إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة) اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) .       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. شرع الله تطهير هذه الأعضاء وغسلها وتنظيفها عند القيام إلى الصلاة أو عند وجود حدث؛ حتى يصير المصلي نظيف البدن، وحتى يحصل له النشاط والقوة، وحتى يقبل على الصلاة بصدق ومحبة ورغبة
شرح كتاب الحسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية
21016 مشاهدة
الاحتساب في المعاملات المحرمة (تابع)

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
ومن المنكرات تلقي السلع قبل أن تجيء إلى السوق، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك لما فيه من تغرير البائع، فإنه لا يعرف السعر فيشتري منه المشتري بدون القيمة، وبذلك أثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- له الخيار إذا هبط إلى السوق، وثبوت الخيار له مع الغبن لا ريب فيه، وأما ثبوته بلا غبن ففيه نزاع بين العلماء، وفيه عن أحمد روايتان: إحداهما: يثبت، وهو قول الشافعي والثانية: لا يثبت لعدم الغبن. وثبوت الخيار بالغبن للمسترسل وهو الذي لا يماكس هو مذهب مالك وأحمد وغيرهما.
فليس لأهل السوق أن يبيعوا المماكس بسعر ويبيعوا المسترسل الذي لا يماكس أو من هو جاهل بالسعر بأكثر من ذلك السعر هذا مما ينكر على الباعة.
وجاء في الحديث: غبن المسترسل ربا وهو بمنزلة تلقي السلع، فإن القادم جاهل بالسعر؛ ولذلك نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبيع حاضر لباد، وقال: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض وقيل لابن عباس ما قوله: لا يبع حاضر لباد ؟ قال: لا يكون له سمسارا، وهذا نهى عنه لما فيه من ضرر المشترين، فإن المقيم إذا توكل للقادم في بيع سلعة يحتاج الناس إليها والقادم لا يعرف السعر ضر ذلك المشتري، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض .


نعرف أن الشرع الشريف وصف بالتمام وبالكمال قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ونعرف أن الدين ليس هو مجرد العبادات والإتيان بالركعات وما أشبهها، بل دين الإسلام يتعلق بالحياة كلها وينظم الحياة الدنيا من حين يولد الإنسان إلى أن يخرج من الدنيا.
فجاء الإسلام بتنظيم حياته وبتدبيره وبما يكون له في اتباعه الخير والفلاح والسعادة. هذا هو الذي عليه الأمة وعلماء الأئمة ،ولكن وجد في هذه الأزمنة من يبعد الشرع عن مثل هذه الأمور يقولون: لا يتدخل الشرع في أمورنا، لا يتدخل الدين في دنيانا، دنيانا نحن أبصر بها نفعل ما نشاء في بيعنا وفي تجارتنا .. لا دخل للشرع في شيء من ذلك، ويكون عند هؤلاء الحلال ما حل بأيديهم، والحرام ما منعوا منه ولم يقدروا عليه. فهؤلاء بلا شك لم يعرفوا المصلحة التي تحصل من اتباع الشرع.
فمن ذلك ما ذكره الشيخ هاهنا؛ فإنه يذكر في هذه الرسالة الأشياء المنكرة التي يتولى تغييرها أهل الاحتساب الذين يتصدون للأمر بالمعروف وللنهي عن المنكر، وينكرون على من يتعاطى شيئا من هذه المنكرات سواء كانت تتعلق بالدين أو تتعلق بالدنيا.
فالذي يتعلق بالدنيا أو مثاله ما ذكر في هذا من الأمثلة: ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا تتلقوا الركبان فمن تلقاهم فاشترى منهم فلهم الخيار، ونهى عن تلقي الجلب، ويراد بالركبان الجالبون للسلع الوافدون إليها إلى البلاد لبيع تلك السلع في هذه البلاد لا تتلقوها قبل أن تصل إلى الأسواق.
وذلك لأن الذي يقدم عازما على البيع قد يكون جاهلا فإذا كان جاهلا بالسلع خدعه هذا الذي تلقاه، وأخبره بأن السعر رخيص فينخدع بذلك ويبيع بمجرد ما يحصل له أدنى ربح، وربما يبيع برخص أو بخسران. يتصور هذا فيمن يجلب البهائم كإبل أو بقر أو غنم أو دجاج مثلا أو نحو ذلك؛ إذا كان قصده بيعه في هذه البلاد فيتلقاهم إنسان إذا أقبلوا على البلد ويخبرهم بأن الدواب رخيصة وأنها لا تساوي كذا وكذا فيتمنون أن يبيعوا بأدنى شيء فيشتري منهم برخص، ثم يتبين لهم أنه خدعهم، وأنه غلبهم فيثبت لهم الخيار.
