اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف لا بأس أن يكتب المسلم اسمه في طرة المصحف (جانبه) مخافة اشتباه مصحفه بغيره، فقد لا يناسبه إلا مصحفه المخصص له، ولا بأس أن يكتب بعض الفوائد على الهوامش كتفسير كلمة أو سبب نزول أو ما أشبه ذلك. شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع.
شرح كتاب مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد
24829 مشاهدة
بيان سبب ارتداد الناس بعد إيمانهم وأنواع الفتن التي تصيبهم

وقال تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ إلى قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ .
فإذا قال هؤلاء بألسنتهم نشهد أن هذا دين الله ورسوله، ونشهد أن المخالف له باطل، وأنه شرك بالله؛ غر هذا الكلام ضعيف البصيرة.
وأعظم من هذا وأطم أن أهل حريملاء ومن وراءهم يصرحون بمسبة الدين، وأن الحق ما عليه أكثر الناس يستدلون بالكثرة على حسن ما هم فيه من الدين، ويفعلون ويقولون ما هو من أكبر الردة وأفحشها، فإذا قالوا: التوحيد حق والشرك باطل وأيضًا لم يحدثوا في بلدهم أوثانًا جادل الملحد عنهم، وقال: إنهم يقرون أن هذا شرك، وأن التوحيد هو الحق، ولا يضرهم عندهم ما هم عليه من السب لدين الله، وبغي العوج له، ومدح الشرك وذبهم دونه بالمال واليد واللسان. فالله المستعان.


نقول: يعني من الآيات التي استدل بها يقول: قول الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ دل على أنه قد آمن، ثم بعد ذلك كفر، ما سبب كفره بعد إيمانه؟ إما حفاظا على منصب؛ فزين الكفر للناس وهو يعلم أنه شرك، وإما حفاظا على رتبة، وإما حفاظا على مصالح دنيوية.
وقد ذكر الله أن كثيرا من العرب يدخلون في الإسلام دخولا مؤقتا، ثم بعد ذلك يرجعون؛ وذلك إذا لم يناسبهم، أو أصيبوا مثلا بابتلاء أو نحو ذلك؛ ولهذا قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ؛ يعني لا يتركون بل لا بد من الابتلاء والفتنة، فإذا صبروا على هذه الفتنة، فإن الله تعالى يثبتهم.
وإذا رجعوا إلى الكفر دل ذلك على عدم اطمئنان قلوبهم بالإيمان؛ قال تعالى في سورة الحج -قيل: إنها مكية وقيل: إنها مدنية- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ يعبد الله عبادة ليست مستقرة؛ إذا وسع الله عليه وجاءته الدنيا وفتح عليه مصالح دنيوية؛ ثبت.
وإذا ابتلي بمصائب أو بآفات أو بمرض أو بفقر؛ رجع انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ وأخذ يسب الدين، ويقول: ما حصلنا من هذا الدين إلا على فقر وفاقه، وهذا بلا شك من الكفر، أو من علامات الكفر أو من النفاق.
وقال تعالى في سورة العنكبوت، وهي من آخر ما نزل بمكة وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ يقول: آمنا، وإذا افتتن خاف من الناس كخوفه من عذاب الله، فيعطي الناس ما طلبوا؛ إذا آذاه المشركون خاف من أذاهم ولبى طلبهم وأعطاهم ما يتمنون، مثل خوفه من عذاب الله.
الآية الثانية في سورة النحل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ يدخل في ذلك هؤلاء الذين يقدمون المصلحة الدنيوية على العبادات الدينية، فيقولون مثل ما ذكرنا: إننا الآن محترمون والناس يحترموننا ويتبركون بنا ولنا شهرة ولنا شعبية، وإذا وافقنا هؤلاء الوهّابيين –وافقناهم- فمعنى ذلك أنه سقط قدرنا؛ لأن هذه الجماهير يبغضون الوهّابيين، ويقولون: إنهم يبغضون الحق وأنهم وأنهم.. فنحن نوافق الجماهير.
كثير من الدول عندهم هذه الشركيات إذا جاءهم بعض المعظمين عندهم الذين يقرونهم، رفعوا شأنه كما يذكر أن ابن علوي مرة أو مرارا إذا جاء إلى دولة إندونيسيا -لأنهم كثيرون أي كثيرون في مكة - يحترمونه ويعظمونه؛ فاشتهر عندهم، فإذا جاء كادوا أن يرفعوه عن الأرض من كثرة حملهم له، ومن كثرة احترامهم به وتبركهم به.
