محاضرة الإيمان باليوم الآخر
أصحاب الأعراف
...قولين كل منهما تتفرع منه أقوال: أحدهما: أن الرجال الذين هم على الأعراف رجال قلت حسناتهم عن سائر أهل الجنة فاستوت حسناتهم وسيئاتهم؛ لأنه إذا وزن أعمال الجميع بالميزان المتقدم في قوله: رسم> وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قرآن>
رسم> من ثقلت حسناته على سيئاته بقدر صؤابة وهي بيضة القملة؛ دخل الجنة. وكذلك من ثقلت سيئاته على حسناته فخفت كفة حسناته بقدر ذلك؛ دخل النار.
ومن اعتدلت سيئاته وحسناته فلم ترجح كفة السيئات ولم ترجح كفة الحسنات؛ لأن آحاده قابلت عشراته, فلم يكن هنالك رجحان لهذه ولا هذه. فهؤلاء هم أصحاب الأعراف على قول جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم, وممن صرح بهذا عبد الله بن مسعود اسم> وحذيفة بن اليمان اسم> عبد الله بن عباس اسم> رضي الله عنهم.
فعلى هذا مدار هذه الأقوال راجع إلى هذا القول سواء قلنا ما قاله بعضهم: من أنهم رجال جاهدوا في سبيل الله فنهاهم آباؤهم, فعصوا آباؤهم وعقوهم بالخروج وقتلوا في سبيل الله, فمنعهم القتل في سبيل الله من دخول النار, ومنعهم عقوق الآباء من دخول الجنة؛ فكانوا على الأعراف. وكذلك قول من قال: إنهم بروا آباءهم وعقوا أمهاتهم أو بالعكس؛ فمنعهم بر الأمهات من النار, ومنعهم عقوق الآباء من دخول الجنة إلى نحو هذا من الأقوال, فمداره راجع إلى شيء واحد, كما روي مصرحا به عن عبد الله بن مسعود اسم> أنه الوزن, وأن من ثقلت موازينه دخل الجنة, ومن خفت موازينه دخل النار, ومن اعتدلت موازينه فلم ترجح إحدى الكفتين على الأخرى كان على الأعراف.
أقوال العلماء تدور على هذا. وعلى هذا القوال فأصحاب الأعراف أقل عملا من غيرهم من أهل الجنة؛ لأن لهم سيئات ثبطتهم عن دخول الجنة ولهم حسنات منعتهم من دخول النار؛ وعلى هذا فهم أقل مرتبة من أهل الجنة الذين دخلوها. وقال بعض العلماء كما سيأتي في أنهم إذا دخلوا الجنة تلقى في كل واحد منهم شامة بيضاء يعرف بها, وقال بعضهم: يقال لهم مساكين أهل الجنة لأنهم آخر الداخلين فيها.
سواء قلنا إن الأعراف هو أعالي السور المذكور وشرفاته, أو أنه مرتفعات فوق الصراط كما قاله بعض العلماء. وعلى هذا القول فأصحاب الأعراف أقل درجة من أهل الجنة.
وذهب قوم إلى أن أصحاب الأعراف من أعظم درجات أهل الجنة, فزعم بعضهم أنهم ملائكة, وزعم بعضهم أنهم الشهداء.
وزعم بعضهم أنهم خيار أهل الجنة من العلماء العاملين والأتقياء الكرام أنهم جاءوا رسم> فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ قرآن>
رسم> ؛ وأن الله أجلسهم على هذا المكان المرتفع ليشرفوا على أهل النار وأهل الجنة على سبيل النزهة والتمتع بمعرفة أخبار الجميع, وما سار إليه أهل النار وأهل الجنة.
والذين قالوا هذا القول اختلفوا فيهم اختلافا كثيرا بعضهم يقول: ملائكة. وهذا لا يساعده ظاهر قوله: رسم> رِجَالٌ قرآن>
رسم> ؛ لأن الملائكة لا يسمون رسم>
رِجَالٌ قرآن>
رسم> واحتجوا بقوله: رسم>
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا قرآن>
رسم> أنهم في صفة الرجال أو أنهم أنبياء أو أنهم الشهداء إلى غير ذلك. وزعم بعضهم أنهم مؤمنو الجن, كما ذكرنا أن العلماء اختلفوا في المؤمنين من الجن هل يدخلون الجنة؟ فزعم بعضهم أن المؤمنين من الجن لا يدخلون الجنة, وإنما جزاؤهم الإجارة من العذاب الأليم, كما صرحوا به في قوله تعالى عنهم في سورة الأحقاف عن الجن حيث قالوا: رسم>
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قرآن>
رسم> ولم يقولوا: يدخلكم الجنة قالوا: فعلموا أنهم إن أجابوا داعي الله وأطاعوه؛ كان جزاؤهم غفران الذنوب, والإجارة من العذاب الأليم.
