شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري
باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر
بعد ذلك قال:
( باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر ).
حبوط العمل له أسباب، من ذلك:
فعل بعض المعاصي، كقوله تعالى: رسم> لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ قرآن> رسم> .
ومن ذلك: قوله -صلى الله عليه وسلم- رسم> من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله متن_ح> رسم> يعني بطل أجره، وقال الله تعالى: رسم> ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ قرآن> رسم> كرهوا ما أنزل الله؛ واتبعوا ما أسخط الله، وكرهوا رضوانه؛ فأحبط أعمالهم.
نقل البخاري اسم> عن إبراهيم التيمي اسم> -رحمه الله- قال: ما عرضت قولي على عملي؛ إلا خشيت أن أكون مكذبا.
وهذا من تمام المعرفة.
يقول: إني أقول قولا كثيرا، ولا أعمل به، فأخشى أن أكون مكذبا، وهذا من قوة الخوف؛ يعني كلنا كذلك نقول أقوالا؛ ولكن لا نعمل بها كلها، نرغب في كثير من الخيرات والحسنات ولا نستطيع أن نعمل بها أو نأتي بها كلها، لا شك أن هذا واقعنا كثيرا، فإبراهيم التيمي اسم> -رحمه الله- يقول: ما عرضت قولي –يعني- كلامي للناس، على عملي –يعني- على أعمالي التي أعملها؛ أحث –مثلا- على قيام الليل ولا أقومه، وأحث على كثرة القراءة ولا آتي بها، وأحث على كثرة الذكر وأكون مقصرَّا فيه، وأشباه ذلك، يقول: فأخشى أن أكون مكذبا.
ونَقَل عن ابن أبي مليكة اسم> قال: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل اسم> وميكائيل اسم> .
وهذا من شدة الخوف.
يقول بعض العلماء: من كان بالله أعرف كان منه أخوف.
هكذا يكون الخوف من الله تعالى؛ الخوف الشديد، من كان بالله أعرف كان منه أخوف. فهؤلاء ثلاثون من الصحابة أدركهم ابن أبي مليكة اسم> كلهم يخاف النفاق على نفسه.
رُوي أن عمر اسم> -رضي الله عنه- سأل حذيفة اسم> وكان حذيفة اسم> صاحب السر، أسر إليه النبي صلى الله عليه وسلم أسماء بعض المنافقين، فأخبره ببعض أسمائهم، فيقول عمر اسم> أسألك بالله يا حذيفة اسم> هل عدَّني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المنافقين؟
فقال: لا ولا أزكي بعدك أحدا. يقول: إنه ما عدك، وأني لا أزكي أحدا، إذا كنت تخاف على نفسك.
يقول: إنهم ما منهم من أحد يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل اسم> وميكائيل اسم> .
أي كإيمان الملائكة؛ وذلك لأنهم قد يفعلون بعض الأفعال المباحة أو المكروهة عن طريق الاجتهاد؛ فيكونون بذلك أخلوا بقوة الإيمان.
ويذكر عن الحسن البصري اسم> -رحمه الله- يقول عن النفاق: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق. يعني المؤمن يخاف من النفاق، يخاف أن يحبط عمله؛ لأن النفاق كفر؛ ولأن نفاقه إخفاء الكفر وإظهار الإيمان، أما المنافقون فإنهم يأمنونه؛ ولأجل ذلك يمدحون أنفسهم ويزكون أنفسهم.
يقول: وما يُحْذَرُ من الإصرار على التقاتل والعصيان من غير توبة لقوله تعالى: رسم> وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ قرآن> رسم> يقول البخاري اسم> إن المؤمن يحذر من الإصرار على المعاصي، على التقاتل وعلى المعاصي ولا يتوب، والإصرار يصير الذنب الصغير كبيرا.
