لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) .    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم.
محاضرة الإيمان باليوم الآخر
8879 مشاهدة
أهل الجنة وأهل النار

وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ولهذه الحكمة جاءت الجملة الاعتراضية بين المبتدأ والخبر: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ؛ أي طاقتها, وما تفعله في سعة لا يرهقها فيه ضيق وعناء شديد.
ثم جاء بالخبر: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أُولَئِكَ مبتدأ وأصحاب خبره, والمبتدأ وخبره خبر المبتدأ الأول الذي هو الموصول في قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ خلودا أبديا.
لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ لا يمرضون ولا يشيبون ولا يزول عنهم النعيم, بل هم في سرور ونعيم دائم يتمتعون بأنواع المآكل والمشارب والمفارش والمناكح إلى غير ذلك مما بينه الله في آيات كثيرة.
وقد قدمنا أن الجنة في لغة العرب البستان؛ لأن أشجاره الملتفة تجن الداخل فيه, وجاء في القرآن إطلاق الجنة على البستان كقوله: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ وهي قصة بستان معروف في أطراف اليمن كما يأتي في تفسير سورة القلم إن شاء الله. وكقوله جل وعلا: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ إلى غير ذلك من الآيات. ومن إطلاق العرب الجنة على البستان كما قدمنا قول زهير
كـأن عينـي في غـربي مقتلـة
مـن النواضح تسقـي جنة سحقـا
يعني بقوله: جنة بستان نخل, وقوله: سحقا جمع سحوق, والسحوق النخلة الطويلة. أما الجنة في اصطلاح الشرع فهي دار الكرامة التي أعد الله لعباده المؤمنين, وهي شجرة مثمرة, ونهر مضطرب وغرفة عالية وزوجة حسناء, ورضا لا سخط بعده. والمؤمنون فيها ينظرون إلى وجه الله الكريم, كما جاء في آيات وأحاديث صحيحة كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله، وهذا معنى قوله: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .
ومن أعظم السرور الخلود؛ لأن أكبر ما ينكد اللذايذ وينغص اللذات أن يعلم صاحبها أنه زائل عنها وأنها زائلة عنه؛ فترى الإنسان في سرور متمتعا بنسائه الحسان وماله ونعيمه ولذته في الدنيا, فإذا خطر على قلبه أنه يموت وتنكح نساؤه بعده, وتقسم أمواله؛ تكدرت عليه تلك اللذايذ, وبقي مهموما؛ ولذا كان الخلود الأبدي وعدم الانقطاع هو ما تتم به اللذة في الدنيا؛ ولذا قال الله: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لا يزولون عنها أبدا؛ فلا تورث ديارهم من بعدهم, ولا تنكح نساؤهم من بعدهم, ولا يصير ما عندهم من النعيم لأحد بعدهم, فهم خالدون في ذلك النعيم.
وقد صدق من قال:
أشـد الغـم عنـدي فـي سـرور
تيـقـن عنـه صاحبـه انتقـالا
فالسرور إذا تيقن صاحبه الانتقال عنه صار عليه غما.
وقد أوضح هذا بعض الشعراء فقال:
أحب ليالي الهجـر لا فرحـا بهـا
عسـى الدهر يأتي بعدها بوصـال
وأبغـض أيـام الوصـال لأننـي
أرى كـل وصـل معقبــا بـزوال
فالفكرة في الزوال تكدر اللذات الحاضرة؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يكثروا من ذكر الموت, ويقال للموت: هازم اللذات؛ لأن من تذكره ضاعت عليه لذته التي هو فيها لأنه يقطعها؛ ولذا قال: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لا يزول عنهم ذلك النعيم حتى تتكدر غبطتهم به بزواله.
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ لما كان أهل الدنيا على مصادقتهم والقرابات بينهم يكون بينهم الغل والغش والبغضاء والحسد, بيَّن الله أن أهل الجنة سالمون من هذا الداء الذي يصاب به أهل الدنيا.
