إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به)    عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة)       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة القلوب أوعية؛ منها ما يستوعب الخير، ومنها ما يستوعب الشر. وأفضل القلوب هي التي تمتلئ بالخير،تمتلئ بالعلم وتمتلئ بالدين والعبادة، تمتلئ بالعلم النافع والعقيدة السليمة، هذه هي القلوب الواعية، وهي أرجى القلوب لتحصيل الخير
شرح كتاب الحسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية
20081 مشاهدة
فصل: في كيفية الثواب والعقاب

قال -رحمه الله تعالى- فصلٌ: الثواب والعقاب.
الثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قدر الله وفي شرعه، فإن هذا من العدل الذي تقوم به السماء والأرض؛ كما قال الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا وقال سبحانه: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من لا يرحم لا يرحم وقال: إن الله وتر يحب الوتر وقال: إن الله جميل يحب الجمال وقال: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وقال: إن الله نظيف يحب النظافة .
ولهذا قطع يد السارق، وشرع قطع يد المحارب ورجله، وشرع القصاص في الدماء الأموال والأبشار. فإذا أمكن أن تكون العقوبة من جنس المعصية كان ذلك هو المشروع؛ بحسب الإمكان.
مثل ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شاهد الزور: أنه أمر بإركابه دابة مقلوبا وتسويد وجهه، فإنه لما قلب الحديث قلب وجهه، ولما سود وجهه بالكذب سود وجهه، وهذا قد ذكره في تعزير شاهد الزور طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم.
ولهذا قال الله تعالى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا وقال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى .
وفي الحديث: الجبارون والمتكبرون على صورة الذر يطأهم الناس بأرجلهم فإنهم لما أذلوا عباد الله أذلهم الله لعباده، كما أن من تواضع لله رفعه الله، فجعل العباد متواضعين له، والله تعالى يصلحنا وسائر إخواننا المؤمنين ويوفقنا لما يحبه ويرضاه من القول والعمل وسائر إخواننا المؤمنين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .


هاهنا تكلم عن العقوبة وعلى العفو وذلك عند المقدرة على العاصي، وعند التمكن من عقوبته؛ فإن للإنسان أن يعفو ويصفح وله أن ينتقم ويأخذ بالثأر، فإذا أخذ بحقه فلا يلام، وإذا عفا وأصلح فهو خير.
ولهذا أباح الله تعالى الأخذ بالثأر والعقوبة للمعتدي، ويعتبر البادي أظلم؛ فمن ذلك قول الله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فأباح العقوبة المماثلة؛ يعني التي هي القصاص؛ بمعنى أن من اعتدى على أحد فله أن يأخذ بالثأر، مباح له ذلك ولا حرج عليه أن يصفع من صفعه، ويضرب من ضربه، ويجرح من جرحه، ويشج من شجه، وتقطع اليد باليد أو الجارحة بالجارحة. فذلك من باب الانتقام ومن الاقتصاص.
وكذلك قال تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ هكذا أخبر بأنه يجوز الاقتصاص، يجوز أن يقتص مِنْ مَنْ اعتدى عليه.
فيقطع الأنف بالأنف، وتقطع الأذن بالأذن، وتقطع السن بالسن، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الإصبع بالإصبع، وتقطع اليد باليد أو الرجل بالرجل.
يعني: الجوارح التي فيها مماثلة إذا طلب القصاص فإنه يمكن، ويقتص له، وأعلى شيء النفس، إذا قتل إنسانا استحق أن يقتل ذلك القاتل إذا طلب ذلك أولياء المقتول، وهذا هو الاقتصاص.
ثم رغب في العفو بقوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ أي: من تصدق بهذا الجرح أو بهذا العضو فهو كفارة له؛ أي فله كفارة على هذه الصدقة، وهذا العفو.
وفي الآية الأخرى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ أي: إذا عفا عن القصاص إلى الدية فعلى أولياء القاتل أن يدفعوا الدية بالمعروف؛ يؤدونها إلى ورثة المقتول؛ حيث عفوا عن القصاص.
وكذلك لما أمر بالدية في قوله تعالى: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا وهذا ترغيب في أن يتصدقوا؛ يتصدقوا بالدية ويعفوا عن القتل إذا لم يكن فيه قصاص.
