شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. لا بأس أن يكتب المسلم اسمه في طرة المصحف (جانبه) مخافة اشتباه مصحفه بغيره، فقد لا يناسبه إلا مصحفه المخصص له، ولا بأس أن يكتب بعض الفوائد على الهوامش كتفسير كلمة أو سبب نزول أو ما أشبه ذلك.    عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة) الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه.
شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري
40410 مشاهدة
باب أمور الإيمان

قال رحمه الله تعالى:
باب أمور الإيمان وقول الله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الآية.
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا أبو عامر العَقَدي قال: حدثنا سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان .


هذا باب أمور الإيمان؛ يعني: شعبه وخصاله التي مجموعها كمال الإيمان؛ للإيمان أركان عقدية ومكملات عملية، فأركان الإيمان هي الستة في قوله صلى الله عليه وسلم: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره هذه أركان الإيمان؛ يعني الأركان الاعتقادية، وتجدون أن الذين كتبوا في العقيدة شرحوا هذه الستة، وذكروا ما يدخل فيها؛ فهو دليل على أنهم جعلوا العقيدة هي الأصل، وجعلوا الأعمال متفرعة عن هذه الأصول الستة أو عن هذه الأركان الستة؛ قد استدل عليها من القرآن بآيات، كهذه الآية في سورة البقرة: لَيْسَ الْبِرَّ قرأها بعض القراء: ( ليس البرُّ )، لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ؛ البر هو: عمل الأبرار الذين ذكر الله تعالى أن لهم الجنة: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ؛ فمن عمل بهذه الأعمال صدق عليه أنه بَرّ، ومن تركها فهو من الفجار، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ .
ذكر الله تعالى خمسة أركان في هذه الآية وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ هذه خمسة؛ يعني: من آمن بالله؛ يعني إلها وربا وخالقا، ووصفه بصفات الكمال، وآمن باليوم الآخر؛ يعني صدق بالبعث بعد الموت، وبما فيه من الحساب والجزاء على الأعمال، وآمن بالملائكة؛ يعني صدَّق بأنهم عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وصدَّق بالكتب المنزلة، ومنها هذا القرآن الكريم؛ صدق بأنه كلام الله، وصدق بأن الكتب على الأنبياء كلامه، وأنها متضمنة لشرعه، وصدق بالنبيين؛ يعني بالمرسلين جميع المرسلين الذين أرسلوا؛ أرسلهم الله، وقص علينا شيئا من قصصهم؛ أي يعني أيقن بصحة رسالتهم، وبأنهم حملوا الشريعة، وجاءوا بها إلى أممهم.
ذكر بعد ذلك خصالا تعتبر من الإيمان منها النفقة؛ مع أنها من أركان الإسلام كالزكاة، ولكنه ذكر أن النفقة هاهنا فيما يظهر صدقة تطوع وبر، ولهذا قال: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ يعني: أخرج المال حال كونه يحبه، لأن من طبع الإنسان أنه يحب ماله، قال تعالى: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا أي: حالة كونه يحبه، ولكن آثر رضا الله تعالى فأعطاه على حبه، كما قال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا وهاهنا ذكر ستة أو نحوهم وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى بدأ بالأقارب يعني: أعطاه ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، والسائلين، وفي الرقاب؛ يعني: أعطى هؤلاء من المال مع كونه يحب المال طبعا، وهؤلاء من المستحقين؛ اليتامى والمساكين، وكذلك أيضا ذوي القربى المستحقين، وكذلك السائلين؛ الذين يسألون الناس من المال، وكذلك الرقاب؛ يعني: أعتق منه رقابا كانت مملوكة، وذكر بعد ذلك الموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، وذكر قبل ذلك إقامَ الصلاة، وإيتاءَ الزكاة، فكل ذلك داخل في مسمى الإيمان؛ لأنه من البر، والبر هو الإيمان، ولأنه من التقوى؛ والتقوى من خصال الإيمان. ختم الله تعالى الآية بالتقوى في قوله: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ .
وأما هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: الإيمان بضع وستون شعبة وفي رواية عند مسلم بضع وسبعون يعني خصال الإيمان التي إذا تكاملت كمل الإيمان؛ فالإيمان يتكون من هذه الخصال. بضع؛ يعني قيل: سبع، وقيل تسع، وقيل خمس، خمس وسبعون أو سبع وسبعون أو تسع وسبعون شعبة؛ يعني خصلة من خصال الإيمان، وقد كتب كثير من العلماء في خصال الإيمان ..وأثناءه تسمى شعبه، ومن أوفى من كتب في ذلك الإمام البيهقي رحمه الله في كتابه الذي سماه شعب الإيمان؛ فإنه تتبع كل ما جاء من الخصال الدينية؛ أفعالا وتروكا، وكتبها في هذا الكتاب الذي بلغ سبعة مجلدات؛ يعني لما طبع محققا؛ كلها في خصال الإيمان؛ مع أن الأولين قد ذكروا أيضا كثيرا منها، فيقال مثلا: الصلاة شعبة من الإيمان، والزكاة شعبة من الإيمان، والقراءة من الإيمان، والذكر من الإيمان، والدعاء من الإيمان، والنصيحة من الإيمان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، ورد السلام، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، وأشباه ذلك.
ذكر في هذا الحديث قال: أعلاها قول لا إله إلا الله مع أنها كلام؛ كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله هذا من القول؛ ولكنه دليل على أن القول داخل في مسمى الإيمان، أعلاها قول لا إله إلا الله ؛ هذا قول، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق هذا فعل؛ يعني: إذا وجدت شوكة أو وجدت عودا مثلا في الطريق أو حجرا فأمطته عن الطريق حتى لا يتأذى به الذي يمر وهو غافل؛ فإن هذا نفع للمسلمين؛ فلك أجر ويزيد بذلك إيمانك؛ إماطة يعني: إزالة الأذى عن الطريق كحجر أو عود أو نحو ذلك.
والحياء شعبة من الإيمان الحياء: خلق قلبي يحمل على فعل ما يُجَمِّل ويزين، وعلى ترك ما يدنس ويشين. من الأخلاق التي يمدحها الإسلام ويثني على أهلها، ويذم من فقدها؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن مما أدرك الناس من النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ؛ فجعل الحياء مع أنه قلبي من الإيمان، وجعل الشهادة مع أنها لفظي من الإيمان، وإماطة الأذى مع أنه فعلي يعني: عمل أركان جعله من الإيمان.
وهناك رسالة مطبوعة مختصرة اسمها شعب الإيمان، ذكر مؤلفها نحو سبعة وسبعين خصلة؛ منها أفعال: كالصلاة والزكاة، ومنها تروك: مثل ترك الزنا، وترك الربا مثلا، وترك الغش، وترك الخمر مع وجود الدوافع والدواعي، وجعل ذلك كله من خصال الإيمان.
حقا أن الحديث ذكر أنها بضع وستون، وفي رواية مسلم بضع وسبعون؛ فقال بعض العلماء: إنما هذا للتكثير وليست منحصرة في هذا العدد؛ قد يوجد زيادات وقد يوجد إضافات، ولكن يظهر أنها للتقريب؛ أن ذكر ثلاثا وسبعين أو خمسا وسبعين؛ يعني بضعا وسبعين ذِكرُه لأجل الإشارة إلى كثرة الخصال؛ أنها خصال كثيرة، سواء انحصرت في ثنتين أو ثلاث وسبعين، أو زادت على ذلك أو نقصت. الحاصل أن خصال الإيمان كثيرة، وأنها دليل على أنها ليست مجرد التصديق بالقلب.