ثم يروي حديثا: حدثنا محمد بن عرعرة اسم> قال: حدثنا شعبة اسم> عن زبيد اسم> قال: سألت أبا وائل اسم> عن المرجئة فقال: حدثني عبد الله اسم> أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: رسم> سباب المسلم فسوق وقتاله كفر متن_ح> رسم>.
المرجئة هم الذين يخففون أمر المعاصي، ويقولون: إنها لا تضر، إن المعاصي لا تضر مع الإيمان، إذا كان الإنسان مؤمنا فلو أكثر من المعاصي ما تضره، ويعتمدون على آيات الرحمة، ويقول قائلهم:
فكثِّر ما استطعت من المعاصي | إذا كـان القـدوم علـى كـريم |
فنقول لهم: لا تعتمدوا على آيات الرحمة، فإن الله تعالى وصف نفسه بالرحمة، ووصف نفسه بالعذاب؛ ولذلك يجمع بينهما كقوله تعالى: رسم> وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ قرآن> رسم> جمع بينهما؛ أي أنه واسع الرحمة، وأنه شديد العقاب، فأنتم أيها العصاة لا تقنطوا من رحمته، وأنتم أيها المؤمنون لا تجزموا وتزكوا أنفسكم، وكذلك أنتم أيها العصاة لا تأمنوا من عذابه، فإنه يعاقب على كثير من المعاصي.
في هذا الحديث يقول: رسم> سباب المسلم فسوق وقتاله كفر متن_ح> رسم> سبابه يعني سب المسلمِ أخاه المسلم، فوصفه بأنه فسوق، الفسوق هو الخروج عن الطاعة. وقد يصل إلى التعذيب، قال تعالى: رسم> وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ قرآن> رسم> يعني أن الفسوق قد يخرج من الملة. وقتاله كفر: إذا قاتله واستحل قتاله فسق وكفر، فهذا يرد على المرجئة.
وأول المرجئة الجهم بن صفوان اسم> فإنه جمع ثلاث خصال:
الخصلة الأولى: أنه قال بالتعطيل؛ أي- عطل الله تعالى عن صفات الكمال.
الخصلة الثانية: أنه جبري، يقول: إن الناس مجبورون على أعمالهم، ليس لهم اختيار.
الخصلة الثالثة: يقول بالإرجاء، يقول: إن المعاصي ما تضر، وأن الإنسان إذا كان موحدا يأتي بالشهادتين فإن ذلك لا يضره؛ ولو عمل أي عمل.
لا شك أن هذا تهاون بطاعة الله تعالى، وتجرؤ على معصية الله عز وجل.
ثم يقول أخبرنا قتيبة بن سعيد اسم> حدثني إسماعيل بن جعفر اسم> عن حميد اسم> عن أنس اسم> قال: أخبرنا عبادة بن الصامت اسم> رسم> أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج مرة ليخبر بليلة القدر؛ فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فنسيت فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، التمسوها في التسع والسبع والخمس متن_ح> رسم>.
هكذا يقول أو يبين أن من آثار المعاصي هذا الحرمان، هذا أثر من آثار المعاصي، هذه المعصية أي الملاحاة، تلاحى رجلان تخاصما وتنازعا وتجادلا ورفعا أصواتهما، فكان من آثار ذلك أن رفع الخبر بليلة القدر، ولم يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بها بعد أن كان قد هم بأن يخبر بها، أو عرف أنها قد عينت له؛ ومع ذلك لما تلاحى هذان الرجلان رُفعت.
لا شك أن هذا دليل على أن المعاصي لها تأثير على المسلمين.
وبكل حال نعرف أن المعاصي تضر أهلها، وأنها سبب في حبوط الأعمال، وأن الإنسان إذا عمل معصية فقد يكون من آثارها حُبوط عمله، وبطلان عباداته، كما أنه إذا اجتهد في الأعمال الصالحة فإن الله تعالى يثبته ويزيده ثباتا. لعلنا نقف هاهنا.
مسألة>