فهذا ترغيب في هذا العفو، ترغيب لأولياء القتيل أن يقتصروا على الدية، وترغيب لأهل الدية أن يتصدقوا بها، وأن يعفوا عن أهلها الذين لزمتهم.
وكذلك أيضا ترغيب في العفو المطلق؛ وذلك لأن بهذا العفو وبهذا التصدق تحصل الصداقة، وتثبت الأخوة، وتثبت المودة، وتزول الإحن والبغضاء، ويعودون إخوة كما كانوا قبل ذلك.
لا شك أن من اعتدى على إنسان فقتله فإن لأولياء القتيل أن يطلبوا القصاص، ولا شك أنهم متى قتلوا القاتل، فإن بعد قتله تقع العداوة بينهم وبين أولياء هذا القاتل، وذلك لأنهم هؤلاء يقولون قتلتم أخانا، وهؤلاء يقولون قتلتم أخانا، فيكون بينهما مقاطعة ومعاداة وحروب وخصومات دائمة، وتدوم هذه المقاطعة إلا ما شاء الله.
فإذا وفقهم الله واصطلحوا وعفوا عن القتل وقبلوا الدية وسمحوا عن إراقة دم ذلك القاتل كان هذا صلحا فيه خير، وكان سببا لبقاء الأخوة ولصفاء القلوب.
وهكذا إذا قتل إنسان أخاه خطأ؛ إذا قتل مسلما خطأ، ثم كلفه أولياء القتيل بالدية ودفعها فإن ذلك يثقل كاهله، ويثقل أيضا كاهل عاقلته؛ فيقع في قلوبهم شيء من الكراهية لهذا القاتل أو لهؤلاء الذين كلفوا بدفع الدية فيقع بينهما مقاطعة ونزاع.
أما إذا وفقهم الله وعفوا وتنازلوا عن الدية، وقالوا: نعرف بأنك مخطئ غير متعمد فإنهم بلا شك يتسامحون ويصطلحون ويصيرون إخوة كما كانوا من قبل، ويكون هذا أيضا في كل مظلمة من المظالم الحقوقية.
إذا قدر مثلا أن إنسانا شتم إنسانا وعابه، لا شك أنه حق في أن يعيبه وأن ينكر عليه وأن يسبه، ولكن رغّب الله تعالى في العفو والصفح في قول الله تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا .
تعرفون أن هذه نزلت في أبي بكر -رضي الله عنه- ذكره الله تعالى بأنه من أهل الفضل أولي الفضل وأولي السعة؛ أي ممن عنده سعة في الرزق أولي الفضل وأولي السعة.
وسبب نزولها أنه كان ينفق على قريب له يقال مسطح بن أثاثة كان من المهاجرين الفقراء، ولما قذف أهل الإفك عائشة -رضي الله عنها- كان من جملة الذين اشتغلوا بهذا الإفك وتكلموا فيه، فلما تكلموا فيه وتكلم معهم استاء أبو بكر كيف أن أنفق عليه وهو مع ذلك يرمي ابنتي بهذا الإفك، إن هذا لهو الظلم، لا جرم لا أنفق عليه، عزم على أن يقطع النفقة عنه، فلما قطعها عاتبه الله وَلَا يَأْتَلِ أي لا يحلف أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ترغيب في العفو وفي الصفح عن هذه الزلة، مع أن فيها شيئا من الاعتداء على الأعراض، ومع أنه إفك فعلوه وكذب تقولوه.
لا شك أن هذا ترغيب في العفو عمن أخطأ وظلم واعتدى وتجاوز الحد ووقع في هذا الذنب، أنه يكون ظالما، ولكن إذا كان قد خيل إليه أو زين له أو انخدع بكثرة من قال ذلك فإنه يعذر بذلك ويصفح عنه ويعفى عن ما حصل منه، ويكتفى بالحد الذي أقيم عليه حدا شرعيا، هذا ترغيب في العفو.
أما إذا طلب الإنسان الأخذ بالثأر فإن له ذلك أيا كان ذلك الاعتداء، قال الله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ أي لكم الأخذ، وسمي القصاص اعتداء؛ لأنه مقابلة للاعتداء فليس هو عدوانا، ولكنه مقابلة للعدوان بمثله فسماه الله تعالى اعتداء، وإنما هو اقتصاص وأخذ بالحق.
