اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) .    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية. اختار بعض العلماء أن وقت الختان في يوم الولادة، وقيل في اليوم السابع، فإن أخر ففي الأربعين يوما، فإن أخر فإلى سبع سنين وهو السن الذي يؤمر فيه بالصلاة، فإن من شروط الصلاة الطهارة ولا تتم إلا بالختان، فيستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب.أما وقت الوجوب فهو البلوغ والتكليف، فيجب على من لم يختتن أن يبادر إليه عند البلوغ ما لم يخف على نفسه الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه.
شرح كتاب الحسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية
20046 مشاهدة
بحث في: مسألة المزارعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
والمزارعة جائزة في أصح قولي العلماء، وهي عمل المسلمين على عهد نبيهم وعهد خلفائه الراشدين، وعليها عمل آل أبي بكر وآل عمر وآل عثمان وآل علي وغيرهم من بيوت المهاجرين، وهي قول أكابر الصحابة كابن مسعود وهي مذهب فقهاء الحديث، كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي والبخاري ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وأبو بكر بن المنذر وغيرهم، ومذهب الليث بن سعد وابن أبي ليلى وأبي يوسف محمد بن الحسن وغيرهم من فقهاء المسلمين.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات عليه الصلاة والسلام ، ولم تزل تلك المعاملة حتى أجلاهم عمر عن خيبر .
وكان قد شارطهم أن يعمروها من أموالهم، وكان البذر منهم لا من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء أن البذر يجوز أن يكون من العامل، بل طائفة من الصحابة قالوا: لا يكون البذر إلا من العامل. والذي نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- من المخابرة وكراء الأرض قد جاء مفسرا، لأنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة معينة، ومثل هذا الشرط باطل بالنص وإجماع العلماء، وهو كما لو شرط في المضاربة لرب المال دراهم معينة، فإن هذا لا يجوز بالاتفاق؛ لأن المعاملة مبناها على العدل، وهذه المعاملات من جنس المشاركات، والمشاركة إنما تكون إذا كان لكل من الشريكين جزء شائع كالثلث والنصف، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر لم يكن ذلك عدلا بل كان ظلما .


في هذا بحث عن نوع من المعاملات التي يتعامل بها المسلمون؛ ومناسبته أن الناس في حاجة إلى الأعمال والحرف اليدوية، وأن أهل تلك المعرفة لا بد أن يكونوا على علم بكيفية العمل فيها.
وقد تكلم شيخ الإسلام في هذه الرسالة وفي غيرها على أن على الإمام العام أن يكلف قسما من الناس يتعلمون الحرف التي يحتاج إليها الناس؛ فإن هذا مما يلزم الأئمة؛ لأن الناس سوف يتعطلون إذا لم تحصل لهم تلك المصالح والمنافع ونحوها مما هم بحاجة إليها، ومع ذلك فإن الله تعالى أجرى العادة باختلاف الهمم وباختلاف النيات وباختلاف الميولات مما هو واقع في العالم كله -الإسلامي وغيره- في أن كلا منهم يميل إلى حرفة خاصة تناسبه يجد أن فيها ما يناسبه.
فنعرف أن من الناس من تكون همتهم حرث الأرض واستغلالها، ثم هم مع ذلك مختلفون؛ فهذا تكون همته في بذر الحبوب التي هي أقوات كبُرّ وشعير وذرة ونحوها، ويرى أن فيها منفعة وفائدة له في حياته، وآخر يرى أن من المناسب له غرس النخل واستغلالها وما يحصل منها من المنافع، وآخرون تكون رغبتهم في الخضر التي تستغل ويكون لها ثمرة مفيدة تستعمل في الأكل والطبخ ونحو ذلك، وآخرون تكون همتهم في غرس أشجار الفواكه التي يتلذذ بأكلها فيكون همتهم في مثل ذلك أيضا، وآخرون همتهم تربية الدواب هؤلاء يربون مواشي من الإبل وهؤلاء من الغنم وهؤلاء من البقر وهؤلاء مثلا من الطيور كالدجاج وما أشبهه، ولكل ميل يناسبه ورغبة.
ويقال أيضا كذلك في الحرف فإن البعض من الناس يناسبه أن يكون حدادا، وآخر يناسبه أن يكون نجارا وآخر خرازا وآخر مثلا غسالا أو خياطا أو حائكا أو غير ذلك من الحرف، وكذلك أيضا الصناعات الجديدة؛ أي صناعة هذا النوع من الأسلحة وصناعة هذه المركوبات مثلا وصناعة هذه الأدوات وهذه الأجهزة وهذه الأواني وما أشبهها، هذا من توفيق الله تعالى.
