميته لأنه أول علم يُفْقَد، ثم يحثون أيضا على حفظ متن الآجرومية في النحو؛ وذلك لأنه مختصر ولأنه به يقيم الإنسان لسانه ولا يحتاج إلى أي توسع في الخلافات التي قد تجري بين النحويين، بل إذا حفظ هذه المتون المختصرة استطاع أن يقرأ بطلاقة وأن يسلم لسانه من الخطأ واللحن وما أشبه ذلك، فهذه حالة المبتدئين في حفظهم لهذه المبادئ.
في العقيدة يبدءون بثلاثة الأصول وذلك لأنها عقيدة؛ ولما فيها من التربية للصغار على كيفية الاعتقاد وعلى معرفة ما يعتقده، ثم بعد ذلك يقرءون الواسطية ويكلفون بحفظها؛ فمن أراد أن يكون من حملة العلم فإنه يأتي البيوت من أبوابها؛ فيبدأ بحفظ هذه المتون.
تساهل كثير من المعلمين في هذه الأزمنة -المعلمون الرسميون في المدارس وفي المعاهد وفي الجامعات- في أمر الحفظ فلا يكلفون بحفظ المتون؛ ولعل السبب في ذلك كثرة ما يكون على الطلاب من الفنون ومن المواد التي تتزاحم عليهم، فلا يدري أحدهم بأي شيء يبدأ فيتسامحون معهم في حفظ المتون، وإلا فإن مشائخنا يهتمون مع تلاميذهم بحفظ المتون.
أولا: لا يقبلون طالب علم يقرأ عليهم إلا بعد أن يحفظ القرآن الكريم، إذا جاءهم من يريد القراءة قالوا له: هل حفظت القرآن؟ اذهب إلى المعلمين وتحفظ عندهم، وكان هناك معلمون يعلمون القرآن، وإن كانوا من العوام، وإن كانوا أيضا لا يقرءون القرآن بتجويده وترتيله، ولكن قراءة عامية، وهم أيضا من حفظة القرآن معلمون في المساجد.
وبعدما يحفظ القرآن يرشدونه إلى مبادئ المتون؛ عليك أن تحفظ المتن الفلاني والمتن الفلاني ثم بعد ذلك تأتي وتقرأ، وكان المشائخ يجعلون معلما للمبتدئين، ومعلما للمتوسطين، أو وقتا لهؤلاء ووقتا لهؤلاء، فالمعلمون الذين للمبتدئين يقرءون أو يشرحون لهم الأربعين النووية، ثم عمدة الحديث وعمدة الفقه والآجرومية والرحبية هذه المتون التي يشرحونها للمبتدئين وكذلك ثلاثة الأصول وما أشبهها.
أما الذين قد درسوا في ذلك نحو خمس سنين أو عشر سنين وهم على هذا؛ فإنهم يقرءون مع المتوسطين الذين يقرءون من المتون مثل بلوغ المراد، وزاد المستقنع، وكذلك في النحو ألفية ابن مالك وفي التوحيد كتاب التوحيد وما أشبهه، فيكررون مثل هذه المتون ويحفظونها ويتلقون شرحها من المشائخ.
كذلك هناك الذين هم قد حفظوا ذلك ويقال لهم المنتهون أو العالمون والعارفون هؤلاء يكررون، والغالب أنهم يقرءون الشروح ويقرءون المطولات ويكون لهم وقت، فأدركنا المشائخ أول الفجر وبعد المغرب للمبتدئين؛ بحيث إنهم يقرأ عندهم طلاب من السنة العاشرة إلى العشرين، هؤلاء يشرحون لهم الرحبية والفرائض ويعرفون، ويعطونهم أيضا مسائل في الفرائض يقسمونها، ويلقون عليهم مسائل في ثلاثة الأصول وفي الأربعين النووية وما أشبهها، فيتدربون إلى أن يبلغوا.
وحيث إنهم يتفاوتون في الحفظ فبعضهم قد يحفظ هذه المتون ويعرف معانيها، ويستطيع أن يدرب ويستطيع أن يدرس زملاءه ويرد عليهم وهم ابن خمس عشرة أو ثلاث عشرة لقوة ذاكرته فينتقل إلى المتوسطين الذين يقرءون في الكتب المتوسطة كالبلوغ والزاد حيث إنهم يحفظونه حفظا كاملا، يعني: زاد المستقنع وكذلك أيضا بلوغ المرام وألفية ابن مالك والعقيدة الواسطية وكتاب التوحيد وما أشبهها.