وكذلك قول الله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا سمى الله الثانية سيئة، مع أنها اقتصاص ومع أن السيئة هي عمل السوء، ولكن لما كان الأول قد أساء العمل قد ظلم أو بهت أو كذب أو أضر أو ضرب أو اعتدى أو قذف كان عمله سيئة يعاقب عليها في الآخرة، فإذا طلب صاحب فإذا طلب المظلوم الاقتصاص فجزاؤه يصير شيئا سيئا، ولكن لا يكتب عليه ذنب؛ لأنه أخذ بالثأر أخذ بحقه، هذا هو الاقتصاص، ولكن مع ذلك قال: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ من عفا عن تلك السيئة وأصلح حالته فله أجر كبير أجره على الله تعالى الذي لا يضيع أجر من أحسن العمل.
لا شك أن هذا ترغيب في الإحسان مع إباحة الاعتداء ومع إباحة الأخذ بالثأر، إباحة أخذ الإنسان بحقه من الاقتصاص ونحوه، ومع ذلك وردت الأدلة في العفو والصفح؛ ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك يعني إذا خانك إنسان فهل تقول أخونه كما خانني؟! إن هذا يعتبر فيه شيء من نوع الإساءة فالأولى أنك تصفح وتعفو ويقول الشاعر:
إذا أنت جازيـت المسـيء بفعلـه
ففعلـك مـن فعل المسيء قريـب
إذا أنت جازيت المسيء بفعله؛ يعني بإساءة فإن إساءتك تصلح أو تسمى إساءة، ففعلك قريب من فعله؛ أي ففعلك إساءة كما أن فعله إساءة، أما إذا عفوت وصفحت وتسامحت فإنك تكتسب مودته وتكتسب الأخوة وتكتسب أيضا منحة وثناء وأجرا كبيرا على هذا العفو وعلى هذا التجاوز، لما في ذلك من الصفح عن الخطأ ومن التجاوز عن هذا الخطأ ونحوه.
وهذا يكون في حقوق العباد فيما بينهم؛ يعني إذا ظلمك إنسان فلا تظلمه بل اعف واصفح، وكذلك إذا ضربك فلا تضربه اعف عنه واصفح، وإذا بهتك أو كذب عليك فلا تجازه بمثل ذلك، بل عليك أن تعفو وتصفح وتتجاوز عن ذلك، وتكتسب بذلك الأجر الكبير عند الله تعالى فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وكذلك إذا تعدى عليك أو على أحد أهلك تعدى بسب أو بشتم أو عيب أو سلب أو قدح في عرض أو إساءة إليك بأي نوع من الإساءة، حتى ولو وصل إلى ضرب أو قطع طرف أو ما أشبه ذلك.
لا شك أن هذا يعتبر من الإساءة، ويكون المجازاة بمثله إساءة أخرى، وأما العفو والصفح والتجاوز فإنه إحسان يكتسب العافي شهرة عند الناس، فيقال: فلان كثير العفو والتسامح والتغاضي؛ ظلمه فلان فعفا عنه، أساء إليه فلان فأحسن إليه وأحسن إلى من أساء إليه، يكتسب سمعة طيبة عند الناس، لو سلك الناس هذا لما كثرت الخصومات التي تسبب كثرة النزاع.
المشاهد أن هناك نزاعات كثيرة ومرافعات عند القضاة ونحوهم، وأن هذه المرافعات أسبابها طفيفة إما ضربة أو كلمة، تسببت تلك الكلمة في كلمات وتسببت الكلمات في ضرب واعتداء، ووصل ذلك إلى إراقة الدماء وإلى القتل لنفس أو نفوس أو نحو ذلك، أو يكون سببها أخذ شيء من المال قليل القيمة ومع ذلك أهميته قليلة، ولكن مع ذلك أكثروا من التشدد في الطلب إلى أن حصل القتال فيما بينهم، وإراقة الدماء بأمور تافهة لا قيمة لها.
فالحاصل أن العفو والصفح هو طريقة أهل السنة وأهل الخير هم الذين يعفون ويصفحون، وإذا طلبوا الأخذ بالثأر فلا يلامون على ذلك لهم الأخذ بالثأر، ولكن يترتب على ذلك مقاطعات وشحناء وعداوة وبغضاء تبقى مدى الحياة، ثم يعتبر هذا في غير الحدود.
