شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه لا بأس أن يكتب المسلم اسمه في طرة المصحف (جانبه) مخافة اشتباه مصحفه بغيره، فقد لا يناسبه إلا مصحفه المخصص له، ولا بأس أن يكتب بعض الفوائد على الهوامش كتفسير كلمة أو سبب نزول أو ما أشبه ذلك.       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه.
شرح كتاب الحسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية
20937 مشاهدة
بحث في: وجوب التناصح بين المسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وفي الجملة فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء الذي جنسه حلال حتى يعلم البائع بالسعر -وهو ثمن المثل- ويعلم المشتري بالسلعة، وصاحب القياس الفاسد يقول: للمشتري أن يشتري حيث شاء، وقد اشترى من البائع كما يقول: وللبادي أن يوكل الحاضر.
ولكن الشارع رأى المصلحة العامة، فإن الجالب إذا لم يعلم السعر كان جاهلا بثمن المثل فيكون المشتري غارًّا له؛ ولهذا ألحق مالك -رحمه الله تعالى- وأحمد بذلك كل مسترسل، والمسترسل الذي لا يماكس، والجاهل بقيمة المبيع فإنه بمنزلة الجالبين الجاهلين بالسعر؛ فتبين أنه يجب على الإنسان أن لا يبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف وهو ثمن المثل، وإن لم يكن هؤلاء محتاجين إلى الابتياع من ذلك البائع، لكن لكونهم جاهلين بالقيمة أو مسلمين إلى البائع غير مماكسين له.
والبيع يعتبر فيه الرضا، والرضا يتبع العين، من لم يعلم أنه غبن فقد يرضى وقد لا يرضى، فإذا علم أنه غبن ورضي فلا بأس بذلك، وإذا لم يرض بثمن المثل لم يلتفت إلى سخطه؛ ولهذا أثبت الشارع الخيار لمن لم يعلم بالعيب أو التدليس، فإن الأصل في البيع الصحة وأن يكون الباطن كالظاهر، فإذا اشترى على ذلك فما عرف رضاه إلا بذلك.
فإذا تبين أن في السلعة غشا أو عيبا فهو كما لو وصفها بصفة وتبينت بخلافها، فقد يرضى وقد لا يرضى، فإن رضي وإلا فله فسخ البيع، وفي الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما .
وفي السنن: أن رجلا كانت له شجرة في أرض غيره، وكان صاحب الأرض يتضرر بدخول صاحب الشجرة، فشكى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقبل منه بدلها أو يتبرع له بها، فلم يفعل، فأذن لصاحب الأرض في قلعها، وقال لصاحب الشجرة: إنما أنت مضار.
فهنا أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يبيعها فدل على وجوب البيع عند حاجة المشتري، وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى الطعام؟! ونظير هؤلاء الذين يتجرون في الطعام بالطحن والخبز، ونظير هؤلاء صاحب الخان والقياسرية والحمام إذا احتاج الناس إلى الانتفاع بذلك، وهو إنما ضمنهما ليتجر فيها.
فلو امتنع من إدخال الناس إلا بما شاء وهم يحتاجون لم يمكّن من ذلك، وألزم ببذل ذلك بأجرة المثل، كما يلزم الذي يشتري الحنطة ويطحنها ليتجر فيها. والذي يشتري الدقيق ويخبزه ليتجر فيه مع حاجة الناس إلى ما عنده، بل إلزامه ببيع ذلك بثمن المثل أولى وأحرى، بل إذا امتنع من صنعة الخبر والطحن حتى يتضرر الناس بذلك الناس ألزم بصنعتهما كما تقدم.
وإذا كانت حاجة الناس تندفع إذا عملوا ما يكفي الناس؛ بحيث يشتري إذ ذاك بالثمن المعروف لم يحتج إلى التسعير، وأما إذا كانت حاجة الناس لا تندفع إلا بالتسعير العادل، سعر عليهم تسعير عدل لا وقس ولا شطط.


سمعنا كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- في هذه الرسالة التي هي رسالة الحسبة وأراد بذلك أن المسلمين يلزمهم أن يكونوا إخوة كما أمرهم الله به، وأن ينصح بعضهم لبعض، وأن يحب المسلم لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، ويلزمه أن يواسي أخاه بحسب القدرة، ولا يستغل غفلته وسذاجته ويأخذ منه ما فيه مصلحة خاصة، وعلى أخيه مضرة عامة أو خاصة؛ ودليل ذلك الآيات والأحاديث، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أي مثل الإخوة الذين هم أولاد رجل واحد؛ لأنهم يجتمعون في هذا الإيمان، وقال تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا أي: بعد أن اعتنقتم هذا الدين صرتم متآخين بنعمة الله تعالى على هذا الإسلام، وقال تعالى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فسماه أخًا له، وقد يكون بعيدا في النسب ولكنهم جميعا من أهل الإيمان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه .
وكذا قال صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه فسماه أخاه، والمراد أخاه في الدين -أخوه المسلم-.
وذلك لأنه بهذه الإخوة ينصح لأخيه، ويدله على الخير؛ سواء ما يتعلق بالدين أو ما يتعلق بالدنيا، ينصح له ويبين له الخير حتى يسلكه.
تكلم على بعض الأمثلة التي توجب نصح المسلم لأخيه؛ ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تلقوا الجلد أو لا تلقوا الركبان فمن تلقاهم فاشترى منهم فإن لهم الخيار إذا هبطوا الأسواق إن شاءوا أمضوا وإن شاءوا ردوا أو كما قال.
هذا مثال لواجب المسلم على إخوته؛ أنّ عليه أنْ ينصح لهم، إذا قدم الجالبون للسلع؛ أيًّا كانت تلك السلع المجلوبة، يجهلون السعر، تلقاهم إنسان يعلم السعر فاشترى منهم برخص، فإنه -والحال هذه- يكون قد خدعهم وخذلهم واستبد بالمصلحة لنفسه وأضرهم.
قد جاءوا من مكان بعيد، وقد جلبوا ما معهم لقصد الربح ولقصد المصلحة، فإذا جاء إليهم خارج البلد واشترى منهم ولم يخبرهم بحقيقة السعر الذي عليه الأمر في الأسواق، فباعوه ظنًّا منهم أنه ناصح، وأنه صادق فيما أخبرهم به وفيما طلب منهم، فإنهم -والحال هذه- لهم الخيار بعد أن يعرفوا السعر في الأسواق، فهذا مثال.
كذلك أيضا ألحق به العلماء المسترسل -وهو الجاهل بالسعر- يأتي إلى صاحب السلعة في خانه، في دكانه، ويستعمل منه ثوبا أو نعلا أو كيسا أو سلعة يجهل سعرها، فصاحب السلعة لا يخبره بالسعر الحقيقي فيطلب منه يقول: بعني بعشرة، فيقول: لا أبيعك، فيزيد واحدا واثنين وثلاثة ولا يزال يزيد، كلما قال: لا أبيعك زاد، فقد يتضاعف الثمن، يكون أو يصل إلى الثمن مرتين.
إذا علم بعد ذلك فإن له الخيار، كان الواجب على صاحب السلع أن يخبره، وأن يبين له السعر الحقيقي، ولا يزيد عليه وهو يعلم أنه جاهل بالأثمان.
المسترسل هو الذي لا يحسن يماكس، إذا أخبر بالسلعة اشتراها بما يقول صاحبها، ولو كان قد زاد عليه، والواجب على أصحاب السلع أن يبيعوا الجاهل كما يبيعوا العالم، أما الذين يأخذون من الجاهل أكثر فإنهم يعتبرون قد خدعوه وما نصحوا له.
فالكثير من الباعة -هداهم الله- إذا جاءهم من يعرف السعر أخبروه بالسعر الحقيقي الذي يبيعون به عادة، وإذا جاءهم الجاهل زادوا عليه بالنصف أو بالثلث، ففي هذه الحال إذا علم فإن له الخيار.
وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم خيار المجلس، وكذلك حث المسلمين والمتبايعين على النصيحة وعلى البيان، في هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما يعم هذا البائع والمشتري؛ أن كلا منهما عليه الصدق وعليه البيان.
فالمشتري مثل الذي يتلقى الركبان يشتري منهم رخيصا لا يخبرهم بحقيقة السعر، يكون خادعا وكاذبا، عليه أن يصدق إذا سألوه كم تساوي هذه الدواب، إذا كان الجلب مثلا أغناما أو إبلا، كم تساوي، عليه أن يصدقهم يقول: تساوي كذا وكذا.
وكذلك البائع لو باع عليهم، إذا كانوا قادمين قبل أن يصلوا فباع عليهم طعاما أو باع عليهم أكسية، وزاد عليهم وسألوه كم يبيع الناس، فأخبرهم بأنهم يبيعون بكذا وهو كاذب زاد عليهم، فهذا لم يأتِ بالنصيحة الواجبة للمسلم. الواجب أن المسلم ينصح لإخوته ولا يستبد بالمصلحة دونهم. وهكذا جميع الأمثلة.
