الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه.    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. إذا ضعفت العقيدة في القلوب ضعف العمل، فإذا رأيت الذي يكون ضعيفا في عباداته، في صلواته وزكواته وما إلى ذلك، فاعلم أن ذلك لضعف في عقيدته بالأساس.فالعقيدة حقيقة إذا امتلأ بها القلب ظهرت آثارها على الجواربالوقوف قائما أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة إذا كان عقل المريض معه وفهمه وإدراكه فإن الأوامر والأحكام الشرعية تنطبق عليه، ويكلف بالصلاة والصوم والطهارة ونحوها بحسب القدرة، ويجوز مساعدته على الطهارة إن قدر على غسل أعضائه، فإن عجز عن استعمال الماء في أعضائه وشق غسلها عليه عدل إلى التيمم، فإن عجز فإن المرافق يقوم بذلك بأن يضرب التراب فيمسح وجهه وكفيه مع النية. تعبير الرؤيا يرجع فيه إلى معرفة أشياء تختص بالرائي وما يتصل به، وكذا معرفة القرائن والأحوال، ومعرفة معاني الكلمات وما يتصل بها لغة وشرعا وما يعبر به عنها، وهذه الأمور ونحوها يختص بها بعض الناس لانشغالهم بمعرفتها وما يدور حولها، فعلى هذا لا يجوز لكل أحد أن يعبر الرؤى، فقد يفهم فهما بعيدا، وقد يأخذ التعبير من اللفظ لا من المعنى فيخطئ في ذلك.
محاضرات بعنوان: عناية السلف بالحديث الشريف
12862 مشاهدة
الحافظ مسلم وعنايته بالحديث

ثم إن بعد البخاري -رحمه الله- من الذين كتبوا في الحديث مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح؛ صحيح مسلم. كان أيضا من الحفاظ. ألف كتابه الذي هو صحيح مسلم وابتدأه بعد المقدمة بكتاب الإيمان، ولكنه لم يذكر تراجم كما فعل البخاري وأيضا ذكر في كتاب الإيمان كل شيء يتعلق بالعقيدة؛ فافتتح كتاب الإيمان بحديث جبريل المشهور، الذي رواه عمر -رضي الله عنه- وكذلك بعده بحديث أبي هريرة الذي رواه في نزول جبريل وسؤال النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثم ذكر في كتاب الإيمان الأحاديث التي يحتج بها المرجئة ؛ الأحاديث التي في الشهادة، وأن من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة والأحاديث التي في الرجاء، والأحاديث التي يحتج بها الخوارج والمعتزلة التي فيها وعيد شديد؛ التي فيها الوعيد بالنار لمن فعل معصية أو نفي الإيمان أو نحو ذلك؛ مثل حديث: لا يدخل الجنة نمام من أحاديث الوعيد، وكذلك الأحاديث التي فيها نفي الإيمان أو نفي الاتباع؛ مثل قوله: ليس منا من فعل كذا، ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية وغير ذلك.
وذكر أيضا في كتاب الإيمان الأحاديث التي تتعلق بالأمور الغيبية ووجوب الإيمان بها وصفة الشفاعة؛ أحاديث الشفاعة؛ لأن الخوارج ينكرونها، وأحاديث إخراج المؤمنين من النار، وذكر تفاوت الإيمان في قلوبهم، وأنه ما بين ضعيف وقوي؛ حتى قال في الحديث: أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه مثقال دينار من إيمان ثم قال: (مثقال شعيرة من إيمان، مثقال ذرة، مثقال حبة خردل) مما يدل على أن أهل الإيمان يتفاوتون بقوة الإيمان في قلوبهم، وغير ذلك من الأحاديث، وأن الإيمان يضعف في القلوب.
استدل بحديث: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان فجعل الإيمان يضعف. يكون منه قوي ومنه ضعيف، وهذه الأحاديث وغيرها تدخل في الإيمان، وتدخل أيضا في العقيدة؛ فجعل كتاب الإيمان عامّا لما يتعلق بالرد على المبتدعة؛ الرد على المرجئة، والرد على الوعيدية كالخوارج والمعتزلة، والرد على المعتزلة أيضا فيما يتعلق بالصفات، والرد على المفسقة ونحوهم، فكتابه الذي قدمه كتاب مفيد. يعني: في أول صحيحه يدل على عنايته -رحمه الله- بالأحاديث.