ويقول العلماء؛ بعضهم يقول: يثبت الخيار مطلقا حتى ولو لم يغبنهم غبنا كبيرا، وآخرون قالوا: لا يثبت إلا إذا كان هناك غبن وهذا هو الأقرب؛ وذلك لأن الخيار إنما يكون لمجرد غبن يحصل به التضرر.
فإذا غبنهم ورأوه يبيع سلعتهم بأكثر مما اشتراها منهم فيشتريها مثلا بمائة ويبيعها بمائة وعشرين وهم قد تعبوا عليها وجاءوا مثلا من مسيرة عشرة أيام أو عشرين يوما، عندما كانوا يسوقونها وهو ما ساقها إلا ساعة أو نصف ساعة ثم ربح فيها، وهم ما ربحوا.
لا شك أن هذا يسبب حقدا منهم عليه وبغضا له، كيف خدعهم وكيف غرر بهم وكيف أخذ تعبهم أو مصلحتهم، فيكون هذا مسببا في أنهم ينتزعونها منه، ويقولون: لا حق لك، أنت كذبت علينا وقلت: إن السعر رخيص.
يتصور أيضا في كل ما يمكن جلبه أو بيعه من السلع، فإذا جلبوا مثلا أطعمة كَبُرٍّ أو أرز مثلا أو نحو ذلك، وجاء إليهم قبل أن يصلوا واشترى منهم وخدعهم ثبت لهم الخيار، وكذلك إذا جلبوا خضارا أو فواكه وقابلهم قبل أن يصلوا إلى الأسواق واشترى منهم وأخبرهم بأن السعر رخيص، ثم باعوه وتمنوا أن يحصل لهم رأس المال أو خسران قليل، ثم باعوا وبعدما دخلوا الأسواق وجدوا أن السعر مرتفع؛ فلهم الخيار في أن يستردوا ما أخذوه منه وأن يردوا عليه ثمنه ويتولوا هم البيع ويأخذوا الربح مقابل أتعابهم.
هم قد يكونون هم الذين غرسوا الأشجار وبذروا هذه النباتات وسقوها زمنا طويلا وتعبوا في سقيها، ثم بعد ذلك جنوها ثم حملوها على سياراتهم أو على رواحلهم، ثم قطعوا بها مسافات طويلة، مع ذلك يذهب تعبهم وتكون أرباحهم لهذا الذي خدعهم واشترى منهم قبل أن يقدموا الأسواق، لا شك أن هذا من الظلم. وكذلك بقية السلع.
فالحاصل أن هذا يعتبر من ما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه ونقول: إنه مما يجب إنكاره من علم مثل ذلك وجب عليه أن ينكر، ويقول: هذا من المنكر الذي لا يقره الشرع والذي فيه ظلم وعدوان.
ومن ذلك أيضا ما ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض .
وصورة ذلك كما قال ابن عباس أن يكون له سمسارا؛ السمسار: هو من يسمى بالدلال الذي يبيع لغيره، فإذا قدم البادي -ويراد به الجالب للسلعة- ومعه سلع، وقصد بيعها ولم يقصد ادخارها ولا استعمالها ولم يقصد كنزها مثلا أو احتكارها، وجاء إليه أحد أهل البلد وأخذ منه تلك السلع، وقال: أنا أتولى لك بيعها وأعطيك ربحها كله أو آخذ بعضه، والناس محتاجون إلى مثل هذه السلع ويقصدون التوسع بها حتى يشتركوا في الانتفاع بها، فمثل هذا يؤخذ على يديه.
وشرطوا لذلك خمسة: شروط الأول: أن يجيء لبيعها لا لخزنها، الثاني: أن يكون جاهلا بالسعر، الثالث: أن يقصده صاحب البلد؛ لا أن يجيء إليه هو، الرابع: أن يكون عازما على بيعها في ذلك اليوم بما تساويه ولا يتأنى، الخامس: أن يكون الناس محتاجين إليها للتوسع فإنه إذا استبد بها واحد؛ ضيق على المواطنين، ولم يبع إلا بشيء يناسبه.
