الثمرات الجنية شرح المنظومة البيقونية
الحديث الحسن تعريفه وأقسامه
والحَسَنُ المعْرُوفُ طُرْقًا وغَدَتْ | رِجَالُهُ لا كالصَّحِيْحِ اشْتهـرتْ |
قوله:
(والحسن المعروف طرقا )
هنا عرَّف الحسن.
يقول في تعريف الحديث الحسن: أنه ما غدت رجاله اشتهرت، لكنه نزل عن درجة الصحيح، وعرَّفه بأنه معروفة طرقه يعني أن أسانيده معروفة، وأن رجاله موثوقون، وأنه متصل، إلا أن رجاله وحملته ليسوا في الشهرة كرجال الصحيح، بل أقل منهم شهرة، فهو يُقبل ويُعمل به، ولكن منزلته دون منزلة الصحيح، لنزول درجة رجاله، فمن المعلوم أن رجال الحديث يتفاوتون في الثقة والحفظ، فمنهم: حفَّاظ نقَّاد، ومنهم: حفَّاظ يقعون في شيء من الوهم.
وقد ذكر مسلم اسم> في مقدمة صحيحه أمثلة من هؤلاء وهؤلاء، فمثل للثقات العدول: بإسماعيل بن أبي خالد اسم> ومنصور بن المعتمر اسم> وسليمان الأعمش، اسم> ومثلهم كثير كمالك بن أنس اسم> وابن أبي ذئب اسم> وسفيان الثوري اسم> وسفيان بن عيينة اسم> وشعبة بن الحجاج اسم> وأبي إسحاق السبيعي اسم> وأمثالهم، فهؤلاء أئمة وحفاظ وعلماء، يحفظ أحدهم ما سمع غالبا، وقد اشتهروا بالنقل، وصار الناس يرجعون إليهم، وتتلمذ عليهم الخلق الكثير، فمثلا تلامذة الزهري اسم> لا يكادون أن يحصوا كثرة لاشتهاره بالحفظ، ومثل تلامذة الأعمش سليمان بن مِهران اسم> أحد الحفاظ المشهورين كثيرون لاشتهاره فيما بينهم بالحفظ، وكذلك الذين اشتهروا بقوة الحفظ، كما ذكرنا أن الشعبي عامر بن شراحيل اسم> يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء، لقوة حفظه مع كثرة ما روى، فهو من الحفَّاظ المشهورين، فإذا جاءنا في رجال الحديث من هؤلاء الأئمة اعتبرناه من الصحيح، سواء كانوا من أهل العراق اسم> كشعبة اسم> والثوري اسم> والسبيعي اسم> ونحوهم، أو من أهل الشام اسم> كالأوزاعي، اسم> أو من أهل مصر اسم> كالليث، اسم> أو من أهل مكة اسم> كابن عيينة اسم> وعطاء بن أبي رباح، اسم> أو من أهل المدينة اسم> كالزهري اسم> ومالك اسم> وابن أبي ذئب اسم> ونحوهم، فنقول: هؤلاء رجال الصحيح، فمن نزل عن مرتبتهم وإن كان يشمله اسم الصدق والحفظ وكثرة الرواية، لكن يقع منه خطأ، وينسى أحيانا فهو الذي روايته في مرتبة الحسن. فمثلا أبو صالح السمان اسم> أحد الحفاظ من تلاميذ أبي هريرة اسم> نقله يعتبر في درجة الصحيح، وتلميذه ابنه سهيل اسم> كثير الرواية عن أبيه، لكنه يقع في أخطاء؛ ولأجل هذا احتج به مسلم اسم> دون البخاري، اسم> فروايته وحده تعتبر في مرتبة الحسن، وكذلك يمثل بسعيد بن أبي عَروبة اسم> وعطاء بن السائب اسم> وليث بن أبي سليم اسم> ويزيد بن أبي زياد اسم> وأشباههم، هؤلاء يروون أحاديث، ولكن ليسوا في الترتيب في منزلة رجال الصحيح، فيعد تفردهم أو كون الحديث من رواية أحدهم هو الحسن هذا معنى قوله: (وغدت رجاله لا كالصحيح)
يعني اشتهرت لا كرجال الحديث الصحيح، بل دون رجال الصحيح في الشهرة.
وقد عرفنا أن رجال الحسن يشملهم العدالة والضبط، إلا أن ضبطهم أقل من ضبط رجال الصحيح، وهذا هو الفرق بين الحديث الحسن والحديث الصحيح.