العلماء الذين ألفوا في الإيمان
كذلك من الذين كتبوا في الإيمان الإمام ابن منده واسمه محمد بن إسحاق وله مؤلفات؛ منها كتاب في التوحيد ضمَّنه الأعمال التي يجب العمل بها، وضمَّنه أيضا توحيد الأسماء والصفات، ومنها كتاب في الإيمان. طبع محققا في ثلاثة مجلدات، وإن كانت مجلدات ليست كبيرة. كله أحاديث. يروي تلك الأحاديث من كتب المتقدمين قبله أو مما فتح الله تعالى عليه. فهذا عناية السلف -رحمهم الله- بالإيمان، وهكذا أيضا مَن بعدَهم.
ومِن أشهر من كتب بعدهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فإنه ألف كتاب الإيمان، ويقال له: كتاب الإيمان الكبير، وله كتاب الإيمان المتوسط، وكتاب الإيمان الصغير؛ إلا أن الصغير ذكروا أنه اختصار لبعض تلاميذه. فهذا كتاب الإيمان الكبير طبع مفردا عدة طبعات، وطبع أيضا مع المجموع؛ في المجلد السابع من مجموع الفتاوى، وطبع له أيضا في ذلك المجلد. طبع له أيضا رسائل تتعلق بالإيمان، وتكلم أيضا على الإيمان في رسالته التي هي العقيدة الواسطية.
وكل ذلك دليل على أنهم رأوا أن المرجئة تمكن قولهم؛ حيث إنهم يسهلون في أمر المعاصي فخافوا أن الناس ينخدعون بقولهم، فأرادوا أن يبينوا الأدلة في أن الأعمال من مسمى الإيمان، وأن المعاصي تضر أصحابها، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر أن كثيرا من الذين معهم إيمان يدخلون النار بسبب المعاصي التي اقترفوها، فبعضهم يبقى فيها مائة سنة أو مئات أو سنوات أو نحو ذلك؛ حتى يحترقوا ويصبحوا كأنهم حمم، ثم بعد ذلك يأذن الله بالشفاعة لهم؛ لأن عندهم إيمان ولأن عندهم شهادة، ولأن عندهم صلاة، فيأمر الله تعالى بإخراجهم فيعرفون بآثار السجود. حرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود.
وذلك دليل على أنهم دخلوا النار مع كونهم يصلون ، ولكن ما أحرقت النار أعضاء السجود السبعة: الجبهة مع الأنف والكفين والركبتين وأطراف القدمين، فيخرجون وقد امتحشوا أو قد احترقوا، ويدخلون الجنة، ولكنهم يلقون في نهر يسمى نهر الحياة -أو نهر الحيا-؛ يلقون فيه فينبتون كما تنبت الحِبَّة في حميل السيل. ألم تروا أنها تخرج صفراء ملتوية ما يلي الظل منها أبيض وما يلي الشمس منها أخضر؟ فينبتون إلى أن تنبت أجسامهم، ثم بعد ذلك يدخلون منازلهم ومساكنهم في الجنة، ولكن دخولهم النار وتعذيبهم فيها مدة طويلة أو قصيرة يدل على أنهم استحقوا ذلك بأنواع من المعاصي والبدع ونحوها.
العقيدة الطحاوية وشروحها
ثم إن فقهاء الحنفية -رحمهم الله- تشددوا في التمسك بمعتقدهم. من جملتهم الطحاوي صاحب العقيدة التي تسمى الطحاوية، فإنه تمسك فيها بمعتقدهم، ولما ذكر الإيمان قال: وأهله في أصله سواء. جعله هو المعرفة والتصديق، وأخرج الأعمال من مسمى الإيمان، ولما اشتهرت هذه العقيدة شرحها كثير من الحنفية، ولما شرحوها؛ شرحوها على معتقدهم، وسلكوا فيها مسلك المعطلة في نفي الصفات، وفي أن الإيمان لا تدخل فيه الأعمال.
ولكن وفق الله لشرحها عالم من أهل السنة؛ ولكنه حنفي على معتقد مذهب الحنفية، وهو ابن أبي العز الأذرعي أنقذه الله من الاعتزال ومن البدع بسبب أنه قرأ على ابن كثير ؛ تتلمذ على ابن كثير العالم المشهور صاحب التفسير، وابن كثير شافعي المذهب، ولكنه تتلمذ على ابن تيمية وأخذ عنه عقيدة أهل السنة، فانتفع بمصاحبته وبالتلمذة عليه؛ فصار قوله في العقيدة كقول أهل السنة، فتأثر به تلميذه ابن أبي العز
ثم إن ابن أبي العز شرح الطحاوية، ولما شرحها؛ شرحها على معتقد أهل السنة، وكان ينقل من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومن كتب ابن القيم ولكنه لا يجرؤ على ذكر أسمائهما مخافة ألا يقبل شرحه؛ لأن الحنفية يبغضون ابن تيمية لكونه خالفهم في العقيدة، وكذلك ابن القيم وله معهم قصص طويلة. لما أتى ابن أبي العز على تعريف الإيمان، وأن أهله في أصله سواء في كلام... الطحاوي حاول أن يقرب معتقدهم إلى معتقد أهل السنة، وقال: إن الخلاف لفظي، وإننا إذا قلنا: إن الإيمان هو الاعتقاد فإننا نريد الاعتقاد الجازم الذي يحمل على العمل؛ ليس الاعتقاد الضعيف الذي لا يحمل على العمل، ولا يكون له تأثير فيمن اعتقده.