قالوا وربما سمى الله الجن رجالا أيضا كقوله: رسم> وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ قرآن>
رسم> وقد قدمنا أن التحقيق أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة كالمؤمنين من الإنس, وأنه دل عليه بعض الآيات كقوله مخاطبا الجن والإنس معا: رسم>
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ قرآن>
رسم> ثم بيَّن شمول الوعد بهاتين الجنتين للإنس والجن معا فقال بعده: رسم>
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ قرآن>
رسم> وهو خطاب للإنس والجن بالإجماع كما بينا.
وقول من قال: إن أصحاب الأعراف من أعظم أهل الجنة رتبا, أو أنهم ملائكة لا يتجه كل الاتجاه؛ لأنه يشير إلى عدم اتجاهه قوله: رسم> لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ قرآن>
رسم> على التحقيق من أنها في أصحاب الأعراف؛ لأن الملائكة وخيار أهل الجنة لا يناسب أن يقال فيهم رسم>
وَهُمْ يَطْمَعُونَ قرآن>
رسم> وإن احتج من قال هذا بأن العرب قد تطلق الطمع على اليقين إلا أنه ليس بالإطلاق المعروف المشهور الذي يجب حمل القرآن عليه.
وأقوال العلماء في هذا كثيرة أظهرها الذي عليه الجمهور من الصحابة فمن بعدهم -أن أصحاب الأعراف أنهم رجال منعتهم حسناتهم من دخول النار, ومنعتهم سيئاتهم من دخول الجنة, ولم يكن هنالك رجحان للحسنات على السيئات, ولا للسيئات على الحسنات, وظاهر القرآن أنهم كلهم ذكور؛ لأنه قال رجال ولم يقل نساء.
والمقرر في الأصول أن لفظة الرجال لا يدخل فيها النساء. وقال بعض العلماء: إذا ذكر الرجال فلا مانع من دخول النساء بحكم التبع, و.. لهذا بأن العرب تسمي المرأة رجلة, وتسمية المرأة رجلة لغة صحيحة معروفة في كلام العرب، ومنه قول الشاعر:
كــل جــار ظــل مغتبطــا | غـيـر جـيـران بـنـي جبلـة |
مـزقـوا ثـوب فـتــاتـهـم | لـم يـراعـوا حـرمـة الرجلـة |
وقوله: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
ثم بين الله أن أصحاب الأعراف ربما نظروا تارة إلى الجنة, وربما أجبروا إلى النظر إلى أهل النار؛ لأن منظر النار فظيع جدا لا ينظر إليه أحد باختياره ولذا قال: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
وهذه تحية الإسلام السلام عليكم؛ لأن السلام معناه السلامة من كل الآفات رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
ومعنى حياك الله: أطال الله حياتك, ومطلق الدعاء بطول الحياة لا يستلزم الخير؛ لأن الإنسان قد تكون حياته تعسة نكدة يتمنى أن يستريح منها بالموت, فرب حياة يفضل صاحبها عليها الموت, كما قال بعض المتأخرين:
ألا مــوت يـبــاع فـأشـتريـه | فهـذا العـيش مـا لا خـير فيـه |
ألا رحـم المهيمـن نـفـس حــر | تصــدق بالـوفــاة على أخيـه |
الـمـرء يـرغـب فـي الحيـاة | وطـول عيـش قــد يضــره |
تفنــى بشـاشـته ويبـقــى | بـعـد حـلـو الـعيـش مـره |
وتـســوءه الأيـــام حتـى | مـا يــرى شـيئـا يســره |
كـــم شــامــت بــي إذ | هلكــت وقـائـل للــه دره |
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
فالسلام اسم مصدر سلم, وقد تقرر في علم العربية أن فعّل مضعفة العين قياس مصدرها التفعيل إلا إذا كانت معتلة اللام أو مهموزة, فالقياس في مصدرها التفعلة, ويكثر إتيان الفعال بدلا من التفعيل اسم مصدر, كما تقول: سلم عليه سلاما أي تسليما, وكلمه كلاما أي تكليما, وبين له الأمر بيانا؛ أي تبيينا, وطلق امرأته طلاقا أي تطليقا. ومنه السلام لأنه مصدر سلم فمعنى رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
وإنما ساغ الابتداء بالنكرة هنا؛ لأنها في معرض الدعاء رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
وعلى أنها تفسيرية فهي بمعنى أي وما بعدها يفسر ما قبلها، وضابط أن التفسيرية هي أن يتقدمها معنى القول وليس فيه حروف القول, والمنادى التي تقدمتها فيها معنى القول, وليس فيها حروف القول. هذا معنى رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
أظهر التفسيرين في قوله: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
فكأن سائلا سأل قال: ما شأن أصحاب الأعراف هؤلاء الذين يحيون أهل الجنة, ويخاطبون أهل النار؟ ما قصتهم وما شأنهم؟ فأجيب بقوله: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
فإذا رأوا زمر أهل الجنة عرفوهم بسيماهم, وحيوهم وقالوا لهم: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
ثم قال تعالى: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
وقد قدمنا أن القوم اسم جمع لا واحد له من لفظه يطلق في أصل الوضع العربي على خصوص الذكور, وربما دخل فيه الإناث بحكم التبع, والدليل على إطلاقه بالأصالة على الذكور دون الإناث قوله تعالى: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
وما أدري وسـوف إخـال أدري | أقـوم آل حصــن أم نســـاء |
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
وأنه يطلق على ظلم دون ظلم كظلم المسلم لنفسه, والظاهر أنهم يعنون الكفار, والكفار هم رؤساء الظالمين كما قال تعالى: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
وأكبر أنواع الظلم وضع العبادة في غير الخالق؛ لأن أكل الإنسان رزقه ونعمه وتقلبه في فضله، وهو يعبد غيره -وضع للعبادة في غير موضعها. وذلك معروف في كلام العرب, فكل من وضع شيئا في غير موضعه تقول له العرب ظالما, وقد ذكرنا مرارا أنهم يسمون الذي يضرب لبنه قبل أن يروب ظالما؛ لأنه وضع الضرب في غير موضعه؛ لأن ضربه قبل أن يروب يضيع زبده, فهو ضرب في غير موضعه فهو ظلم, وهذا معروف في كلامهم.