معنى قولهم: حسن صحيح:
واستشكلوا الجمع بين الحسن والصحيح، كما يفعله الترمذي اسم> في قوله: هذا حديث حسن صحيح، فما الجواب؟ فإن كونه صحيحا يغني عن كونه حسنا؛ لأن الحسن أنزل من درجة الصحيح، فكيف يكون حسنا صحيحا؟ لماذا لم يكتف بصحيح؟ أو لم يكتفِ بحسن، إن كان أنزل درجة من الصحيح؟ ولم يستعمل هذا غالبا إلا الترمذي، اسم> ولكن يظهر أن الترمذي اسم> لم يلتزم هذا الاصطلاح، وهو أن الصحيح رجاله هم الموثقون الحفاظ، والحسن رجاله هم الذين دون أولئك في الضبط، إنما أراد بقول: حسن صحيح الوصف له بما يقتضي الصحة والعدالة والقبول، فيقول: حديث حسن صحيح، يعني أنه حسن من حيث مخرجه، وصحيح من حيث أصله، كأنه يصفه بما يؤكد قبوله، هذا هو المتبادر من فعل الترمذي, اسم> أما إذا قال: حديث حسن. فإنه كما ذكر أن الحسن هو ما عرف مخرجه واشتهرت رجاله، وروي له طريقان أو أكثر .
أقسام الحديث الحسن رأس>
ثم يقسّمون الحسن أيضا إلى قسمين: حسنٌ لذاته، وحسنٌ لغيره، كما أن الصحيح ينقسم إلى قسمين: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، والحسن لذاته هو: الذي له طريق واحد، ولكن رجاله موثقون، ثم قد يكون الحسن صحيحا وذلك إذا تعددت طرق روايته، أي: روي عن طريقين أو أكثر، ولكن كل منهما رجاله كرجال الحسن، فيكون هذا الطريق حسنا لذاته، وهذا الطريق الثاني حسنا لذاته، وهذا الطريق حسنا لذاته والمدار على الصحابي في الحديث الواحد، فنقول هذا هو الصحيح ولكن لا لذاته بل بالمجموع، ويسمى الصحيح لغيره، يعني أنه صحيح لشواهده ولكثرة طرقه، فإن كثرة الطرق تقويه، وتنقله من قوي إلى أقوى.
أما الحسن لغيره فهو: الذي نزل عن درجة الحسن لما كان فردا ، ولكن بمجموع الطرق -وكلها لا تخلو من الضعف- يترقى إلى الحسن لا لذاته بل بالمجموع.
المتابعات والشواهد
فعندنا مثلا طريق ضعيف، وطريق آخر فيه ضعف، وطريق ثالث فيه ضعف، تجتمع هذه الطرق وتتقوى، ويكون حسنا لا لذاته بل بالمجموع، يعني أنه تقوّى بهذا وبهذا فأصبح حسنا لغيره؛ ولهذا يسمون الطرق متابعات وشواهد وإن لم يذكرها الناظم فقد ذكرها غيره، والمتابعات تكون في السند والشواهد تكون في المتن.
فإذا كان الراوي يوافق غيره كان دليلا على ثقته، وإذا كان ينفرد عن غيره كان دليلا على ضعفه، وتسمى موافقته لغيره متابعة، فتجدهم إذا قرأت ترجمة أحد الرواة يقولون مثلا في الكلام عليه: فلان ضعيف، لا يُتابع على أحاديثه، أو ينفرد عن الثقات بالمنكرات، أو ينفرد بالغرائب عن الثقات.
أما الذي يتابع فإنه يدل على حفظه، فعندك مثلا: الزهري اسم> له تلاميذ كثيرون، فإذا روى عنه ابن أخيه وهو محمد بن عبد الله اسم> حديثا ، ولم يروه غيره قلنا: هذا الحديث غريب، تفرد به ابن أخي الزهري اسم> عن عمه، ولو كان عند الزهري اسم> ما تركه بقية تلامذته، فدل على ضعف هذا الحديث حيث تفرد به ابن أخي الزهري، اسم> فإن وجدناه قد رواه يونس بن يزيد الأيلي اسم> أحد تلامذة الزهري اسم> أو عقيل بن خالد اسم> أحد تلاميذه، أو شعيب بن أبي حمزة اسم> أحد تلامذة الزهري اسم> أو سفيان بن عيينة اسم> أو الثوري اسم> أو معمر بن راشد اسم> أو من أشبههم عرفنا أنه قد توبع فقلنا: ابن أخي الزهري اسم> يتابع، تابعه فلان على حديثه، وتابعه معمر اسم> وهكذا .
والحاصل أن الحسن لغيره هو: الضعيف الذي تتعدد طرقه.
والصحيح لغيره هو: الحسن الذي تتعد طرقه.