لا شك أن هذا محاولة، وسمعت شيخنا عبد الله بن حميد -رحمه الله- تكلم مرة على الإيمان، ثم ذكر قول ابن أبي العز يقول: إنه حاول أن يقرب معتقد الحنفية ولم يصنع شيئا؛ وذلك لأن الأدلة ظاهرة في أن الأعمال من مسمى الإيمان ؛ الأدلة، وذكر منها آيات منها قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ هذا عمل قلب، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا هذا دليل على أن الإيمان يزيد، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ هذا أيضا عمل قلب، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فجعل النفقة والصلاة ونحوها من الإيمان، أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فالنفقات من الإيمان، والصلاة من الإيمان، والتوكل من الإيمان. والإيمان يزيد، وكل شيء يقبل الزيادة فإنه يقبل النقص.
واستدل أيضا بالآية التي في سورة السجدة، والتي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يداوم على قراءتها في صلاة الفجر يوم الجمعة. كان يداوم على قراءة سورة السجدة الم السجدة وهل أتى على الإنسان؛ كل سورة في ركعة. فيها قول الله تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فذكر ستة أعمال جعلها صفات للمؤمن. إنما المؤمن حقا هو الذي يكون على هذه الأعمال. يعني: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا إنما يكون المؤمن بآيات الله الذي يكون هكذا. لا شك أن هذا أيضا دليل صريح في أن الأعمال من مسمى الإيمان.
المرجئة يسهلون أمر المعاصي
وعلى ذلك فقول ابن أبي العز -رحمه الله- إن الخلاف بين أهل السنة وبين المرجئة خلاف لفظي ليس كذلك، ليس على إطلاقه؛ بل إنه خلاف معنوي؛ وذلك لأنهم إذا أخرجوا الأعمال من مسمى الإيمان فإنهم يغلِّبون جانب الرجاء؛ ولأجل ذلك سموا المرجئة. قيل: سموا مرجئة؛ لأنهم غلبوا جانب الرجاء. يعني: المرجئة يغلبون الرجاء على الخوف، ويقولون: (لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل) يقولون: كما أن المشركين لو صلوا، وتصدقوا وحجوا ما نفعهم، فكذلك يقولون: المؤمنون الذين امتلأت قلوبهم بالإيمان لو زنوا أو سرقوا أو قذفوا، أو قتلوا أو سكروا ما يضرهم ذلك! وهذا خطأ.
إن هذه الأعمال قد ورد فيها وعيد؛ وعيد شديد، فلا يجوز التهاون في أمر المعاصي والتسهيل فيها؛ لأنهم وإن كانوا من أهل التوحيد، ومن أهل لا إله إلا الله ولم يشركوا بالله، فإنهم وإن كان مآلهم إلى الخروج من النار ودخول الجنة، فإنهم تضرهم تلك المعاصي. يدخلون بسببها النار؛ سواء طالت مدتهم أو قصرت، وقد يطلق على بعضهم الخلود فيها، مثل قتل الإنسان نفسه.
في صحيح مسلم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجأ نفسه بحديدة -يعني: طعن نفسه بحديدة- فقتل نفسه، فحديدته في يده يجأ بها نفسه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه -يعني: التهم السم وقتل نفسه- فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من شاهق -يعني: من رأس جبل- فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا .
وهكذا أيضا توعد الله تعالى القاتل وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا توعده بهذا الوعيد الشديد لما قتل مؤمنا، فذلك بلا شك دليل على أن هذه المعاصي يعاقب عليها ويتوعد عليها، ولو كان الخلود يراد به طول الإقامة. الخلود والتأبيد يراد بها المكث الطويل. يعني: يمكن أن بعضهم يمكث في النار مائة سنة أو مائتين أو ألف سنة. أليس ذلك عذاب شديد؟ أليس يلاقي هذا العذاب؟ يعذب كما يعذب الكفار الذين يخلدون فيها، والذين قال الله عنهم: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ويقول: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا .
إذن فالخلاف معنوي بيننا وبين المرجئة الذين يسهلون في أمر المعاصي، وقد كثر المرجئة في هذه الأزمنة فقالوا مثلا: إن ترك الصلاة لا يضر، وجعلوه من جملة المعاصي التي لا يدخل أهلها النار ولا يصلون إلى الكفر، وكثير منهم يقولون: إذا كنت من أهل الإيمان وإذا كنت من أهل الشهادة فلا يضرك ما عملت، فيتعلقون بحديث: إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه والجواب أن كلمة (لا إله إلا الله) قيدت بالقيود الثقال. ذكر العلماء لها سبعة شروط. نظمها بعضهم بقوله:
علـم يقين وإخـلاص وصدقك معْ
محبـة وانقيـاد والقبـول لهـا
وإذا اجتمعت هذه الشروط السبعة فلا بد أنه يتبعها العمل؛ فقولها باللسان ولكن عدم العلم وعدم الانقياد، وعدم العمل وعدم اليقين وعدم القبول لا تفيد معه، ولذلك جاءت الأحاديث (.... خالصا من قلبه)؛ لأنه إذا قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه. امتلأ قلبه بهذه الكلمة، وعرف أن الله تعالى هو الإله؛ الإله الحق، وعظم قدر ربه في قلبه، وبذلك يستعظم المعصية؛ يستعظم أن يعصي ربه ولو بمعصية صغيرة، ولهذا كانوا يحذرون عن صغائر الذنوب......
... هؤلاء المرجئة الذين يسهلون في أمر المعاصي فنحذرهم ونقول لهم: تأملوا الأحاديث التي في الوعيد. أليس النبي صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة؛ لعن الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومشتريها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها؟!
ولعن في الربا خمسة؛ لعن آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه؛ لأنهم تعاونوا عليه فدخلوا في هذا الوعيد؟!
وكذلك أيضا وردت الأدلة في الوعيد على كثير من المعاصي. توعد الله مثلا آكل مال اليتيم في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا مع أنه أكل لمال؛ مع أن ذلك الآكل قد يكون يصلي، ويصوم ويتصدق ويجاهد، ولكن لما أنه ظلم توعده الله تعالى بالعذاب.
وهكذا أيضا توعد الذين يقذفون المؤمنات بوعيد شديد في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ فأخبر بأنهم إذا قالوا: فلانة زنت، وهي محصنة عفيفة، أو فلان زنى أو زان، وهم كاذبون عليه فإنه يعاقبهم بهذه العقوبة. أليس ذلك دليلا على أن المعاصي لا يتهاون بها، وأن الذين يتهاونون بها ويسمون مرجئة أنهم على خطر من العذاب؟! فلا يجوز للمسلم أن يتهاون بالعذاب، وعليه أن يجدد أمر العقيدة، وأن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
قد ذكر الله تعالى زيادته في آيات كثيرة كقوله تعالى: فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وقوله: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا ونحو ذلك من الآيات فالإيمان يزيد وينقص فالكلمة التي هي ذكر لله تعالى أو أمر بالمعروف أو نهي عن منكر أو تسبيح، أو تحميد أو قراءة لآيات من القرآن يزيد بها إيمانك، والكلمة التي هي سب أو شتم أو لعن أو قذف أو غيبة أو نميمة ينقص بها إيمانك، ونظرك مثلا في المصحف أو في كتب العلم، أو نظرك في آيات الله للاعتبار يزيد به إيمانك، ونظرك إلى الصور الخليعة مثلا وإلى النساء المتكشفات وما أشبه ذلك ينقص به إيمانك، وسماعك للذكر وسماعك للعلم، وسماعك للفوائد يزيد به إيمانك، وسماعك للغناء وللطرب وللمزامير وللكلام القبيح ينقص به إيمانك. ونفقتك في وجوه الخير، وصدقتك على المساكين ونحوهم وفي سبيل الله يزيد بها إيمانك، ونفقتك في شراء آلات الملاهي أو في إفساد الأموال وشراء المحرمات وما أشبه ذلك ينقص بذلك إيمانك، وخطواتك إلى المساجد تبتغي بذلك الصلاة والعلم والفائدة يزيد بها إيمانك، وخطواتك إلى أماكن اللعب وأماكن الفواحش وأماكن الرقص والغناء وما أشبه ذلك ينقص بها إيمانك، فحاول أن تفعل الأشياء التي يزيد بها إيمانك، وتجنب ما ينقص إيمانك. ذلك لأنه إذا تعاطى ما ينقص إيمانه دائما أو شك أن ينقص الإيمان حتى لا يبقى منه شيء، وإذا اضمحل الإيمان خلفه الكفر -والعياذ بالله-.