عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة) الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه من كان مسافرا ولم يصل المغرب والعشاء فأدرك العشاء خلف إمام مقيم فالمختار أنه يصلي المغرب وحده، فإذا صلاها دخل معه في بقية العشاء، وذلك لاختلاف النية؛ فإن المغرب والعشاء متفاوتان بينهما فرق في عدد الركعات. هذا الذي نختاره. وأجاز بعض المشائخ أنه يدخل معهم بنية المغرب، فإذا صلوا ثلاثا فارقهم وتشهد لنفسه وسلم، ثم صلى العشاء، ولكل اجتهاده لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. تعبير الرؤيا يرجع فيه إلى معرفة أشياء تختص بالرائي وما يتصل به، وكذا معرفة القرائن والأحوال، ومعرفة معاني الكلمات وما يتصل بها لغة وشرعا وما يعبر به عنها، وهذه الأمور ونحوها يختص بها بعض الناس لانشغالهم بمعرفتها وما يدور حولها، فعلى هذا لا يجوز لكل أحد أن يعبر الرؤى، فقد يفهم فهما بعيدا، وقد يأخذ التعبير من اللفظ لا من المعنى فيخطئ في ذلك.
شرح كتاب الحسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية
21005 مشاهدة
بحث في: الأشياء المغشوشة وكيفية مصادرتها

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-
وقد روى أشهب عن مالك منع العقوبات المالية، وقال: لا يُحل ذنب من الذنوب مال إنسان وإن قتل نفسًا، لكن الأول أشهر عنه.
وقد استحسن أن يُتصدق باللبن المغشوش في ذلك، وفي ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه ونفع المساكين بإعطائهم إياه، ولا يهراق. قيل لمالك فالزعفران والمسك أتراه مثله، قال: ما أشبههم بذلك إذا كان هو غشه فهو كاللبن.
قال ابن القاسم هذا في الشيء الخفيف منه، فأما إذا كثر منه فلا أرى ذلك، وعلى صاحبه العقوبة لأنه يذهب في ذلك أموالا عظام -يريد في الصدقة بكثيره-.
قال بعض الشيوخ: وسواء على مذهب مالك كان ذلك يسيرا أو كثيرا لأنه ساوى في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره، وخالفه ابن القاسم فلم يرَ أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا.
وذلك إذا كان هو الذي غشه، وأما من وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو وإنما اشتراه أو وهب له أو ورثه فلا خلاف في أنه لا يتصدق بشيء من ذلك.
وممن أفتى بجواز إتلاف المغشوش من الثياب ابن القطان قال في الملاحف الرديئة النسج تحرق بالنار، وأفتى ابن عتاب فيها بالتصدق وقال تقطع خرقا وتعطى للمساكين، إذا تقدم إلى مستعمليها فلم ينتهوا، وكذلك أفتى بإعطاء الخبز المغشوش للمساكين.
فأنكر عليهم ابن القطان وقال: لا يحل هذا في مال امرئ مسلم إلا بإذنه.
قال القاضي أبو الأصبغ وهذا اضطراب في جوابه وتناقض في قوله؛ لأن جوابه في الملاحف بإحراقها بالنار أشد من إعطاء هذا الخبز للمساكين وابن عتاب أضبط في أصله في ذلك وأتبع لقوله، وإذا لم يرَ ولي الأمر عقوبة الغاش في الصدقة أو الإتلاف فلا بد أن يمنع وصول الضرر إلى الناس بذلك الغش؛ إما بإزالة الغش وإما ببيع المغشوش ممن يعلم أنه مغشوش ولا يغشه على غيره.
قال عبد الملك بن حبيب قلت لمطرف بن الماجشون لما نهينا عن التصدق بالمغشوش لرواية أشهب فما وجه الصواب عندكم فيمن غش أو نقص من الوزن؟ قال: يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق، وما كثر من الخبز واللبن أو غش من المسك والزعفران فلا يفرق ولا ينهب.
قال عبد الملك بن حبيب ولا يرده الإمام إليه، وليؤمن ببيعه عليه من يأمن أن يغش به، ويكسر الخبز إذا كثر ويسلمه لصاحبه ويباع عليه العسل والسمن واللبن الذي يغشه ممن يأكله، ويبين له غشه، هكذا العمل فيما غش من التجارات.