الضعيف الذي لا ينجبر رأس>
ثم إن هناك ضعفا لا ينجبر، وهو أن يكون الرواة متهمين بالكذب، مشهورين به، وقد تتعجب من توافق كثير من الروايات التي فيها ضعف، لكن لا غرابة، فإنهم قد يتفقون على الكذب فيجتمع مثلا في مجلس واحد ثلاثة يختلقون حديثا، ويقولون: نرويه عن فلان الثقة المعروف، فيتفرقون وكل منهم يحدِّث به، فيقول مثلا : حدَّثني شعيب بن أبي حمزة اسم> عن الزهري اسم> عن سالم اسم> عن أبيه، فمثلا عبد القدوس بن حبيب اسم> في الشام اسم> يقول: حدّثني شعيب، اسم> ثم يأتي أحد الكذابين في العراق اسم> كعمرو بن جُمَيْع اسم> ويقول: حدثني شعيب، اسم> ويأتي آخر في خراسان اسم> ويقول: حدثني شعيب، اسم> فإذا رأينا أن هذا الحديث قد توافقوا وتتابعوا على روايته عن شعيب اسم> تعجبنا حتى ليجزم بعضهم أن شعيبا اسم> حدَّث به، وإلا فكيف اتفق عليه راوي العراق اسم> وراوي خراسان اسم> وراوي الشام اسم> ؟.
والجواب: أنه لا عجب، فقد يجمعهم مجلس، ويتفقون فيه على اختلاق حديث، ويتفرقون ويروونه، وقد يسرقه بعضهم، كما تجد في تراجم بعض الرواة ذكر السرقة، يقال: فلان يسرق الأحاديث. أي أنه إذا سمع حديثا ضعيفا مرويا من طريق سرقه، وكتبه، ثم حدّث به من طريق ثانٍ، فاختلق له طريقا آخر، فيتعجب الذي يرى هذا مُخَرَّجا من طريق، ثم يراه مُخَرَّجا من طريق آخر، ويقول: كيف توافقت الرواة؟ يعني هذا: طريق كلهم مصريون، وله إسناد من طريق كلهم عراقيون، فنقول: لا غرابة في ذلك، فقد يكون الذي اختلقه لأول مرة هو المصري، ثم لما سمع به العراقي ركَّب له إسنادا ليدَّعي أنه قوي.
وقد يكتب بعضهم إلى بعض ممن يَروون الكذب، أو يرون جواز الكذب أو نحو ذلك، فإذًا قد يقع في روايات الضعفاء توافق، فلا تكون متابعة الضعيف شديد الضعف رافعة لضعف الحديث، ولا مسببة لنقله إلى مرتبة الحسن لغيره، وإنما الذي يرتقي إلى مرتبة الحسن إذا كان الضعف فيه ينجبر، وذلك إذا كان الراوي غير متهم بالكذب. أما الضعف الذي لا ينجبر فلا يعني ما هو ضعيف بسبب رواة متهمين بالكذب، وقد عرف أن الراوي يطعن فيه فيُقال: كذَّاب. أو يُقال: متهم بالكذب، أو ما أشبه ذلك.
فإذا كان الراوي غير متهم بالكذب، فضعفه ينجبر إذا روي عن طريق أُخرى، وأحاديث الكذَّابين تُتَجنَّب.
وقد كُتبت في ذلك مؤلفات كثيرة ككتب الموضوعات، والقصد من كتابتها التحذير منها لكي يعرفها الناس ويحذروها ويتجنبوا روايتها، أو يتجنبوا تصديقها والعمل بها، فمنها: (كتاب الموضوعات) في أربعة مجلدات لابن الجوزي اسم> يرويها بالأسانيد، ويقتصر على الأحاديث الموضوعة، وإن كان قد تساهل وأدخل في ذلك أشياء من الأحاديث التي فيها ضعف لا يصل إلى الوضع ومنها: (تنزيه الشريعة المرفوعة) لابن عَرَّاق اسم> في مجلدين، وهو من أوفى ما كتب في الموضوعات، وإذا كان رواة المتابعات كلها من المبتدعة، فإن الضعيف لا يترقى إلى الحسن؛ لأن كثيرا من المبتدعة يتساهلون في رواية الموضوع سيما إن كانت الأحاديث تؤيد بدعتهم، أو يَرَوْنَ وضع الأحاديث حسبة؛ تقوية لمذاهبهم ومعتقداتهم، وأكثر من يفعل ذلك الرافضة الذين امتلأت مؤلفاتهم بالأكاذيب التي يؤيدون بها مذهبهم.
مسألة>