أن جعل لكل ميلا إلى شيء حتى لا يتعطل الناس؛ لو أن الناس كلهم عطلوا حرفة النجارة من أين تنجر الأبواب وما أشبهها؟ ولو أنهم عطلوا حرفة الدباغة أو حرفة الخرازة، الناس بحاجة إلى الأدوات التي تخرز كالأحذية وما أشبهها.
نرجع إلى ما ذكره المؤلف من المزارعة؛ يقولون: صفتها أن يكون عند إنسان أرض ولا يقدر على زرعها، وآخر لا يملك أرضا وهو قادر ومتفرغ فيتفقان هذا منه الأرض وهذا منه العمل، ويتفقان أيضا على ما يخرج منها على أن للعامل جزءا ولصاحب الأرض جزءا مشاعا من غلتها.
ذكروا أن أهل الجاهلية إذا كان عند أحدهم أرض واتفق مع عامل على أن يزرعها، قال: لي زرع هذه البقعة ولك زرع هذه البقعة، ثم تكون بعض البقع زرعها جيد يأخذها أحدهم والأخرى زرعها رديء فيغبن هذا أو يغبن هذا، فإما أن يتضرر مثلا صاحب الأرض حيث لا يأتيه إلا شيء لا يناسب أجرة أرضه، أو يتضرر العامل حيث لا تغل هذه البقعة إلا شيئا لا يثمن تعبه، فجاء الشرع بإبطال هذا لما فيه من الضرر وأمرهما أن يتفقا على جزء مشاع في جميع ما ينتج من هذه الأرض؛ بأن يقول مثلا: ازرعها ولك ربع ما يخرج أو لك ثلثه أو ثلثاه والباقي لرب الأرض، فهذا جائز؛ لأنه لا ضرر فيه، كل واحد منهما يعرف ما يصير له، يعرف ما يستحقه من الثمر نصفا أو ثلثا أو ثلثين ولا حرج في ذلك.
ولا شك أن هذا فيه منفعة للأمة، ليس كل من يملك أرضا يستطيع أن يستغلها، بل يكون عند الإنسان أرض أو قطع أراض كثيرة لا يستطيع أو لا يتفرغ لاستغلالها؛ إما لكبر سن أو لصغر سن أو لأنه منشغل بحرفة يدوية مثلا أو مشتغل بوظيفة أخرى، أو لأنه مثلا لا يحسن العمل أو ليس عنده من يساعده من ولد أو أخ أو نحو ذلك، بينما يوجد عامل أو عمال قد تمرنوا على هذه الحرف التي هي حرث الأرض واستغلالها.
فلا شك أن هذا من المصالح؛ المصلحة هاهنا لصاحب الأرض؛ حيث تأتيه أجرة أرضه من غلتها وللعامل حيث يستثمر هذه الأرض فيأخذ من ثمرتها ما يكفيه أو ما يقابل تعبه ويزيد فيكون في ذلك مصلحة لهما، كذلك أيضا مصلحة للآخرين للمواطنين الآخرين حيث يجدون ما يشترونه وما يتغذون به.
جعل الله تعالى ذلك من مرافق الأمة ومنافعها؛ دليل ذلك ما ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- لما فتح أرض خيبر كان فيها أشجار ونخيل وكان فيها أراض زراعية ، الذين فتحوها ملكوها، فتحوها بالقوة، فتحوها عَنوة فصارت للمسلمين وانتزعوها من اليهود.
ولو كان اليهود هم الذين غرسوا هم الذين أجروا الماء هم الذين حرثوها؛ ولكن لما كانوا كفارا أباح الله للمؤمنين قتال الكفار وأخْذ ما استولوا عليه من أموالهم ومن أراضيهم، كما قال تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا .
فلما أن المسلمين غنموا هذه الأرض كان المسلمون منشغلين؛ منشغلين بالجهاد ومنشغلين بالعلم وبالعمل، وكانوا لا يحسنون أيضا استغلال تلك الأرض؛ زرعها ولا غرسها ولا استثمارها وكان اليهود أعرف منهم بذلك، فقالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- أقرنا فيها على أن نعمل بجزء من ثمرتها فأقرهم، وقال: نقركم ما شئنا وجعل لهم نصف ما يخرج منها من الثمر ومن الزرع، وللمسلمين النصف يفرق بين المالكين بذلك.
إذا نضجت ثمرة النخل أرسل إليهم من يخرص ثمرة النخل فيقدرها، ويقول: نقدر هذا البستان مثلا أن فيه ألف رطل أو ألفان فإذا قالوا: أكثرت علينا يقولونه للذي يخرص خيرهم، وقال: قدرته مثلا بألفين فإما أن نأخذ منكم ألفا ونترك لكم الباقي، وإما أن نعطيكم ألفا ونأخذ ما بقي، فقالوا: هذا هو العدل.