قال: وهو إيضاح من استوضحته ذلك من أصحاب مالك وغيرهم .


نتكلم هنا على الأشياء المغشوشة وكيف تكون مصادرتها؛ وذلك لأن الغش بلا شك محرم قال النبي صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا لما مر على صاحب طعام كتمر أو بُر وقد نشره أدخل النبي صلى الله عليه وسلم يده فأصابت بللا؛ أي رطوبة فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال: أصابته السماء -يعني أصابه المطر- قال هلا جعلته أعلاه كي يراه الناس، من غش فليس مني .
بمعنى أنك غششت؛ حيث أنك أخفيت ذلك المتندي، الذي ترطب من ماء السماء، أخفيته وجعلته في داخل ذلك الطعام؛ يريد إذا جاءه من يشتري أخذ له من أسفل الطعام ذلك المبتل، وترك اليابس أعلاه.
يقول: واجب عليك أن تظهر هذا المبتل الذي ترطب بالماء، وأن تريه الناس الذين يشترون، فأما إخفاؤه فإن ذلك من الغش.
وكذلك أيضا يكون الغش في اللبن بأن يعرض اللبن وقد شابه بماء، فإذا جاء من يشتري ظنه لبنا خالصا، وإنما هو قد شِيبَ بماء؛ فيكون هذا أيضا من الغش.
ويكون أيضا في السمن إذا خلط سمن بقر بسمن الإبل أو سمن الغنم بسمن بقر، أو خلطه بسمن صناعي كزيت ذرة؛ يعني أو شيء من الزيوت التي هي صناعية خلطها بذلك السمن، وأوهم الذين يشترونه أنه كله سمن خالص، فإن هذا أيضا من الغش.
وكذلك الأقط إذا خلطه مثلا بدقيق -دقيق حنطة أو دقيق ذرة- أوهم الذين يشترونه أنه كله من أقط اللبن؛ فيعتبر هذا غشا.
وكذلك إذا غش في الزعفران أو الورس أو العصفر، وخلطه بما ليس منه يعتبر هذا من الغش.
وكذلك من الغش ما يقع فيه كثير من الناس في هذه الأزمنة الغش في اللحوم أن يخلطوا السمين بالهزيل، أو يظهروا ما هو لحم ويخفوا العصب والعظام، حتى إذا رأى المشتري ذلك اللحم الأحمر ظن أنه كله مثله، فيكون هذا من الغش.
وكذلك الخبوز قد تغش أيضا ذلك بأن يخلط مع دقيق البر دقيق ذرة أو دقيق شعير أو ما أشبه ذلك، ويوهم أنه كله من البر فيكون غشا.
وكذلك الغش في الأكسية قد يخلطون عند النسيج القطن الجيد بقطن رديء؛ بحيث أنه يكون سريع البلى وسريع التمزق، فيكون هذا من الغش.
الباعة الآن يغشون غشا كثيرا؛ فتجد مثلا الذي يبيع القهوة بالميزان يجعل في أعلى الزنبيل شيئا من الجيد -من النوع الجيد- وفي أسفله الرديء إذا جاء المشتري أخذ له من أسفل حتى يبيعه من ذلك الرديء، وهو يرى أن ظاهره جيد.
وكذلك الهيل يجعلون في أعلاه شيئا جيدا وفي أسفله رديئا، يعتبر هذا من الغش. وكذلك الفواكه الرطب إذا بيع وهو رطب قد يجعلون أسفله رديئا أو خائسا متغيرا، ويكونون يريدون بذلك أن يتوهم أنه كله من الرطب الطيب.
وهكذا الفواكه والخضار؛ كالطماطم والباذنجان وما أشبهها، والفواكه والتفاح والليمون والموز وما أشبه ذلك من هذه الفواكه.