وَنَزَعْنَا صيغة الجمع للتعظيم والله جل وعلا هو الذي نزع مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ؛ أي صدور عبادنا المؤمنين الذين هم أصحاب الجنة. نزعنا جميع مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ اختلفت عبارات العلماء في الغل إلى معان متقاربة. والظاهر أنه يشملها كلها؛ فبعضهم يقول: الغل الحقد الكامن, وبعضهم يقول: هو البغض, وبعضهم يقول: هو الحسد والكراهية, وهو يشمل ذلك كله؛ لأن الإنسان قد يكون في قلبه للآخر حقد كامن وحسد وبغض يكون هذا بين الآدميين.
فالله جل وعلا يوم القيامة ينزع من صدور المؤمنين في الجنة جميع الأحقاد, فلا يكون هنالك أحد يضمر حقدا لأخيه ولا بغضا ولا حسدا ولا غشا؛ بل ليس بينهم إلا التواد الكامل والتعاطف والتناصح, يحب بعضهم بعضا, ومن آثار ذلك أن منازلهم متفاوتة ينظر بعضهم منازل بعض فوقه, كما ننظر النجم في السماء, ومع هذا لا يحسده على ارتفاع منزلته عليه, بل هو يحبه ولا يضمر له في ذلك حسدا ولا غلا.
وذكر غير واحد عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ذكره عن علي رضي الله عنه غير واحد؛ قتادة وغيره, وكثير من طرقه فيها انقطاع والله أعلم بصحته إليه, ولكنه مشهور .. على ألسنة المفسرين والعلماء, والله أعلم بصحته عنه.
ولا شك أنهم إن كان بينهم في الدنيا شيء؛ لأن طلحة والزبير .. ممن قاتل عليا رضي الله عنه يوم الجمل, وبعضهم يزعم أنهم كان بينه وبين عثمان بن عفان بعض الشيء مع أن الذي يظهر أن عليا وعثمان لم يكن أحدهما يضمر للآخر إلا الطيب.
وكان تسليم الحسن بن علي رضي الله عنه الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عن الجميع فيها أعظم منقذة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لأن كثيرا من الناس كانوا يتهمون عليا رضي الله عنه بما هو بريء منه -أن له ضلعا في قتل عثمان وأنه كان يقول له الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخو عثمان من أمه يعرض بعلي
بني هاشم ردوا سـلاح ابن أختكم
ولا تنهبـوه لا تحـلـوا مناهبـه
بنـي هاشـم كيف التعـاقـد بيننا
وعنـد علـي سـيفـه وحرائبـه
وكانوا يظنون بأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه أنه مقصر في القود من قتلة عثمان وأنه قادر على أن يقتلهم وأنه مقصر. فلما سلم الحسن رضي الله عنه الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان مصداقا لحديث جده: إن ابني هذا سيد, وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من أمتي ؛ فصار الأمر كله إلى معاوية وهو ولي الدم الذي كان يطالب به في أهل الشام, وكان امتناعه من بيعة علي لا يعلله بعلة إلا أنه يمكن من قتلة عثمان فيقتلهم قصاصا ثم يبايع عليا
فلما خلصت الخلافة لمعاوية ولم يبق له منازع أبدا, واجتمعت عليه كلمة المسلمين, وصار واليا على جميع المسلمين لا منازع له, لما سلمه الحسن الخلافة رضي الله عنه لم يستطع معاوية أن يقتل واحدا كائنا ما كان ممن قتلوا عثمان رضي الله عنه. فتبينت بذلك براءة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه مما كانوا يتهمون به؛ فصار في تسليم الحسن الخلافة لمعاوية أعظم منقذة لعلي رضي الله عنه, وأعظم براءة مما كان يتهمه به من لا يعلم, ولا يقدر فضله رضي الله عنه.
وقوله جل وعلا: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ قال بعض العلماء: الله ينزعه من صدورهم بعد أن يدخلوا الجنة, وقال بعض العلماء: ينشئهم النشأة الجديدة على فطرة سليمة خالية من الأحقاد, وظاهر الآية أنهم يوم القيامة يبعثون وهو موجود فيهم إلا أن الله يسله وينزعه منهم بدليل قوله: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ وقد قال في سورة الحجر: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ .
وهذا من أعظم كمال اللذات؛ حيث يكون الإنسان خالدا مخلدا؛ وحيث يكون هو وإخوانه ورفقاؤه في ذلك النعيم ليس بين اثنين منهم شحناء ولا عداوة ولا حقد ولا حسد ولا مخاصمة, وكل هذا من كمال النعيم. وقوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ أعربه بعضهم حالا.
وبعضهم منع إتيان الحال هنا؛ لأنه قال: نزعنا فاعلها لا دخل له في الجملة فلا يمكن أن تكون حالا. وبعضهم يقول: يصح أن تكون حالا, فعلى أن الجملة حالية فلا إشكال, وعلى امتناع الحالية فيها كما زعمه بعض علماء العربية فهي كلام آخر مستأنف مما يعطيهم الله تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ؛ أي من تحت قصورهم وغرفهم العالية تجري من تحتها الأنهار سائلة.
يقول بعض العلماء: أنهار الجنة تجري في غير أخدود, ويذكرون أن المؤمن في غرفته العالية قد يشير إلى النهر تحته فيصعد إليه حتى يقضي منه حاجته, كما يأتي في تفسير قوله: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ولا غرابه في ارتفاع الماء إلى ولي الله في غرفته من الأرض؛ لأنه يشاهد في الدنيا ما هو أعظم من هذا وأغرب؛ لأنك أيام البلح تأخذ بلحة من نخلة طويلة سحوق.
فإذا ضربت على البلحة بضرسك طار منها الماء, وهذا الماء إنما أخذته من عروقها فصعد من ثرى الأرض ومن عروق النخلة وطلع مع هذا الجزع القوي الخشن طلع معه الماء, ورفعه الله من هذا البعد العالي بقدرته, فمن فعل هذا فلا يصعب عليه أن يرفع الماء إلى غرف المؤمنين العالية. وهذه الأنهار مختلفة الألوان والأشكال كما قال تعالى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى .
وهذا معنى تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ تارة يفرد الجنة نظرا إلى أنها اسم جنس, وتارة يجمعها. وقيل: أضافها إلى النعيم لأنهم يتنعمون فيها بجميع اللذائذ, وتظهر على وجوههم نَضْرَةَ النَّعِيمِ فهم في غاية النعيم. والنعيم ضد البؤس, فهم في نعمة دائمة ظاهرة آثارها على أبدانهم في نضرة وجمال وسرور وغبطة, لا يشيبون ولا يهرمون ولا يمرضون؛ ولذا قال: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ .
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا بين الله أنه لما أدخل أهل الجنة الجنة حمدوا الله على نعمه, وذلك ذكره عنهم في مواضع كثيرة, كقوله عنهم أنهم قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ وقال عنهم هنا: إنهم حمدوه أيضا فقالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَمْدُ معناه كل ثناء جميل ثابت لله جل وعلا؛ لأنه يستحقه لذاته، ولأنه يستحقه علينا بما أنعم علينا؛ حيث أدخلنا هذا النعيم الخالد الذي لا يزول. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ؛ أي وفقنا للطريق التي ينال بها هذا الثواب العظيم وهو الجنة. نحمد الله على أن وفقنا في دار الدنيا, وهدانا إلى الإيمان به واتباع رسله حتى نلنا بذلك العمل الصالح هذا الجزاء المقيم والنعيم العظيم الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا .
ثم قالوا: وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ هذه اللام هي التي تسمى في النحو بلام الجحود, وهي تؤكد النفي. تؤكد نفي هدايتهم لولا أن الله هداهم, وتسمى لام الجحود, ولا تكون إلا بعد كون منفي نحو ما كان ولم يكن، والفعل منصوب بعدها بأن مضمرة. وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ إلى الطريق التي هذا ثوابها وجزاؤها لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ فالمصدر المنسبك من أن وصلتها في محل رفع؛ لأن ما بعد لولا مبتدأ خبره محذوف غالبا.
