إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه الإسلام خير الأديان نظافة وآدابا، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتباعه أمرا إلا بينه لهم، حتى آداب قضاء الحاجة وما يتعلق بها من التباعد عن النجاسات ونحو ذلك القلوب أوعية؛ منها ما يستوعب الخير، ومنها ما يستوعب الشر. وأفضل القلوب هي التي تمتلئ بالخير،تمتلئ بالعلم وتمتلئ بالدين والعبادة، تمتلئ بالعلم النافع والعقيدة السليمة، هذه هي القلوب الواعية، وهي أرجى القلوب لتحصيل الخير إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه
شرح كتاب الحسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية
21062 مشاهدة
حث الشريعة على العدل بين العباد في المعاملات ورفع الضرر عنهم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد ذكروا أن لولاة الأمور والسلاطين والملوك التصرف في البلاد بما هو الأصلح والتدخل في شئون العباد بما فيه مصلحة ومنفعة، والمنع لمن أراد الإضرار بالمسلمين في أموالهم وفي أبدانهم ونحو ذلك؛ فمن ذلك ما سمعنا فيما يتعلق بتحديد الأسعار للذين يبيعون هل يجوز لولاة الأمور أن يحددوا للناس أسعارا ويقولون: لا تبيعوا بأكثر من ذلك أو لا تبيعوا بأقل، والظاهر أنه يجوز إذا خيف ضرر.
إذا كان هناك ضرر يخاف على المواطنين منه؛ سواء رخص أو غلاء فإن كلا منهما ضرر، فمثلا ما يتعلق بالرخص قد يضر كثيرا من الناس، فإن الباعة الذين يشترون السلع ثم يفرقونها قد يضرون الجالبين ويخسرونهم خسرانا شديدا، يشاهد أو يحكى أنهم إذا قدم الذي جلب ماشية يتفقون على أنه لا يشتريها إلا فلان، ثم بعد ذلك نقتسمها نحن ونتصرف فيها، وكذلك الذي يجلب فاكهة أو خضرة أو نوعا من أنواع الخضر المجلوبة لا يجوز أنهم يتفقون على ألا يشتريها إلا فلان أو لا يسومها إلا واحد، فإن ذلك ضرر على ذلك الذي جلبها؛ فقد يكون تعب في جلبها، وكذلك الذي أنتجها صاحب المزارع ونحوها قد ينفق نفقات طائلة على أرضه حرثا وزرعا وسقيا، فإذا جلب نتاجها وثمرتها ولقي من أولئك الذي يشترون أنهم توافقوا بينهم على أن لا يزيد فيها إلا فلان، أو على أنها إذا وصلت إلى كذا وكذا فتوقفوا حتى تكون رخيصة لكم وحتى تربحوا فيها على المستهلكين وتبيعوهم بأضعاف الثمن، فيشترونها مثلا بمائة ثم يبيعونها بألف أو نحو ذلك.
لا شك أن للدولة أن يتدخلوا في ذلك فيمنعوهم لما في ذلك من الضرر، ولو كان ذلك سببا في قلة قيمتها سببا في رخصها، ولكن في ذلك ضرر على المنتجين الذين تعبوا في الإنتاج وأنفقوا نفقات؛ مما يسبب أنهم لا يعودون لمثلها، بل يعدلون إلى صنعة غيرها يكون فيها ربح لهم أو ما يرد نفقاتهم، فهذا يجوز التدخل فيه.
كذلك بالنسبة إلى البيع أيضا قد يحصل اتفاق الباعة الذين يستوردون السلع على أن يحددوا الثمن بأكثر، فإذا جلبوا السلع وحصلت لهم واشتروها مثلا بعشرة، فيتفقون فيما بينهم جميع الباعة على أن لا تبيعوها إلا بثلاثين أو بخمسين أو بمائة، فيتضرر الذين يشترونها من الأفراد الذين لا حاجة لأحدهم إلا في سلعة واحدة كثوب مثلا أو عمامة أو حذاء أو ما أشبه ذلك، فإذا وقع مثل هذا فإن الحكومة لها أن تحدد الأرباح التي تكفيهم حتى لا يضروا المواطنين ونحوهم.