ولا شك أن هذا يدفعه ويدفع أمثاله إلى أن يقرهم على التوسل بالصالحين ودعاء الأموات وما أشبه ذلك، فهو مثلا يعرف الحق، وقد قرأ هذه الكتب، فهؤلاء هو وأمثاله من الصوفية يقولون بألسنتهم: نشهد أن هذا دين الله ورسوله، ونشهد أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وأن ما خالفه فهو باطل، وأنه الشرك بالله.
يقولون هذا بألسنتهم؛ فيغتر بهذا الكلام ضعيف البصيرة، ولكن يفسدون هذا القول بأفعالهم فيقولون: نعم. إنه لا مانع من التبرك بالصالحين والصلاة عند القبور والسفر إليها.
في زمن المؤلف أهل بلدة حريملاء عندهم أنواع من الشركيات، ولما أن الإمام محمد بن سعود رحمه الله أسس الدعوة في الدرعية ما بينها وبين حريملاء إلا نحو ثمانين كيلو؛ فامتنعوا أن يدخلوا تحت ولايته، وامتنعوا أيضا أن يقروا بالدين الذي دعا إليه الشيخ محمد مع أن أباه كان قاضيا عندهم؛ ولكن أبغضوا؛ أي الولاية وصاروا يسبون هذا الدين.
يقول: أعظم من هذا وأطم أن أهل حريملاء ومن وراءهم يصرحون بمسبة الدين؛ يعني بمسبة هذا التوحيد، ويقولون إن الحق ما عليه أكثر الناس: يقولون كيف يكون أهل الدرعية هم أهل التوحيد وبقية البلاد ليسوا على توحيد بل على شرك فيقولون أو ينخدعون بالكثرة؛ يستدلون بالكثرة على حسن ما هم عليه ما هم فيه من الدين، ومعلوم أن الكثرة ليست دليلا على الصواب الله تعالى يقول: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .
فليست الكثرة دليل على الصواب؛ فهؤلاء يستدلون بالكثرة على حسن ما هم فيه من الدين؛ أي من الشرك.
ويفعلون ويقولون ما هو أكبر من الردة وأفحش منها، ما هو أكبر الردة وأفحشها؛ يقولون: إن هؤلاء خوارج مثلا أو أنهم مخالفون لجمهور الناس، أو أن الناس الأكثرية هم المصيبون، ويستدلون بالأثر الذي يقال فيه: ما رآه الناس حسنا فهو عند الله حسن وأشباه ذلك.
ولا شك أن هذا من إقرار الشرك، يقولون: إذا قالوا التوحيد حق والشرك باطل، ولكن ليس دعاء الأموات شركا، بل هو توحيد؛ لأنهم يقولون: إن التوحيد هو المعرفة، ولا يضر كوننا ندعو فلانا أو فلانا مع الله، وليس هذا بشرك، وأيضا لم يحدثوا في بلادهم أوثانا فيجادل الملحد عنها يقول: أنتم تقولون إن هؤلاء مشركون وهم مع ذلك يقولون: إن التوحيد حق وإن الشرك باطل، وليس في بلادهم أوثان ما نصبوا أصناما يعبدونها، فكيف تقولون إنهم مشركون، هذه شبهتهم.
ولا شك أن هذه الشبهة شبهة باطلة، وأن الواجب أننا نحذرهم ونحذر منهم؛ كل من سب الدين وسب حقيقة التوحيد، فلا ينفعه قوله: إن التوحيد حق وإن الشرك باطل؛ لأن من سب الدين فقد سب أهل الدين، ومن سب أهل الدين فقد سب الدين.
فإذا قال مثلا: إنهم يقرون أن عبادة الأوثان شرك، وأن دعاء الأموات شرك وأن التوحيد هو الحق، لا يضرهم عندهما ما هم عليه من السب لدين الله وبغي العوج له ومدح الشرك وذمهم؛ أي وذبهم دونه بالمال واليد واللسان، كأنه يقول: إن هناك كثير من الناس، يقولون: لا تسبوا هؤلاء كأهل حريملاء لا تسبوهم فإنهم يقرون أن عبادة الأموات شرك، ويقرون أن التوحيد حق، هذا المجادل ما يضرهم ما هم عليه من السب، يقول: لا يضرهم سبهم لكم.
الجواب: أنهم ما سبونا ولكن سبوا ديننا، وسبوا التوحيد الذي نحن ندعو إليه، فكيف لا يضرهم ما عليه من السب لدين الله، لا شك أنه يضرهم؛ لأن من سب أهل الدين فقد سب الدين من سب الموحدين فقد سب التوحيد.
وكذلك مدحهم للشرك أو للمشركين في البلاد الأخرى، وذبهم دونه بالمال واليد واللسان، لا شك أن هذا كله يضرهم.