القلوب أوعية؛ منها ما يستوعب الخير، ومنها ما يستوعب الشر. وأفضل القلوب هي التي تمتلئ بالخير،تمتلئ بالعلم وتمتلئ بالدين والعبادة، تمتلئ بالعلم النافع والعقيدة السليمة، هذه هي القلوب الواعية، وهي أرجى القلوب لتحصيل الخير تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. إذا ضعفت العقيدة في القلوب ضعف العمل، فإذا رأيت الذي يكون ضعيفا في عباداته، في صلواته وزكواته وما إلى ذلك، فاعلم أن ذلك لضعف في عقيدته بالأساس.فالعقيدة حقيقة إذا امتلأ بها القلب ظهرت آثارها على الجواربالوقوف قائما أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه. لا بأس أن يكتب المسلم اسمه في طرة المصحف (جانبه) مخافة اشتباه مصحفه بغيره، فقد لا يناسبه إلا مصحفه المخصص له، ولا بأس أن يكتب بعض الفوائد على الهوامش كتفسير كلمة أو سبب نزول أو ما أشبه ذلك.
الثمرات الجنية شرح المنظومة البيقونية
32707 مشاهدة
الحديث العالي والحديث النازل

وكُلُّ مَا قَلَّتْ رِجَالُه عَلا وَضِدُّهُ ذاكَ الذِي قدْ نَزَلا
الحديث العالي والحديث النازل:
قوله:
(وكل ما قلت رجاله علا...).


العالي والنازل من أقسام الحديث، وتتعلَّق بالأسانيد، ويُقال: هذا إسناد عال وهذا إسناد نازل. فالعالي هو الذي قلَّت رجاله، والنازل هو الذي كثرت رجال إسناده، وقلة الرجال مرغوب فيها عند المحدّثين فهم يحبون الحديث العالي دون النازل، وسبب ذلك: أن كثرة الوسائط سبب لكثرة الأوهام؛ لأنه إذا كان مثلا بين الترمذي وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أربعة، فاحتمال الخطأ من هؤلاء قليل، يعني محتمل أنهم أخطئوا ولكنه احتمال قليل، بخلاف ما إذا كان بينه وبينه عشرة فإنه قد يوجد أحاديث ينزل فيها الترمذي إلى عشرة، وقد يوجد أربعة، فيسمى القليل عاليا، فأقل ما بين الترمذي وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أربعة، ويسمى الآخر نازلا إذا كان الإسناد سبعة أو أكثر، وسبب ذلك أن بعضهم يروي عن بعض وهم متقاربون، يروي التابعي عن تابعي عن تابعي إلى أربعة أو خمسة أو ستة بعضهم عن بعض، وكلهم متقاربون، وتكثر الوسائط؛ فلأجل ذلك قالوا: إن العالي أصح وأقوى وأقرب إلى الثقة بهم، وقد كانوا يحرصون على العلو، فكثيرا ما توجد الأحاديث عند الشيخ في بلاده نازلة، فيسافر مسيرة شهر أو أكثر لأجل أن يحصل عليه بإسناد أقل لأنه يسقط عنه رجل.
فمثلا : الإمام أحمد يروي عن عبد الله بن عمر أحاديث ليس بينه وبينه إلا اثنان، يرويها مثلا عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر ؛ لأن ابن عمر طال عمره إلى أن توفي في حدود سنة 74هـ وتتلمذ عليه عبد الله بن دينار في آخر حياته وحفظ منه علما، وطالت حياة عبد الله بن دينار فمات سنة 127هـ، فأدركه بعض مشايخ أحمد كسفيان بن عيينة وإسماعيل بن جعفر ونحوهما، فرووا عنه فتكون أحاديثه ثلاثية، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، وكذلك أحاديث أنس حيث أدركه الزهري وإن كان الزهري لم يُعَمَّرْ، أي: ما طالت حياته، ولكن أنسا عُمِّرَ حتى توفي سنة 93، وعاش بعده الزهري ثلاثا وثلاثين سنة وتوفي سنة 126 والإمام أحمد يروي عن ابن عيينة ويقول: حدثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن أنس، فأحاديثه عنه ثلاثية .
