الثمرات الجنية شرح المنظومة البيقونية
الحديث العالي والحديث النازل
وكُلُّ مَا قَلَّتْ رِجَالُه عَلا | وَضِدُّهُ ذاكَ الذِي قدْ نَزَلا |
قوله:
(وكل ما قلت رجاله علا...).
العالي والنازل من أقسام الحديث، وتتعلَّق بالأسانيد، ويُقال: هذا إسناد عال وهذا إسناد نازل. فالعالي هو الذي قلَّت رجاله، والنازل هو الذي كثرت رجال إسناده، وقلة الرجال مرغوب فيها عند المحدّثين فهم يحبون الحديث العالي دون النازل، وسبب ذلك: أن كثرة الوسائط سبب لكثرة الأوهام؛ لأنه إذا كان مثلا بين الترمذي اسم> وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أربعة، فاحتمال الخطأ من هؤلاء قليل، يعني محتمل أنهم أخطئوا ولكنه احتمال قليل، بخلاف ما إذا كان بينه وبينه عشرة فإنه قد يوجد أحاديث ينزل فيها الترمذي اسم> إلى عشرة، وقد يوجد أربعة، فيسمى القليل عاليا، فأقل ما بين الترمذي اسم> وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أربعة، ويسمى الآخر نازلا إذا كان الإسناد سبعة أو أكثر، وسبب ذلك أن بعضهم يروي عن بعض وهم متقاربون، يروي التابعي عن تابعي عن تابعي إلى أربعة أو خمسة أو ستة بعضهم عن بعض، وكلهم متقاربون، وتكثر الوسائط؛ فلأجل ذلك قالوا: إن العالي أصح وأقوى وأقرب إلى الثقة بهم، وقد كانوا يحرصون على العلو، فكثيرا ما توجد الأحاديث عند الشيخ في بلاده نازلة، فيسافر مسيرة شهر أو أكثر لأجل أن يحصل عليه بإسناد أقل لأنه يسقط عنه رجل.
فمثلا : الإمام أحمد اسم> يروي عن عبد الله بن عمر اسم> أحاديث ليس بينه وبينه إلا اثنان، يرويها مثلا عن إسماعيل بن جعفر، اسم> عن عبد الله بن دينار، اسم> عن ابن عمر اسم> ؛ لأن ابن عمر اسم> طال عمره إلى أن توفي في حدود سنة 74هـ وتتلمذ عليه عبد الله بن دينار اسم> في آخر حياته وحفظ منه علما، وطالت حياة عبد الله بن دينار اسم> فمات سنة 127هـ، فأدركه بعض مشايخ أحمد اسم> كسفيان بن عيينة اسم> وإسماعيل بن جعفر اسم> ونحوهما، فرووا عنه فتكون أحاديثه ثلاثية، حدثنا سفيان بن عيينة، اسم> عن عبد الله بن دينار، اسم> عن ابن عمر، اسم> وكذلك أحاديث أنس اسم> حيث أدركه الزهري اسم> وإن كان الزهري اسم> لم يُعَمَّرْ، أي: ما طالت حياته، ولكن أنسا اسم> عُمِّرَ حتى توفي سنة 93، وعاش بعده الزهري اسم> ثلاثا وثلاثين سنة وتوفي سنة 126 والإمام أحمد اسم> يروي عن ابن عيينة اسم> ويقول: حدثنا ابن عيينة، اسم> عن الزهري، اسم> عن أنس، اسم> فأحاديثه عنه ثلاثية .