أما الحدود الشرعية فلا يجوز التغاضي فيها بل لا بد من إقامة حدود الله، فإذا مثلا كان هذا الإنسان فعل فاحشة الزنا فلا يتسامح عنه، أو فاحشة اللواط إتيان الذكور؛ فلا يعفى عن مثله، أو كذلك شرب الخمر أو تعاطى مسكرا فلا ينبغي أن يعفى عن مثل هذا؛ لأن هذا حد من حدود الله تعالى، وهكذا إذا عرف بالسرقة أخذ الأموال من حرزها بغير حق فلا ينبغي العفو عن مثل هذا، بل تقام الحدود ليترتب على إقامتها أمن البلاد، وأمن العباد، والسلامة على الأعراض، والسلامة على الأموال وعلى الأنفس وعلى الأديان وعلى الأبدان، فإن الله تعالى شرعها لأجل حصول الأمن والحياة السعيدة فيما بين الناس وأمنهم على أموالهم وعلى حقوقهم وعلى حدودهم؛ وبذلك إذا أقاموا هذه الحدود صلحت دنياهم وصلحت آخرتهم، وصلحت أبدانهم وأحوالهم.
فالحاصل أن هذه الحقوق تنقسم إلى: حقوق لله تعالى وهي الحدود فهذه لا بد من إقامتها، وأما حقوق الآدميين من اعتداء على مال أو عرض أو بدن أو نحو ذلك فهذه هي التي يندب العفو فيها والصفح، إذا كان هذا العفو يسبب صلحا وأمنا وأخوة وثبات أخوة وتصالح فيما بين الناس وتعاون على الخير وتعاون على البر والتقوى، فالعفو والصفح وسيلة إلى ذلك، والله أعلم وصلى الله على محمد نستمع إلى الأسئلة.
أسئـلة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
س: سائل يقول: ما الحكم في إعطاء العامل إضافة إلى راتبه الشهري نسبة معينة غير الراتب، وذلك على حسب المبيعات التي يقوم بها شرط أن تصل المبيعات إلى حد معين كأن يعطيه خمسة بالمائة إذا وصلت المبيعات إلى خمسين ألفا ولا يأخذ نسبة إذا كان الدخل دون ذلك؟
نرى أن هذا جائز، إذا كان ذلك العامل مأمونا فإنه ينصح بعمله ولا يحتاج إلى أخذ نسبة؛ لأنه يأخذ أجرته التي هي مرتبه، ولكن قد يقول صاحب الحق أو صاحب المال: إني أريد أن يضاعف جهده وأن يبذل جده، وأن يزيد في الاجتهاد في توريد هذه السلع وفي بيعها؛ فيزيد في وقت الدوام أو نحو ذلك فأعطيه نسبة، أنك إذا بعت بكذا فلك خمسة في المائة زيادة على مرتبك له ذلك.
س: سائل يقول: رجل استأمنني على ماله وتجارته سنين عديدة، وفي ذات مرة استلمت مبلغا من المال قيمة إيجار لمكان خاص به، واستلمت هذا المبلغ بعلمه ثم طلب مني أن أبقي هذا المال معي لشراء أغراض خاصة بابنه، وكنت قد أودعت هذا المال في حسابي حفاظا عليه حتى يأتي ابنه وأشتري له ما يريد، ثم اتصل ابنه فقال سآتيك اليوم في المساء لتقوم بشراء الأغراض، فسحبت هذا المبلغ ووضعته في جيبي ثم اتصل علي آخر النهار واعتذر عن عدم الحضور لظروفه الخاصة، وكان ذلك يوافق سفرا لي وانتهاء دوام البنوك، وفي نفس الوقت طرأ علي عمل خارج البلاد وهذا العمل خاص بتجارة الرجل نفسه، فذهبت مسرعا من جدة إلى مكة وصليت المغرب في الطريق، ثم أدركتني صلاة العشاء بجوار الحرم فدخلت الحرم لأصلي العشاء، فقدر الله أن سرقت مني حافظتي في الحرم دون أي تقصير أو إهمال مني، وكان بها أوراق رسمية، وهذا المبلغ المشار إليه ومبلغ يخصني، وسؤالي هل أن ضامن لهذه الوديعة، وهل يحق له أن يخصم علي هذا المبلغ من مرتبي؟
نرى أنه يذهب على صاحبه؛ لأنك أمين ومن كان أمينا مؤتمنا فإنه لا يغرم، لا يغرم ما ذهب من حرزه، وأنت قد وضعته بجيبك في حرز، وإذا اختلس أو سرق فأنت ما أهملت ولا فرطت. الغرم على من فرط أو على من أهمل أو تعدى، فاعتذر إليهم وأخبرهم بأنه قد ذهب وذهب معه لي أوراق رسمية ونحوها، وليس لي حيلة في استرجاعها إلا أن يشاء الله. نعم.