نقول: إن مثل هؤلاء إذا وقع منهم الغش فإنهم يستحقون أن عاقبوا، كيف يعاقبون؟ أجاز بعض العلماء مصادرة تلك الأشياء التي وقع فيها هذا الغش، فإذا صودرت فكيف يفعل بها؟ يجيز بعضهم إحراقها، ولكن الصحيح أن الأموال محترمة لا يجوز إحراقها؛ لأنه لا ذنب لها، وإنما عقوبة صاحبها الذي غش تفويتها عليه؛ أن تصادر وتؤخذ منه، وحينئذ إذا كان ينتفع بها فإنه يتصدق بها على المساكين، ويجوز بيعها بعد الإعلام للمشتري أنها مغشوشة بمثمنها الذي تناسبه، وتُدخل قيمتها في المصالح الخيرية؛ في المبرات الخيرية وما أشبهها.
وأما إذا كانت لا ينتفع بها كالخاوية الفاسدة من الفواكه التي أكلها يورث ضررا ومرضا؛ فهذه الصحيح أنها تتلف ولا يمكن صاحبها أن يبيعها، ولو وجد هناك من الفقراء وضعاف النفوس من قد يأخذونها ويلتقطونها.
كما يشاهد أنهم يتتبعونها في أماكن الإلقاء مع النفايات ونحوها؛ فيلتقطون الطماطم الخاوي والبطيخ الخاوي، ويأخذونه؛ إما أنهم يأكلونه على تلك الحال، أو أنهم يطعمونه دوابا أو ما أشبه ذلك.
صحيح أنه قد ينتفع به وقد تأكله المواشي، ويكون غذاء لها ولا تتضرر، ولكن عقوبة صاحبه تفويته عليه، تفويت ماليته عليه حتى لا يعود إلى هذا الغش.
وكذلك يرتدع أيضا أمثاله فلا يعودون إلى استعمال هذا الغش في مثل هذه المعاملات.
وإذا كان مما ينتفع به فلا يجوز إتلافه؛ فاللبن ولو شيب بماء لا يقال إنها ذهبت ماليته، يشربونه وهو مشوب بماء، ويكون غذاء ويكون علاجا ويكون رواء وشرابا ينفع.
وكذلك المغشوش من الخبز أو من السمن أو من الأقط يمكن أن ينتفع به ولا تذهب ماليته، ولا يقال: إنه ضار بمن استعمله؛ بل بقيت فيه مالية وفيه منفعة، فلا يجوز إتلافه.
وكذلك اللحوم إذا أدخلوا فيها شيئا ليس منها واعتبر هذا غشا، فلا نقول: إنها ذهبت ماليتها وأنه يجب إحراقها أو إلقاؤها مع القمامات؛ فإنها لا تزال محترمة، ويوجد من هم بحاجة إليها من الفقراء والمساكين والمستضعفين، فإذا صودرت فإنه يتصدق بها، وإن كان لها قيمة جاز بيعها وبعد بيعها يتصدق بثمنها، أو يجعل ثمنها في المشاريع الخيرية، ولا يجوز إتلافها ولا إحراقها.
ويفعل كذلك بالأموال المحرمة إذا صودرت؛ إذا وجد مثلا امرأة تجمع المال من الحرام؛ أي ممن يزني بها وجمعت مالا فهذا المال حرام عليها، ولكن ليس حراما في نفسه، بل يصرف في المصالح النافعة.
فإذا وجد في بيتها فرش وسرر وأكسية وأحذية وأواني وأطعمة وأشربة ولحوم وفواكه، وعرف أنها اشترتها من الحرام أو أنه بذل لها مقابل أن يفعل بها، فهذه الأموال لا يقال: إنها نجسة، بل هي طاهرة، وإنما نجاستها وحرمتها على من اكتسبها بذلك الكسب الحرام، فيكون حراما عليها وحلا لغيرها، لا يعاد إلى الزناة الذين زنوا؛ يجمع لهم بين العوض والمعوض ولا يترك لهذه الزانية، ولكن يصرف في المصارف الصالحة التي تنفع الإسلام وتنفع المسلمين.
فكذلك هذه الأموال التي هي مغشوشة سواء كانت من الأكسية أو من الأطعمة أيا كانت أو من الأدم أو من الأدوية أو ما أشبه ذلك، فإذا تُحقق أنها مغشوشة فلا يجوز إبقاؤها عند أهلها، بل تصادر منهم.