واستمروا حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلافة أبي بكر وهم فيها يستغلونها ويعطون للمسلمين ما يخرج منها، إذا زرعوا الأرض فلهم نصف الزرع وإذا أثمر التمر فلهم نصف ثمرة التمر، وكذلك إذا كان فيها خضار أو فواكه كالدباء مثلا أو القرع أو الباذنجان، أو ما أشبه ذلك أو الفواكه كالبطيخ وما أشبهه يقسم بينهم.
فالحاصل أن هذا دليل على جواز هذا الجنس من المعاملة الذي هو المزارعة والمغارسة.
المغارسة: معناها أن يتفق مع إنسان على أن يغرس أرضه شجرا، ثم يكون له نصف ثمر الشجر أو ما أشبهه، وقد يجوز أن تكون الأرض لإنسان لا يقدر على غرسها، فيقول للعامل: اغرسها من النخل فإذا أثمر النخل بعد خمس سنين أو نحوها؛ قسمت الأرض بيني وبينك لي نصف أرض المغروس ولك نصف أرض المغروس؛ فيجوز ذلك، يكون هذا مقابل عمله وهذا مقابل أرضه.
وكذلك أيضا يجوز أن يكون هناك إنسان عنده نخل أو شجر يثمر، فيتفق مع العامل على أن يعمل فيها كل سنة بنصف الثمرة أو بربع الثمرة أو نحو ذلك؛ على هذا عمل وعلى هذا أرض وشجر.
ويجوز أن يكون البذر من العامل ويجوز أن يكون من المالك، ويجوز أيضا أن يتفقا على أن الأدوات من العامل أو من المالك للأرض. قديما كانت الأدوات هي: الدلاء –الدلو- والرشاء والنواضح التي يسقى عليها، وحديثا كانت الماكينات والمضخات التي تستخرج الماء من أجواف الآبار وتحتاج إلى وقود وإلى أدوات ونحو ذلك، فإذا اتفقا على أن هذه من العامل أو أنها من المالك جاز ذلك فكيفما اتفقا جاز؛ وبهذا نعرف أن الإسلام جاء بما فيه المصالح للمسلمين كل شيء يحتاجون إليه فإنه مما يقره الشرع، ولا حرج فيمن تولى شيئا من هذه الأعمال لمصلحة.
كذلك أيضا يجوز أن يستأجر عمالا ويعطيهم أجرة من النقود، فيقول للعامل: تعمل ولك مرتب شهري كذا وكذا، أو يجوز أن يقول مثلا: تعمل في هذه الأرض بأجرة معينة كأنه يؤجره الأرض ليحرثها ويكون العامل مطالبا بكل ما تحتاج إليه الأرض؛ على العامل مثلا قيمة أدوات الحرث وأدوات الغرس، وكذلك أدوات السقي والحفر ونحو ذلك، وصاحب الأرض ليس منه إلا الأرض وله أجرة معينة؛ كما تؤجر العقارات والمساكن بدراهم معلومة كل ذلك مما يقره الشرع؛ لأنه ليس فيه ضرر وليس فيه أيضا غبن ولا جهالة ولا غرر.
ومثل ذلك ما أباحه الشرع من المضاربة بجزء من الربح؛ وصورة ذلك أن يكون إنسان عنده دراهم ولكنه لا يتفرغ لاستغلالها والتجارة فيها، وآخر يحسن التجارة ويحسن التصرف في المال وليس عنده دراهم، فيتفقان هذا منه الدراهم وهذا منه الاتجار فيأخذها، ويتفقان على أن لي نصف الربح ولك النصف أو لك الربع ولي ثلاثة الأرباع أو بالعكس؛ يجوز ذلك أيضا، ولا يجوز إذا كان فيها شيء من الضرر على أحد الطرفين فلو قال مثلا: اتجر بها على أن لي كل شهر مثلا مائة أو ألف أو على أن لي من الربح عشرة آلاف والباقي لك؛ فلا يجوز؛ لأنه قد لا يربح إلا هذا المقدار فيكون الثاني ليس له شيء، أما إذا اتفقا على أننا نخضع ونتساوى في الربح والخسران فإن ذلك مما تقره الشريعة، وبكل حال يعرف أن الشرع جاء بمصالح الأمة وأن الأئمة عليهم مراعاة الأمة فيما هو من مصالحهم وإبعاد ما فيه ضرر عليهم في أديانهم وأبدانهم.