كذلك البخاري اسم> عنده الأحاديث الثلاثيات فليس بينه وبين الصحابي إلا اثنان، وبينه وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة، ومنها أحاديث عن أنس اسم> يرويها عنه تلميذه حُميد الطويل اسم> الذي عُمِّر فأدركه محمد بن عبد الله الأنصاري، اسم> فالبخاري اسم> يقول: حدَّثنا محمد بن عبد الله، اسم> عن حميد، اسم> عن أنس، اسم> فهذا إسناد عالٍ، وكذلك سلمة بن الأكوع اسم> عُمِّر يعني عمرا متوسطا توفي سنة 74 هـ، ولكن تلميذه ومولاه يزيد بن أبي عبيد اسم> عُمر بعده فأدركه مشايخ البخاري اسم> فصار يروي عن سلمة اسم> أحاديث ثلاثية، فيقول: حدّثنا مكي بن إبراهيم، اسم> عن يزيد بن أبي عبيد، اسم> عن سلمة بن الأكوع، اسم> فهذا حديث عال، فإذا كثرت الرجال فإنه يسمى نازلا، فقد تجد بين البخاري اسم> وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- سبعة أحيانا، ويكون ذلك لأن بعضهم يروي عن بعض وهم متقاربون، فيقول مثلا: حدّثنا عمر بن حفص، اسم> حدّثنا أبي، حدّثنا الأعمش، اسم> عن إبراهيم النخعي، اسم> عن علقمة بن قيس، اسم> عن ابن مسعود، اسم> فهذا بينه وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- ستة، وقد يحدث عن بُنْدَار، اسم> عن غُنْدَر، اسم> عن شعبة، اسم> عن الأعمش، اسم> فهذا إسناد فيه نوع من النزول بالنسبة إلى الثلاثي، هذه هي الأحاديث العالية والنازلة، ورغبتهم في الأحاديث العالية لقلة الوسائط وقلة الرجال، فقد يسافرون -كما ذكرنا- لأجل سقوط رجل أو رجلين. فالإمام
أحمد اسم> توجد عنده أحاديث في بغداد اسم> نازلة، ولكنها توجد عند بعض المشايخ عالية مثل عبد الرزاق، اسم> فسافر أحمد اسم> من بغداد اسم> إلى صنعاء اسم> لأجل أن يسمع منه أحاديث هي موجودة عنده في بغداد اسم> لكنها نازلة، فأراد أن يأخذها عن عبد الرزاق اسم> لتكون عالية، فقد يكون بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا ستة فإذا أخذها عن عبد الرزاق اسم> ارتفع إلى خسمة أو أربعة فقد يقول: حدّثنا عبد الرزاق، اسم> حدَّثنا معمر، اسم> عن الزهري، اسم> عن أنس، اسم> فهؤلاء أربعة، أو يقول عبد الرزاق اسم> حدّثنا معمر، اسم> عن ابن طاوس، اسم> عن أبيه، عن ابن عباس، اسم> فهؤلاء خمسة فالرغبة في علو الإسناد لأجل قلة الوسائط التي يحصل بسببها قلة الأوهام.
فأنت مثلا إذا سمعت حادثا حدث كمرض أو موت فسمعته من واحد شاهده وقال لك: شاهدت فلانا مريضا أو شاهدت فلانا عندما توفي، أو شاهدت البيت الفلاني وقد احترق أو قد انهدم، جزمت به؛ لأنه ليس بينك وبين هذا الحادث إلا واحد شاهده، لكن لو أن هذا الواحد الذي شاهده نقله لك عن خمسة قال مثلا : أنا ما شاهدته، ولكن أخبرني فلان وهو ما شاهده، ولكن أخبره فلان وهو أيضا ما شاهده، وإنما أخبره فلان ولم يشاهده أيضا، وأخبره فلان الخامس الذي شاهده، فكثرة الوسائط قد تُوقع الشك في هذا الحادث هل هو صحيح واقعي أم لا؟ لأن أحدهم قد يكون قاله مازحا غير مُجدّ في قوله، وقد يكون مخطئا على بعضهم، وقد يكون بعضهم قال: نقله لي فلان وهو مخطئ، وقد يكون بعضهم لا يعرف هذا الذي حدَّثه، إنما قال: يمكن أنه فلان، وليس جزما؛ فلأجل ذلك كثرة الوسائط يحصل بها وَهم وخطأ غالبا، فهذا هو السبب في أن قلة الرجال أقوى.
حكم الإسناد العالي والنازل:
ثم إن الحكم على السند بالنظر إلى الرجال، لا نحكم على السند عاليا أو نازلا إلا بعد النظر في رجاله، وقد يكون العالي رجاله ضعفاء، ويكون الإسناد النازل رجاله أقوياء، وقد يكون الإسناد العالي أضعف من النازل، رغم أن هذا عال ولكن في رجاله ضعف وهذا عال ورجاله ثقات، فلا تساوي بينهما .
مسألة>