هؤلاء هم المتوسطون يكررون حفظ هذه المتون ويقرءونها مرة بعد مرة، ويرجعون إلى شروحها وهكذا، فإذا هضموها واستفادوا منها وعرفوا كيف يشرحها أحدهم استطاع التلميذ أن يدرس زملاءه أو من هم في رتبته، استطاع أن يستفيد منه زملاؤه؛ انتقل بعد ذلك إلى المنتهين الذين يقرءون في المُطَولات.
كان المشائخ يجعلون لهم وقتا واسعا، فيجلس أحد المشائخ يجلس في الضحى أي: من نحو الساعة الثامنة إلى الساعة الحادية عشرة أي: قبل الظهر بساعة أو نحوها في هذه الساعات الثلاث يقرءون عليه في كتب موسعة فيقرءون في تفسير ابن كثير وكذا في تفسير البغوي ويقرءون في الشروح في كتاب المغني، وفي كتاب الكافي، وفي الإنصاف الذي هو شرح للمقنع، وفي المبدع وهو أيضا من شروح المقنع.
ويقرءون في شروح كتاب التوحيد كتيسير العزيز الحميد، وفتح المجيد، وكذا يقرءون أيضا في كتب المواعظ ونحوها، التفسير كتفسير ابن جرير وما أشبهه، وكذلك أيضا في كتب الردود وما أشبهها؛ وذلك لأن المشائخ -رحمهم الله- كانوا مشتغلين بالردود على المناوئين لهم وهكذا أيضا ردود العلماء السابقين؛ كمنهاج السنة لابن تيمية وغيره من الكتب التي تكون متوسعة.
فالكتب التي يتوسع فيها العلماء كزاد المعاد، وإغاثة اللهفان وما أشبها، وقد يقرءون أيضا في كتب المواعظ مثل: الزواجر عن اقتراف الكبائر، ومثل شرح ابن رجب للأربعين، ومثل لطائف المعارف، ومثل كتب التاريخ يقرءون فيها للتزود.
وذلك بلا شك يكسب القراء والحاضرين فائدة كبيرة؛ لأنهم بذلك يستمعون إلى هذه العلوم وإن لم يحفظوها حفظا ولكنها تمر بهم، يمر بهم فوائد ومقالات يقولها أولئك المؤلفون السابقون الذين نصحوا للأمة، والذين علموهم كيف يستفيدون وكيف يعملون وكيف يحذرون، فهذه مراتبهم.
ولا شك أن الطلب في ذلك الزمان فيه مشقة؛ حيث إن المشائخ إنما يتواجدون في المدن، فهذه المملكة مع اتساعها لا يوجد فيها علماء أكابر إلا في المدن كالمدينة ومكة وهذا البلد والأحساء والقصيم
وأما بقية القرى فإنما فيها طلبة أو فيها معلمون للقرآن، ومتى حفظ الطالب القرآن انتقل إلى المدن إلى الرياض أو إلى القصيم أو إلى الأحساء ليتعلم وينقطع عن أهله، قد يبقى سنوات ما تيسر له الرجوع إلى أهله، أو يرجع إليهم كل سنة شهرا أو نصف شهر ومع صعوبة المواصلات، وكذلك أيضا عدم الاتصالات، عدم وصول المكاتبات إلا بعد مدة قد ينقطع خبره إلا بعد مدة.
ومع ذلك فإنهم يتجشمون المشقات، ويصبرون على الصعوبات، ويلاقي كل منهم تعبًا، ويلاقي صعوبة، ويصبر على العُزْبة، ويصبر على الفقر والفاقة وشدة الحاجة، ويصبرون على العري وعلى الوسخ وعلى الظمأ والجوع وما أشبه ذلك؛ محبة منهم لنيل العلم ولحفظه ولأخذه عن منابعه وعن مشائخه وحملته فيصير أحدهم مُددا متطاولة؛ ربما يستمر عشرين سنة وهو في التعلم، وبعضهم يتعلم عشر سنين، وبعضهم ثلاثين سنة على حسب تفاوتهم في الحفظ وقوة الذاكرة وسرعة الإدراك وما أشبه ذلك، هذه مسالكهم في طلب العلم ونفعهم الله تعالى وانتفعوا كثيرا بما حفظوا وصاروا من ورثة الأنبياء.

line-bottom