كذلك البخاري عنده الأحاديث الثلاثيات فليس بينه وبين الصحابي إلا اثنان، وبينه وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة، ومنها أحاديث عن أنس يرويها عنه تلميذه حُميد الطويل الذي عُمِّر فأدركه محمد بن عبد الله الأنصاري، فالبخاري يقول: حدَّثنا محمد بن عبد الله، عن حميد، عن أنس، فهذا إسناد عالٍ، وكذلك سلمة بن الأكوع عُمِّر يعني عمرا متوسطا توفي سنة 74 هـ، ولكن تلميذه ومولاه يزيد بن أبي عبيد عُمر بعده فأدركه مشايخ البخاري فصار يروي عن سلمة أحاديث ثلاثية، فيقول: حدّثنا مكي بن إبراهيم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع، فهذا حديث عال، فإذا كثرت الرجال فإنه يسمى نازلا، فقد تجد بين البخاري وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- سبعة أحيانا، ويكون ذلك لأن بعضهم يروي عن بعض وهم متقاربون، فيقول مثلا: حدّثنا عمر بن حفص، حدّثنا أبي، حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس، عن ابن مسعود، فهذا بينه وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- ستة، وقد يحدث عن بُنْدَار، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن الأعمش، فهذا إسناد فيه نوع من النزول بالنسبة إلى الثلاثي، هذه هي الأحاديث العالية والنازلة، ورغبتهم في الأحاديث العالية لقلة الوسائط وقلة الرجال، فقد يسافرون -كما ذكرنا- لأجل سقوط رجل أو رجلين. فالإمام
  أحمد توجد عنده أحاديث في بغداد نازلة، ولكنها توجد عند بعض المشايخ عالية مثل عبد الرزاق، فسافر أحمد من بغداد إلى صنعاء لأجل أن يسمع منه أحاديث هي موجودة عنده في بغداد لكنها نازلة، فأراد أن يأخذها عن عبد الرزاق لتكون عالية، فقد يكون بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا ستة فإذا أخذها عن عبد الرزاق ارتفع إلى خسمة أو أربعة فقد يقول: حدّثنا عبد الرزاق، حدَّثنا معمر، عن الزهري، عن أنس، فهؤلاء أربعة، أو يقول عبد الرزاق حدّثنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، فهؤلاء خمسة فالرغبة في علو الإسناد لأجل قلة الوسائط التي يحصل بسببها قلة الأوهام.
فأنت مثلا إذا سمعت حادثا حدث كمرض أو موت فسمعته من واحد شاهده وقال لك: شاهدت فلانا مريضا أو شاهدت فلانا عندما توفي، أو شاهدت البيت الفلاني وقد احترق أو قد انهدم، جزمت به؛ لأنه ليس بينك وبين هذا الحادث إلا واحد شاهده، لكن لو أن هذا الواحد الذي شاهده نقله لك عن خمسة قال مثلا : أنا ما شاهدته، ولكن أخبرني فلان وهو ما شاهده، ولكن أخبره فلان وهو أيضا ما شاهده، وإنما أخبره فلان ولم يشاهده أيضا، وأخبره فلان الخامس الذي شاهده، فكثرة الوسائط قد تُوقع الشك في هذا الحادث هل هو صحيح واقعي أم لا؟ لأن أحدهم قد يكون قاله مازحا غير مُجدّ في قوله، وقد يكون مخطئا على بعضهم، وقد يكون بعضهم قال: نقله لي فلان وهو مخطئ، وقد يكون بعضهم لا يعرف هذا الذي حدَّثه، إنما قال: يمكن أنه فلان، وليس جزما؛ فلأجل ذلك كثرة الوسائط يحصل بها وَهم وخطأ غالبا، فهذا هو السبب في أن قلة الرجال أقوى.
حكم الإسناد العالي والنازل:
ثم إن الحكم على السند بالنظر إلى الرجال، لا نحكم على السند عاليا أو نازلا إلا بعد النظر في رجاله، وقد يكون العالي رجاله ضعفاء، ويكون الإسناد النازل رجاله أقوياء، وقد يكون الإسناد العالي أضعف من النازل، رغم أن هذا عال ولكن في رجاله ضعف وهذا عال ورجاله ثقات، فلا تساوي بينهما .