هناك بعض الناس إذا رأى أن هذا النوع من السلع قل في الأسواق حرص على أن يجمع ما في الأسواق، وما عند الناس من هذه السلع من هذه المعلبات أو هذه الأكسية أو نحوها، ثم إذا جمعها واشتراها استقل ببيعها، وتمكن من أن يبيع كيف يشاء ولم يرفق بالمستهلكين الذين يشترون لحاجاتهم، ولا شك أن هذا إضرار بالمسلمين.
وقد أثبت العلماء الخيار للغبن ؛ إذا غبن الإنسان في سلعة فإن له الخيار؛ بأن يرد السلعة ويأخذ الثمن، أو يصطلح على ثمن مناسب، إذا كان ذلك قد زاد عليه.
واختلف في قدر الزيادة، والأكثرون قدروها بالثلث، قالوا: إذا كان يبيع الكيس بمائة وباعك بمائة وثلاثين زادك الثلث؛ يبيع الثوب بعشرة وباعك .. باع على غيرك بعشرة وعليك بثلاثة عشر علمت بذلك ترده وتأخذ دراهمك، وتقول: إني مغبون، هذا غبن يضر المشتري، ويسمى هذا خيار الغبن الذي يخرج عن العادة.
وأما إذا كان يسيرا فإنه مما يتسامح فيه، إذا كان يبيع غيرك بمائة وباعك بمائة وعشرة، فمثل هذا قد يتسامح فيه، ومع ذلك على المسلم أن ينصح لإخوانه وألا يضرهم، وإذا وقع أن هناك ضرر وإضرار بالمسلم في أخذ شيء زائد عليه رُجع إلى أهل المعرفة، وقيل لهم: قدروا هذه السلعة، فيقدرونها بالثمن المناسب، لا زيادة ولا نقص، لا وكس ولا شطط، ثم يُخيّرون المشتري، ويكون له الخيار يسترد الزيادة من الثمن أو يرد السلعة كلها ويأخذ الثمن.
هناك بعض الناس إذا علم أن هذه الأرض تأتيها الرغبة أو يفتح عليها طريق، وسوف يرتفع سعرها ارتفاعا زائدا اهتبل غفلة أهلها، وجاء إليهم واشتراها بسعر رخيص، وأخبرهم بأن هذا السعر الذي تناسبه، ثم يبيعها إذا وصلت إليها الرغبات والخدمات بعد سنة أو نصف سنة بأضعاف الثمن؛ قد يشتريها بعشرة آلاف ويبيعها بمائة ألف أو نحو ذلك، وهذا من الغش الذي حرمه الله تعالى، وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين بأن يكونوا متناصحين.
إذا علمت بأنها سيرتفع سعرها فأخبر صاحبها ولا تخدعه، وهكذا إذا علمت أنها ستنزل قيمتها، وجاءك من يشتري فلا تبعه بسعر رفيع وأنت تعلم أنها في نزول، بل أخبره بذلك فإن شاء اشترى وإن شاء ترك.
وبالجملة فإن الواجب على المسلم أن ينصح لإخوانه المسلمين، وأن يحرص على أن يبيعهم كما يبيع غيرهم، ويشتري منهم كما يشتري من غيرهم لا زيادة ولا نقص.
بعض الناس يزيد في السلعة، إذا جاءه إنسان ليشتري منه مثلا عباءة أو عمامة وهو يعلم أنه جاهل رفع عليه السعر، لماذا ترفع السعر؟ قال: لأنه سوف يرد وسوف يماكس وسوف ينزل، حتى لو أخبرته، لو كان سعرها عشرة وقلت له بعشرة لطلبها بثمانية أو بتسعة، فأنا أقول: بخمسة عشر حتى إذا طلب التنزيل نزل إلى العشرة الذي هو سعرها، ثم يأتيه الجاهل وإذا قال بخمسة عشر اعتقد صدقه وبذل له ما طلب، فيأخذ ثلث الثمن أو نصف الثمن، يأخذ الزيادة نصف بدل ما هو عشرة يزيد نصف العشرة، لا شك أن هذا لا يجوز؛ وذلك لأنه -والحال هذه- زاد عليه عن غيره.
أما إذا جاءه الذي يعرف أخبره، وقال بعشرة، وهكذا كثير من الذين يبيعون بالأمتار، تأتي إلى أحدهم المرأة الجاهلة فيرفع سعر المتر إلى عشرين وإلى أربعين، وتأتي إليه المرأة العارفة والتي تعرف السعر يخبرها بالسعر الحقيقي أن السعر المتر بعشر أو بثمانية، والجاهلة قد تصدقه إذا قال بثلاثين فتماكس حتى ينزل لها عشرة فتشتري بعشرين بينما هو يبيع بعشرة.
وهكذا فالواجب على المسلم أن لا يضر إخوته المسلمين بمثل هذه المصالح التي هي مصالح خاصة نافعة له وضارة لغيره. والله أعلم .