يشْكل على ذلك الحديث الذي فيه: أن السعر غلا ارتفع مرة بالمدينة فجاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: سعر لنا؛ أي تدخل وحدد للناس أن لا يبيعوا إلا بكذا ولا يرفعوا السعر فقال: إن الله هو المسعر القابض الباسط وإني أرجو أن أخرج من الدنيا وليس أحد يطالبني بمظلمة بمعنى أن ارتفاع السعر في هذه الحال ليس هو لجشع الباعة ولا لجشع التجار ولا لتصرفهم، ولكن سببه قلة الوارد، كأنه قل ورود الأطعمة كالبر والشعير والذرة والتمر ونحوه ولما كثر الذين يشترونه عند ذلك ارتفع سعره بسبب قلة الوارد فأرادوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يتدخل ويأمر الناس بألا يبيعوا إلا بكذا ولا يزيدوا أن يكون الصاع مثلا بدرهم أو بدرهمين.
فارتفاع الأسعار كما في هذه الأزمنة ليس هو دائما بسبب جشع وتصرف الباعة، وإنما يكون بقلة الوارد أو بأسباب من الأسباب التي يحصل بسبها ارتفاع السعر كقلة الإنتاج أو رخص الدراهم وقلة قيمتها أو ما أشبه ذلك، ولا بد أن يكون في مثل هذا المرجع إلى ما عليه الناس؛ فأما إذا عُرف بأن التجار الذين يختصون بإيراد هذه السلع يخاف أنهم يرفعون الأسعار فإن على الحكومات أن تحدد لهم ربحا معينا يكفيهم حتى لا يتضرروا وكذلك لا يتضرر المستهلكون الذين يشترون لأنفسهم.
يقع أن كثيرا من التجار يهتبلون غفلة الناس الذين لا يعرفون السلع فيضاعفون عليهم الثمن، وأما الذين يعرفونها فيبيعون عليهم بالسعر المعتاد، يأتيهم إنسان يعرف قيمة الثوب أو قيمة الحذاء فيشتريها مثلا بعشرين وآخر جاهل بالقيمة فيشتريها بثلاثين أو نحوها، فيكون هذا البائع الذي زاد على ذلك الجاهل ظالما له.
ولو قال إنه باختياره وإنني ما ظلمته ولكن عرضت عليه فقبل، فالجواب أن عليك أن تبيع كما يبيع الناس وأن لا تزيد على الجاهل أكثر من العالم.
من الأدلة على جواز التحديد الحديث الذي ساقه المؤلف -رحمه الله- وهو ما في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من باع شقصا له من عبد قوم عليه قيمة عدل أعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق صورة ذلك إذا كان عبد مملوك بين أربعة لكل واحد ربعه أعتق أحدهم ربعه نلزمه بأن يشتري سهام شركائه كيف يشتريها؟ نعرض العبد على أهل المعرفة، فيقال: يا أهل المعرفة كم يساوي هذا العبد؟ لا تظلموا المشتري ولا تظلموا البائع فيحددون القيمة فإذا حددت القيمة دفعها لشركائه، إذا كان قادرا وصار العبد حرا؛ لأن كونه حرا بعضه ورقيقا بعضه يضره ذلك، فهو يريد أن يكون كله حرا؛ فكونه يقول: قوِّم عليه قيمة عدل، من الذي يقومه؟ يُقَوِّمُه أهل المعرفة أهل الخبرة وأهل المعرفة هم الذين يحددون قيمته، ولا شك أن هذا دليل على جواز تحديد قيم السلع وأشباه ذلك مما يتدخل فيه ولاة الأمر.
فالحاصل أنه لا يجوز ظلم البائع ولا ظلم المشتري؛ فظلم البائع كونهم يتفقون على ألا يشتروه إلا بنصف الثمن أو بربع الثمن يضره، وظلم المشتري كونهم يتفقون على ألا يبيعوه إلا بمثل الثمن مرتين أو ثلاثا يضره ذلك. فلا ضرر ولا ضرار.
إذا تدخلت الولاة، وجعلوا للناس حدا لا يتجاوزنه ولا يضرون به هذا وهذا فإن ذلك لهم، والله أعلم.