والمعنى لولا هداية الله موجودة لما نلنا هذا الجزاء ولما هدينا إلى هذا العمل الذي هذا جزاؤه. وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا الشامي ؛ أعني ابن عامر وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ وقرأه ابن عامر وحده ( ما كنا لنهتدي ) بلا واو. والمصاحف التي أرسلت إلى الشام ليس فيها الواو, وإنما فيها ( ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) بلا واو. وهما قراءتان سبعيتان, ولغتان فصيحتان.
ولأجل هذا الاختلاف بزيادة حرف في بعض القراءات الصحيحة, وحذفه من القراءة الأخرى كان ذلك سبب تعدد نسخ المصحف العثماني, تعدد نسخه لتكون نسخة فيها الواو ونسخة لا واو فيها. فبعض المصاحف التي أرسلت إلى الشام ليس فيها الواو وإنما فيها ( ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) بلا واو، وهي قراءة الشامي هو ابن عامر وهذا معنى قوله: وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ .
ثم قالوا على سبيل الفرح والغبطة والسرور: لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ والله لَقَدْ جاءتنا رُسُلُ رَبِّنَا في دار الدنيا بِالْحَقِّ ؛ لأن العمل الصالح الذي أمرتنا به والجزاء الذي وعدتنا أن نناله, هذا هو قد تحقق لنا, ودخلنا الجنة التي كانوا يعدوننا في دار الدنيا على الأعمال الصالحة.
والله لَقَدْ جاءتنا رُسُلُ رَبِّنَا في دار الدنيا بِالْحَقِّ الثابت الذي لا شك فيه, فما كذبونا ولا دلسوا لنا, وإنما جاءونا بِالْحَقِّ وقالوا هذا على وجه السرور والغبطة؛ لأن من دخل في غبطة وسرور يتكلم بهذا الكلام تلذذا لا يقصد غير ذلك, ولما قالوا هذا الكلام: لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ قالوا هذا. وَنُودُوا ؛ أي نودوا من قبل الله ناداهم الله أو ملك من الملائكة بأمر الله أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ .
أَنْ هذه فيها وجهان زعم بعضهم أنها المخففة من الثقيلة, وأن إذا خففت من الثقيلة أن المفتوحة لم يبطل عملها, فيكون اسمها ضمير الشأن, والجملة بعدها خبرها. وأظهر القولين أنها هنا هي التفسيرية, ومعنى التفسيرية أن ما بعدها يفسر ما قبلها, فنفس النداء الذي نودوا به هو قوله: تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وضابط أن التفسيرية التي يكون ما بعدها تفسيرا لما قبلها هي أن يتقدمها ما فيه معنى القول, وليس فيه حروف القول؛ يعني القاف والواو واللام.
وقد تقدمها ما فيه معنى القول؛ لأن النداء فيه معنى القول وليس فيه حروف القول؛ فيظهر أنها تفسيرية خلافا لمن زعم أنها مخففة من الثقيلة. تِلْكُمُ الْجَنَّةُ تلك إشارة إلى الجنة نظرا إلى أنها اسم جنس, وقوله: كم هو حرف خطاب للمخاطبين لأنهم جمع كثير. تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا ؛ معناه أعطيتموها؛ فإيراث الجنة إعطاؤها، وليس المراد به أنها مأخوذة من أموات كميراث الميت كما يزعمه بعضهم, بل المراد بإيراثها أن الله أعطاهم إياها وأدخلهم إياها وأباحها لهم.
خلافا لمن زعم أن معنى إيراثهم لها أن الله جعل لكل نفس منفوسة مسكنا في الجنة ومسكنا في النار, فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار؛ أطلع أهل الجنة على مساكنهم في النار لو أنهم كفروا بالله وعصوه لتزداد غبطتهم وسرورهم. وعند ذلك يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ثم إنه يطلع الكفار على منازلهم في الجنة لو أنهم آمنوا وأطاعوا الله؛ لتزداد ندامتهم وحسرتهم, وعند ذلك يقول الواحد منهم: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ .
قالوا: ثم إن الله يعطي منازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة وكأن أهل النار أموات؛ لأن من في العذاب الذي هم فيه مَيْت؛ لأنهم يتمنون الموت فلا يجدونه, فكأنهم ورثوها عنهم. وهذا وإن جاء به حديث فلا يصلح لتفسير الآية؛ لأن الله قال: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ولم يقل: أُورِثْتُمُوهَا من أهل النار, فصرح أنه أورثهم إياها بما كانوا يعملون؛ أي بسبب ما كنتم تعملون في دار الدنيا من طاعة الله.
وتمسك المعتزلة بظاهر هذه الآية وأمثالها من الآيات فقالوا: إن العبد هو الذي خلق طاعة نفسه, خلق فعل نفسه في الطاعات واستحق به الجنة, لا بفضل من الله جل وعلا. أعاذنا الله من مقالتهم, وهنا يشنع الزمخشري في تفسير هذه الآية لأنه معتزلي -على من يقول إنهم دخلوا الجنة بفضل الله ورحمته, فيقول: قال المبطلة: إنهم دخلوها بفضل الله, والله يقول إنهم دخلوها بأعمالهم.
وهذا جهل من المعتزلة, وعدم علم بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال: لن يدخل أحدكم عمله الجنة, قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل وهذا الحديث الصحيح أصله فيه إشكال بينه وبين هذه الآيات التي يستدل بها المعتزلة كقوله هنا: أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا وأمثال ذلك.
وللعلماء أجوبة كثيرة عن الإشكال بين الحديث وبين هذه الآيات وما جرى مجراها من الآيات. وأظهر أوجه التوفيق عندنا أن العمل الصالح لا ينفع صاحبه إلا إذا تقبله الله منه, ولا يعمل عملا صالحا إلا إذا وفقه الله إليه وأعانه عليه, فلما كان العمل الصالح الذي هو سبب دخول الجنة لا ينفع إلا إذا تقبله الله ولو شاء لم يتقبل, ولا ينفع إلا إذا وفق الله إليه, ولو شاء لم يوفق الله إليه؛ صار كل شيء بفضله ورحمته جل وعلا، كما هو الحق وهو الصواب.
وهذا معنى قوله: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ؛ أي في دار الدنيا من طاعات الله, ودخلتموها بفضل الله ورحمته حيث تقبل منكم تلك الأعمال الصالحة, ووفقكم إلى فعلها في دار الدنيا, وأعانكم عليها برحمته وفضله, وتقبلها منكم. فلو لم يوفقكم لها ويعنكم عليها لما قدرتم على فعلها, ولو لم يتقبلها منكم لما نفعتكم أبدا؛ فكل هذا بفضله ورحمته جل وعلا.
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ بين جل وعلا أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, وبين ما يقوله أهل النار في النار من التخاصم ولعن بعضهم لبعض: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا وسؤال بعضهم مضاعفة العذاب لبعض.
وما يقوله أهل الجنة من حمد الله والثناء عليه للتوفيق، والغبطة بالخلود ونزع الأحقاد والغلال التي كانت بينهم, لما بين هذا كله بين أن أهل الجنة ينادون أهل النار كالموبخين، على نوع من التوبيخ والشماتة بهم؛ لأنهم كانوا يكذبون في الدنيا بالنار والجنة. وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ وهذا النداء للعلماء فيه سؤالات؛ هل نادى جميع أهل الجنة جميع أهل النار؟ أو نادى بعضهم بعضا؟ وظاهر القرآن أنه نداء عام.
وقال بعض العلماء: كل ناس من المؤمنين ينادون من كانوا يعرفونهم في الدنيا من الكفار؛ يا أصحاب النار هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فنحن وجدنا ما وعدنا من النعيم حقا؛ فهل وجدتم ما كان يقال لكم من الوعيد بالعذاب حقا؟ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا أَنْ هذه كالتي قبلها في القول بأنها تفسيرية, أو مخففة من الثقيلة وقد ذكرنا الكلام عليها آنفا. أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا من الجنة والنعيم.