س: فتاة تزوجت وهي في المرحلة المتوسطة هل يجوز لها استخدام موانع الحمل لغرض مواصلة الدراسة؟
أرى أنه لا يحق ذلك، وأن لها أن ترضى بما قدر الله، والدراسة ليست شرطا في تمام الحياة أو في سعادتها، وإذا قدر الله لها الحمل والولادة فعليها أن تقوم بذلك، ويمكن أن لا يردها عن الدراسة.
س: قال صلى الله عليه وسلم: إن الله وتر يحب الوتر هل يؤجر المسلم إذا قطع جميع أعماله على وتر، ومن أمثال ذلك الأكل والشرب إلى آخره؟
ما ورد إلا في أشياء مخصوصة؛ ورد في الصلاة أن المغرب وتر النهار، وأن في الليل صلاة وتر، يسن أن تكون في آخر التهجد، وورد أيضا في الاستجمار من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج وإذا عمل مطلقا بهذا الحديث إن الله وتر يحب الوتر فاستحب مثلا أن يكون أكله وترا فله أجر على ذلك، كما ورد في الحديث: أنه في يوم العيد عيد الفطر يأكل تمرات وترا قبل أن يذهب إلى المسجد يعني إلى صلاة العيد يأكل ثلاثا أو خمسا أو سبعا وترا، فيقتصر على ما ورد.
س: سائل يقول: خرج من المنزل ووجد ابنة أخيه عند السيارة تلعب وهي بنت ثلاث سنين فأخذها وذهب بها إلى البيت لأمها ثم سلم على أهله قبل خروجه، وخرج لسيارته الشاحنة وما أن حرك السيارة إلا وصوت البنت تحت عجلات السيارة وقد فارقت الحياة، والسؤال هل هذا القتل الخطأ يعتبر فيه والدي مفرطا أم لا؟ وهل تلزمه الكفارة في كلتا الحالتين أم لا؟ وإن لزمته كفارة عتق رقبة فكيف الحصول عليها علما أن والدي لا يستطيع صيام شهرين متتابعين؟
نرى أن عليه لا يحرك السيارة حتى يتثبت ويتحقق فإن الأطفال ينتشرون بسرعة فعليه أن ينظر قبل أن يحرك سيارته، وأن يسأل من حوله، ففي هذه الحال عليه الدية وعليه الكفارة، وإذا عفوا عن الدية لم تسقط الكفارة؛ عليه أن يعتق رقبة، فإذا لم يجد فيصوم شهرين متتابعين، العتق يوجد في بعض البلاد الإفريقية في دولة موريتانيا ولكن يكون بطرق خفية بأن يكتب إلى مكتب الدعوة هناك مكتب تابع للمملكة، وهناك يبحثون ويخبرونه وقيمته نحو خمسة آلاف إلى عشرة آلاف. نعم.
س: هل مس الجثث أثناء التشريح ناقض للوضوء سواء كان ذلك لجثة امرأة أم جثة رجل، وسواء كان ذلك مباشرة باليد أو من وراء حائل كالقفازين، فإن كان ينقض الوضوء، فهل الحائل يجزئ؟ وإن كان لا ينقض الوضوء إلا بمس العورة، فما حد العورة بالنسبة للجنسين؟
الذي ذكر العلماء: تغسيل الميت أنه ينقض الوضوء، وأنه يستحب لمن غسله أن يغتسل، ورد فيه حديث من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله- يعني احتضنه– فليتوضأ هكذا ورد، ثم قالوا: إن ذكر الغسل للاستحباب، وأن الوضوء للوجوب، فقالوا: أقل ما فيه الوضوء والمراد بالتغسيل الذي يباشره يدلك جسده ويباشر جسده بيده أيا كان ذلك التغسيل، بخلاف الذي يصب الماء صبا فلا يدخل فيمن غسله، ولعل هذا أيضا للاستحباب إلا أن يمس عورته.