وفي لغز الحريري في مقاماته: هل يجوز أن يكون الحاكم ظالما؟ قال: نعم، إذا كان عالما. يريد أن القاضي إذا كان يضرب لبنه قبل أن يروب لا مانع من أن يستقضى إذا كان من أهل العلم, وهو معروف كثير في كلام العرب. ومنه قول الشاعر:
وقـائلـة ظلمـت لكـم سـقـائي | وهـل يخفى علـى العَكـد الظليـم |
ومنه قول الآخر في سقاء له من اللبن صبه وسقاه قومه قبل أن يعود:
وصاحب صـدق لـم تردني شكاته | ولم ترو في ظلمي لـه عامدا هجـر |
إلا الأواري لأيــا مــا أبينهـا | والنؤي كالحـوض بالمظلومة الجلـد |
فـأصبح فـي غـبراء بعد إشاحة | من العيـش مـردود عليها ظلميهـا |
فأكبر أنواع الظلم وضع العبادة في غير موضعها وهو الكفر بالله رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
ومعنى قوله: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
وقرأه ورش اسم> عن نافع اسم> وقنبل اسم> عن ابن كثير اسم> ( تلقاء أصحاب النار ) بمد الثانية همزا للأولى ومدها نظرا للساكن بعدها. وقرأه بقية القراء السبعة وهم حمزة اسم> والكسائي اسم> وعاصم اسم> وابن عامر اسم> رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
ولم يأت مصدر على التفعال بكسر العين إلا التلقاء والتبيان. أما غير ذلك من المصادر فهو بالفتح في كل شيء كالتسيار والتذكار والتطواف. أما الأسماء فهي تأتي كثيرا على تِفْعَال كتقفار, وما جرى مجراه كما هو معروف في علم العربية.
رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
العرب تقول: أغنى عنه الشيء يغني إذا نفعه, والاسم من هذا يسمى غَنَاء؛ لأن العرب تسمي النفع غَناء, وتسمي المطرب الخبيث غِناء, وتسمي الإقامة غَنَى بفتحتين. فالمادة موجودة منها خمس لغات: وهي الغِناء بالكسر والمد, والغَنَاء بالفتح والمد,والغِنَى بالكسر والقصر, والغَنَى بالفتح والقصر, والغُنَى بالضم والقصر كلها موجودة في اللغة, ولم يوجد منها الغُنَاء بالضم فالمد، هذا ليس بموجود في العربية.
أما الغِنَى بالكسر والقصر فهو ضد الفقر, وأما الغِنَاء بالكسر والمد فالمراد به المطرب قبحه الله, وأما الغَنَاء بالفتح والمد كسحاب فهو النفع، ومنه قول الشاعر:
قـل الغَنـاء إذا لاقى الفتـى تلفـا | قـول الأحبـة لا تبعـد وقـد بعـد |
وقفت فلمـا خفت ضيعة موقفي | ................................ |
لعمـرك مـا وليـت ظهري محمدا | وأصحابـه جبنـا ولا خيفـة القتـل |
ولكـنني قلبت أمـري فلـم أجـد | لسيفي غنـاء إن ضربت ولا نبلـي |
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
والمعنى رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
وظاهر القرآن أن هذا التوبيخ والتقريع من أصحاب الأعراف لهؤلاء الذين هم في النار. وأصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنة وأهل النار, ولا مانع من أن الله يطلع من في الجنة على من في النار كما سيأتي في قوله: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
مسألة>