والنعيم المقيم والخلود الأبدي في نعم الله، وجدناه حقا من الله وصدقنا وعده الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فوجدنا وعد الله في النعيم والخلود الأبدي في الجنة على ألسنة الرسل -وجدناه حقا؛ فهل وجدتم أنتم ما وعدكم ربكم من العذاب والنكال ودخول النار؛ هل وجدتموه حقا؟ وهذا سؤال توبيخ وتقريع وشماتة والعياذ بالله. قَالُوا في ذلك الوقت... ما وعده من العذاب النكال على ألسنة الرسل حقا, ووجدنا أن تكذيبنا به في دار الدنيا سفاهة منا, وجناية على أنفسنا.
وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا عليا الكسائي قَالُوا نَعَمْ بفتح النون والعين, وقرأه الكسائي وحده ( قالوا نعِم ), ونعَم ونعِم لغتان كلاهما تأتي بمعنى الأخرى على الصواب. و نَعَمْ لا تكون جوابا إلا لاستفهام مثبت, ولا تكون جوابا لاستفهام منفي, فلو كانت الآية ( ألم تجدوا ما وعدكم ربكم حقا ) بالنفي؛ لما جاز أن يجاب بنعم وإنما يجاب ببلى هذا هو المعروف؛ لأن المكان الذي تصلح فيه بلى لا تصلح فيه نعم, والمكان الذي تصلح فيه نعم لا تصلح فيه بلى.
وبلى تأتي في اللغة العربية وفي القرآن العظيم بمعنيين لا ثالث لهما: أحدهما أن بلى تأتي لنفي النفي؛ فهي نقيضة لا؛ لأن لا لنفي الإثبات, وبلى لنقيض النفي. فإذا جاء نفي في القرآن, ثم جاءت بعده بلى فإنها تنفي ذلك النفي, ونفي النفي إثبات, فيصير ما بعد بلى إثبات؛ لأنها نفت النفي الذي قبلها, ونفي النفي إثبات.
وهذا كثير في القرآن كقوله: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا نفوا البعث بأداة النفي التي هي لَنْ قُلْ بَلَى فنفى الله نفيهم للبعث فثبت البعث؛ ولذا قال: وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ وكقوله: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ نفوا إتيان الساعة بحرف النفي الذي هو لَا قال الله: بَلَى فنفت نفيهم وأثبتت إتيان الساعة؛ ولذا قال بعده لَتَأْتِيَنَّكُمْ وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب.
المعنى الثاني: أن تأتي بلى جوابا لاستفهام مقترن بالنفي خاصة كما في الاستفهام الإيجابي كقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وهكذا، ولا يجوز أن يقال في هذا: نعم. أما إن كان السؤال بالإثبات, فالجواب بنعم لا ببلى.
فلو قلت: هل جاء زيد؟ فالجواب نعم، قد جاء زيد, وقلت: أليس زيد قد جاء؟ فالجواب بلى لا بنعم. وما سمع من كلام العرب في إتيان نعم بعد الاستفهام المقترن بالنفي الذي هو موضع بلى فإنه شاذ يحفظ ولا يقاس عليه. وقد سمع في كلام العرب إتيان لفظة نعم في محل بلى في الاستفهام المقترن بالنفي, ومن شواهده قول الشاعر:
أليـس الليـل يجمـع أم عمـرو
وإيـانـا فــذاك دنـا تـدانـي
نعـم وتـرى الهـلال كـما أراه
ويعلوهـا النهـار كمـا عـلاني
فالمحل هنا لبلى لا لنعم؛ لأن الاستفهام مقترن بنفي, وإنما يحفظ مثل هذا ولا يقاس عليه.
وقوله: قَالُوا نَعَمْ هو حرف إثبات جواب الاستفهام إثبات، معناه وجدنا ما وعدنا ربنا من العذاب الأليم والنكال، وجدناه حقا. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ التأذين في لغة العرب الإعلام. تقول العرب: أذن الرجل إذا أعلم، ومنه الأذان للصلاة فلأنه إعلام بدخول وقتها ودعاء الناس إليها، تقول: آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ أعلمتكم, وآذنه إذا أعلمه, ومنه قول الحارث بن حلزة
آذنـتـنـا ببيـنـهـا أسمـاء
رب ثـاو يمـل مـنـه الـثـواء
أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ؛ أي نادى مناد بصوت عال وأعلم معلم بينهم. قرأ هذا الحرف عامة القراء إلا ورشا عن نافع ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بهمزة محققة, وقرأه ورش وحده عن نافع ( ثم أذن موذن ) بالواو بإبدال الهمزة واوا انفرد بهذه القراءة ورش عن نافع عن جميع القراء بينهم. أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ .
قرأ هذا الحرف نافع وعاصم وقنبل عن ابن كثير وأبو عمرو -قرأه هؤلاء الثلاثة, وراو رابع والمراد به نافع قرأ هذا الحرف نافع وعاصم وأبو عمرو والبزي عن ابن كثير قرءوا كلهم أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ بتخفيف أنْ وضم تاء لَعْنَةُ وقرأه الباقون وهم حمزة والكسائي وابن عامر والبزي عن ابن كثير
أما قنبل فقد قرأها مع نافع وعاصم كالذي قرأها حمزة والكسائي وابن عامر من راويي ابن كثير هو البزي فالحاصل أنه قرأه ( أنَّ لعنةَ الله ) بتشديد أن ونصب تاء لعنة الكسائي وحمزة وابن عامر والبزي عن ابن كثير
وقرأه نافع وعاصم وأبو عمرو وقنبل عن ابن كثير أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ واللعنة في لغة العرب الإبعاد والطرد؛ فالرجل إذا كان ذا جرائم وذا جرائر، يطلبه هؤلاء بدم وهؤلاء بدم, ثم إن قومه تبرءوا منه وطردوه؛ لئلا تقاتلهم القبائل التي يطالبونه بالدم, إذا نفوه وطردوه يسمى رجلا لعينا، ومنه قول الشماخوي
ذعـرت بـه القطـا ونفيت عنـه
مقـام الـذئب كـالرجـل اللعـين
فلعنة الله معناها طرده وإبعاده.
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ؛ أي نادى مناد وأعلم معلم أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم في دار الدنيا, وكانوا يضعون العبادة في غير موضعها والعياذ بالله وهم الكفرة. وهذا من النكال بالكفار لما اعترفوا بأن الوعيد حق عليهم, نادى مناد يدعو عليهم باللعنة والعياذ بالله, ويصفهم بالظلم الذي استحقوا به عذاب الله ونكاله.
ثم قال: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ .
الَّذِينَ في محل خفض لأنه نعت للظالمين يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ العرب تستعمل صد استعمالين. تستعملها متعدية إلى مفعول تقول: صد زيد عمرا يصده, ومصدر هذه الصد لا غير. ومنه: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ؛ صده يصده صدا على القياس؛ لأن كل فعل ثلاثي متعد إلى المفعول ينقاس مصدره إلى فَعْل بفتح فسكون. فصده صدا؛ لأن مصدرها الصد على القياس, وهذه مضمومة الصاد وليس فيها إلا الضم تقول: صده يصُده صدا لا غير.
الثانية: يستعملون صد لازمة غير متعدية إلى المفعول تقول: كان زيد ذاهبا إلى الشام فصد عنه إلى العراق ؛ أي مال عنه إلى العراق لازما, ومصدر هذه الصدود على القياس أو الغلبة, وفي مضارعها ضم الصاد وكسرها يقول: صد زيد عن الأمر يصِِده ويصُد, وعليه القراءتان السبعيتان إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ( إذا قومك منه يصُدون ).
وصد هنا في هذه الآية هي صد المتعدية للمفعول الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يَصُدُّونَ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ والسبيل الطريق, وإنما أضيفت الطريق إلى الله؛ لأنها السبيل التي أمر بسلوكها, ووعد بالثواب من سلكها ونهى عن عدم سلوكها, ووعد بالعقاب لمن لم يسلكها. والسبيل في لغة العرب وفي القرآن تذكر وتؤنث, فمن تأنيثها في القرآن: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ وقوله: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ؛ على من قرأ سَبِيلُ بالرفع تستبين هي؛ أي سبيل المجرمين.