ويقال كذلك أيضا في بعض الناس؛ بعض التجار إذا قلت السلع في الأسواق وعرف أنها ما بقي منها إلا شيء قليل عند فلان وفلان وفلان ذهب وجمعها؛ اشترى الذي عند فلان والذي عند فلان والذي عند فلان ثم خزنها وكنزها إلى أن تنعدم من السوق، ثم بعد ذلك أعلن بيعها بما يريد وتصرف في الناس كما يريد، فأخذ في السلعة أربعة أمثال الثمن ما كانت تباع بعشرة يبيعها بأربعين أو بثلاثين، لا شك أيضا أن هذا من الظلم الذي نهي عن فعله محافظة على ما ينفع المسلمين وإبعادا عما يضرهم.
وكذلك أيضا من الأمثلة التفريق بين بيع المماكس وغير المماكس، غير المماكس يسمونه المسترسل الذي يكون جاهلا بالسعر ثم إن صاحب السلعة إذا عرض عليه السلعة وهو جاهل زادوا في الثمن عليه ولم يماكس، أو مثلا إذا منعوه من البيع استرسل، وأخذ يزيد ويزيد ويزيد إلى أن تصل السلعة إلى ثمن أكثر مما تساويه، فإذا قالوا له مثلا: هذا الثوب بعشرة وهو يساوي خمسة لم يقل أنزل كذا أو كذا أو كذا ولم يراجع بل أخذه بقولهم مع أنهم يبيعونه على غيره بنصف الثمن، أو إذا طلب سلعة قال مثلا: أريد أن أشتري منك هذا الثوب فقالوا بكم تشتريه فإذا قال مثلا: بخمسة قالوا: لا قال: بستة قالوا: لا بسبعة قالوا: لا، بثمانية ، ثم لا يزل يزيد ويزيد إلى أن وصلوها إلى ضعف الثمن أو بضعفيه؛ فيكون هذا أيضا من الغبن للمسترسل؛ فيثبت له الخيار كما ذكروا ذلك في أقسام الخيار.
وإن كان الواجب أن المسلم يحب لإخوته المسلمين ما يحبه لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه، فيدلهم على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم، فلا يجوز له أن ينظر إلى مصلحة نفسه فقط دون مصلحة غيره من العباد، لا شك أن مثل هذا يعتبر نفعيا بمعنى أنه لا يهمه ضرر غيره من المسلمين.
يدخل في ذلك ما سمعناه في كلام الشيخ رحمه الله أنه يقول: يجب على الباعة أن يسووا في بيعهم بين الجاهل والعارف؛ فإذا جاءهم العالم بالسلع أخبروه بالثمن الذي يعرفه فهو مثلا ثمن الكيس مائة وثمن الثوب عشرة، وأنه إذا زادوا عرف أن هذا فيه زيادة فيقول: لا، كيف يكون عندكم مثلا بمائة وعشرة وعند فلان بمائة وعند فلان بمائة قد اشتراه فلان، وقد اشتريناه قبل يومين أو قبل ثلاثة أيام بمائة أو نحو ذلك، فكيف زاد في هذا اليوم، وكيف تكون الزيادة عندك وحدك دون غيرك؛ يعرف ذلك.
فإذا جاءهم العارف أخبروه بالسعر الذي يبيعون به، وإذا جاءهم الجاهل زادوا عليه، فقالوا: إنه مثلا بمائة وعشرين بمائة وثلاثين أو ما أشبه ذلك، ثم يشتريه لأنهم صادقون، لا شك أن هذا من الضرر الذي نفاه الشرع في قوله -صلى الله عليه وسلم- لا ضرر ولا ضرار وفي قوله: من ضار مسلما ضاره الله فإذا حصل أنه ظلم وزيد عليه زيادة مخالفة للعادة ثبت له الخيار؛ أن يرد إليهم سلعتهم ويأخذ ثمنه، أو يطالبهم بما أخذوه من الزيادة عليه.
نستمع إلى الأسئلة.
س: هل ما يأخذه السمسار عند بيعه للبادي في مثل الحال السابقة الذكر حرام؟
لا شك أنه له حراما إذا اجتمعت الشروط؛ الشروط الخمسة فيكون فعله حراما، أما إذا أخذ أجرة تناسبه بقدر سعيه وبقدر عمله، فلا تكن الأجرة حراما، وإنما الفعل الذي هو السمسرة.