فرق بعض العلماء كما سمعنا بين الكثير والقليل؛ إذا كانت كثيرة، إذا كان عنده مثلا أعداد كثيرة من القرب عسلا؛ يعني تبلغ عشر قرب عسل، ولكنه مغشوش؛ مغشوش بدبس أو بسكر أو ما أشبه ذلك.
فلو صودر منه لأفلس ولافتقر، قد يكون جمع كل رأس ماله في هذا العسل، فالصحيح أنه لا يصادر هذا منه كله، ولكن يعزر بأخذ بعضه، فيؤخذ منه قربة أو قربتان؛ تباع ويتصدق بثمنها على المستضعفين.
فأما أن يؤخذ منه عشر قرب، قد تكون القربة قيمتها عشرة آلاف أي نحو مائة ألف، فإن في ذلك ضررا عليه وتعريضا له إلى الإفلاس.
وهكذا لو كثر السمن لو وجد عنده مثلا عشرة ظروف للسمن وفيها غش؛ يعني خلط لها بما ليس منها، أو كذلك عشرة أكياس أو عشرين كيسا من الأقط مغشوشة فإن مصادرتها كلها تعريض للضرر به، فلا يصادر إلا بعضه ولكن ينبه يؤكد أنها مع مغشوشة؛ عند البيع لا يبيعها كما يبيع السليمة، لا يبيعها كما يبيع الصحيحة التي ليس فيها غش، بل يخبر من يشتري بأن فيها من الغش مقدار كذا وكذا، حتى يكون المشتري على بصيرة.
وأما إذا اشتراها وهي كذلك؛ يعني إنسان وجد هذه الأكياس من الأقط أو الظروف من السمن أو من العسل، واشتراها وإذا هي مغشوشة؛ والبائع إما أن يكون هرب وإما أن يكون اختفى؛ ففي هذه الحال هذا المشتري بذل فيها ثمنا فلا يصادر منها شيء؛ لأنه ما صدر منه شيء من الغش، وإنما ينبه الناس على ما فيها، ويبيعها بيع المغشوش لا يبيعها بيع السليم الصحيح ولو خسر؛ لأنها لا تساوي ما يساويه الصحيح، يقال: أنت تسرعت حيث اشتريتها من مغشوش، ووقعت فيما وقعت فيه عن عجلة، والأولى لك أن تتثبت، والآن لا تبعها كما يباع السليم ولا نصادرها عليك.
هناك أيضا كثير من المصادرات غير المغشوشة؛ كالتهريب الذين يهربون بعض السلع ويدخلونها بغير ترخيص يستحقون العقوبة؛ إما بمصادرتها إن كانت قليلة لا تسبب إفلاسهم، وإما بتنكيلهم بشيء من المال؛ تغريمهم يعني زيادة على ما يؤخذ منهم من الرسوم، يزاد عليهم مقابل تهريبهم، وقد يجوز مصادرتها إذا كانت لا تؤدي إلى إفلاس من استوردها.
نعرف من هذا أن الشرع جاء بوجوب النصح للمسلمين وأن المسلم عليه أن ينصح لإخوانه المسلمين وأنه لا يجوز له أن يبيع شيئا مغشوشا، بل عليه أن يبين ما فيه من الغش وما فيه من المرض، إذا جاء مثلا بشاة يبيعها وهي مريضة فلا بد أن يخبر بمرضها.
وكذلك إذا جاء بأداة من الأدوات فاسدةً كسيارة أو ماكينة أو ثلاجة أو نحو ذلك وفيها خراب، فلا يجوز له أن يبيعها كما يباع السليم، بل عليه أن ينبه على ما فيها من الخراب والفساد حتى يدخل المشتري على بصيرة، فلا يكون بذلك داخلا في الحديث من غش فليس مني .
بل يكون ناصحا للمسلمين مبينا لهم ما يجب أن يعرفوه، ورد فيه حديث: لا يحل لمسلم أن يبيع عيبا حتى يبينه يعني: إذا كان هناك عيب فلا بد أن يبينه ويظهره للمشتري ليشتري على بصيرة.
هذا ما يتعلق بهذا الغش وأمثلته كثيرة كما معروف، فيتجنبه المسلم حتى يكون ناصحا لإخوانه المسلمين.