وقد يذكر السبيل كقوله: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَسَبِيلُ اللَّهِ هي دين الإسلام وطاعة الله التي جاءت بها رسله. وَيَبْغُونَهَا أي يطلبونها وهي السبيل. أما في هذه الآية: وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ؛ فهذا مصدر بمعنى الوصف أي في حال كونها معوجة، يبغونها معوجة زائغة مائلة فيها عبادة الأوثان والشركاء والأولاد لله, يطلبون هذه السبيل العوجاء التي ليس فيها استقامة.
أما القرآن العظيم فسبيله ليس فيها عوج, بل هي مستقيمة كما قال تعالى: قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ؛ فسبيل الله ليس فيها عوج. والسبيل التي يبغيها الكفار يبغونها عوجا؛ أي معوجة ذات عوج عوجاء غير مستقيمة بما تدعو إليه من الكفر بالله وادعاء الشركاء والأولاد له, وهذا معنى وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ وهم مع ذلك كافرون بالآخرة جاحدون بها. الآخرة هي الدار الآخرة وقد بينا مرارا أنها إنما سميت آخرة؛ لأنها ليس بعدها مرحلة أخرى, ويجب على كل إنسان أن ينظر في مراحله وتاريخ مراحله حتى يفهم الآخرة؛ لأن الله أمره بذلك حيث قال: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ؛ فاعلم أيها المسلم الذي هو الإنسان أن أول مراحلك هي تراب بله الله تبارك وتعالى بماء فصار ذلك التراب طينا.
ثم بعد أن صار طينا ونقله الله من طور إلى طور خمر حتى طينا نافذا وتغيرت ريحه حتى صار حمأ, ثم إنه يبس حتى صار صلصالا, ثم إن الله نفخ فيه الروح وجعله بشرا سويا خلق منه آدم جعله ذا جسد ودم ولحم, ثم إنه خلق من ضلعه امرأته حواء كما قال: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا قال في الأعراف وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وقال في أول النساء: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وقال في الزمر: ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وقد خلق حواء من آدم بلا نزاع كما نصت عليه هذه الآيات القرآنية.
ثم بعد ذلك كان الطريق التناسل. أيها الإنسان أنت تكون أولا نطفة من مني حقيرة مهينة من ماء الرجل وماء المرأة في رحم المرأة, ثم تمكث ما شاء الله وأنت نطفة, ثم يقلب الله هذه النطفة علقة؛ أي دما جامدا إذا صب عليه الماء الحار لم يذب, ثم إن الله يقلب هذا الدم مضغة أي قطعة لحم كما يقطعه آكل اللحم ليمضغه, ثم إن الله يقلب هذه اللحمة هيكل عظام يركب بعضها ببعض.
يركب فيه المفاصل بعضها ببعض, والسلاميات بعضها ببعض, والفقار بعضها لبعض نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ثم إنه جل وعلا يكسو هيكل العظام يكسوه اللحم, ويجعل فيه العروق ويفتح فيه العيون والأفواه والآناف, ويجعل .. في محلها والكليتين في محلهما والطحال في محله إلى غير ذلك, ثم ييسر لك طريق الخروج من بطن أمك وهو مكان ضيق كما قال: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثم يخرجك إلى الدنيا.
وقد جاوزنا جميع هذه المراحل, ونحن في مرحلة الخروج إلى الدنيا وهذه المرحلة المحطة التي نحن فيها منا من يسافر منها بسرعة, ومنا من يمكث فيها وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ويقال لنا: اعلموا أن السفر طويل, وأن الشقة فادحة, وأنه لا محطة يؤخذ منها الزاد إلا هذه المحطة, فمن لم يتزود من هذه المحطة هلك وانقطع عن القافلة, وبقي في بلاء وويل لا ينقطع, فعلينا أن نتزود من هذه المحطة التي هي محل الزاد فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى .
فنأخذ من الأعمال الصالحات, والشقة أمامنا طويلة والسفر بعيد والسفر لن ينتهي. ثم بعد هذه المحطة ننتقل جميعا إلى محطة القبور وهي محطة من رحلة الإنسان, وسمع بدوي رجلا يقرأ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ قال: انصرفوا والله من المقابر إلى دار أخرى؛ لأن الزائر منصرف لا محالة. ثم إن القبر محطة ومرحلة من هذه المراحل يخرج....