وذكروا أن المغسل يستحب له أن يعد خرقة يلف بها على يده ينجيه بها؛ أي يغسل عورته، وخرقة أخرى يغسل بها بقية جسده حتى لا تباشر يده جسد الميت، ومع ذلك فإن الوضوء على الصحيح ليس بواجب، وإنما هو مستحب أو مؤكد، وأما مجرد اللمس بدون حائل ليس لمس تغسيل فالصحيح أنه لا ينقض الوضوء.
س: في هذا الزمان انتشر وكثر قتل المسلمين في كل مكان، وكذلك موت العلماء والصالحين، وكذلك قلة الأمطار وظهور الأمراض وضعف المسلمين وهوانهم على أعدائهم، فهل من كلمة ووصية للمسلمين؟ وهل هذه من علامات الساعة الصغرى؟
نقول: إن هذا تذكير وتنبيه وموعظة للمؤمنين؛ يذكرهم الله تعالى، أو أنه عقوبة على ما فعلوا، أو على ذنوب اقترفوها سواء كبيرة أو صغيرة.
فإن هذه المعاصي التي انتشرت لا تؤمن العقوبة عليها؛ بتسليط الأعداء على بلاد المسلمين وعلى إخراج الإسلام والمسلمين، وتهديدهم للبلاد الأخرى، أو بكثرة الأمراض التي تنزل عليهم إذا فعلوا هذه المحرمات ولا يجدون لها علاجا، أو بقلة الخيرات؛ حبس الأمطار وتأخرها وهزال الدواب وموتها جوعا، أو تكلف أهلها في تعليفها، أو كذلك قلة البركات وقلة الخيرات وكثرة الفقر والفاقة والغارمين والفقراء ونحوهم.
لا شك أن هذا كله تذكير للعباد ليتعظوا وليرجعوا إلى أنفسهم وليتوبوا من السيئات ولو كانت من الصغائر، فإن هناك الكثير أصروا على ذنوب وتهاونوا بها فتهاون؛ هؤلاء بحلق اللحى، وعدوه صغيرة وهو من الكبائر أو بتقصيرها، أو بإسبال الثياب وإطالتها إلى ما تحت الكعبين، وتهاونوا أيضا بالمحافظة على الصلاة فكانوا لا يأتون الصلاة إلا بعد الإقامة إلا ما شاء الله، أو كذلك تهاونوا بحقوق الإنسان فصاروا يسخرون من أهل الخير ويستهزئون من المتمسكين والملتزمين والمستقيمين يسخرون منهم، وتهاونوا أيضا بحفظ الأسماع الأبصار، فصاروا ينظرون إلى الصور والأفلام الخليعة، ويسمعون إلى الأغاني وإلى الملاهي وما أشبهها، وتسامحوا مع نسائهم فسمحوا لهن بالمغازلات وبالمعاكسات وبالكلام مع الرجال الأجانب، أو بدخولهن إلى الأسواق التي تزدحم بالرجال والتي يكون فيها فتنة وتساهل أو وقع كثيرا في فعل الفواحش في اختطاف النساء، وفي فعل الفاحشة أو ما أشبه ذلك.
لا شك أن المعاصي كثيرة، وأن هذه العقوبات عقوبة على هذه المحرمات، فإذا انتبه العباد وتابوا وأنابوا إلى ربهم، وعلموا أنهم أُوتوا من قبل أنفسهم، فإن ربهم تعالى تواب رحيم يكشف عنهم الضر، يكشف عنهم الأمراض والعاهات التي نزلت بهم، ويبدلهم بعدها صحة ورفاهية ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، ويبارك لهم في أموالهم وفي أولادهم، ويرزقهم صلاحا واستقامة، وكذلك يعفو عنهم ولا يعاقبهم وينصرهم على عدوهم، فهذا هو الواجب على المسلمين أن ينتبهوا حتى يرحمهم الله تعالى ويعفو عنهم.
جزى الله فضيلة الشيخ خير الجزاء، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.