الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) .    عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة) إذا ضعفت العقيدة في القلوب ضعف العمل، فإذا رأيت الذي يكون ضعيفا في عباداته، في صلواته وزكواته وما إلى ذلك، فاعلم أن ذلك لضعف في عقيدته بالأساس.فالعقيدة حقيقة إذا امتلأ بها القلب ظهرت آثارها على الجواربالوقوف قائما أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه.
شرح كتاب الحسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية
20915 مشاهدة
فصل: الغش والتدليس في الديانات

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-
فصلٌ: الغش والتدليس في الديانات: فأما الغش والتدليس في الديانات؛ كمثل البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة من الأقوال والأفعال، مثل: إظهار المكاء والتصدية في مساجد المسلمين، ومثل: سب جمهور الصحابة وجمهور المسلمين أو سب أئمة المسلمين ومشائخهم وولاة أمورهم المشهورين عند عموم الأمة بالخير، ومثل: التكذيب بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تلقاها التي تلقاها أهل العلم بالقبول، ومثل: رواية الأحاديث الموضوعة المفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل: الغلو في الدين بأن يُنزل البشر منزلة الإله، ومثل: تجويز الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل: الإلحاد في أسماء الله وآياته وتحريف الكلم عن مواضعه والتكذيب بقدر الله، ومعارضة أمره ونهيه بقضائه وقدره، ومثل: إظهار الخزعبلات السحرية والشعبذة الطبيعية وغيرها التي يضاهى بها ما للأنبياء والأولياء من المعجزات والكرامات ليصد بها عن سبيل الله، أو يظن بها الخير فيمن ليس من أهله.
وهذا باب واسع يطول وصفه، فمن ظهر منه شيء من هذه المنكرات وجب منعه من ذلك وعقوبته عليها إذا لم يتب؛ حتى قدر عليه بحسب ما جاءت به الشريعة من قتل أو جلد أو غير ذلك.
وأما المحتسب فعليه أن يعزر من أظهر ذلك قولا أو فعلا، ويمنع من الاجتماع من مظن التهم ، فالعقوبة لا تكون إلا على ذنب ثابت، وأما المنع والاحتراز فيكون مع التهمة؛ كما منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يجتمع الصبيان بمن كان يتهم بالفاحشة، وهذا مثل الاحتراز عن قبول شهادة المتهم بالكذب، وائتمان المتهم بالخيانة ومعاملة المتهم بالمطل.


بعد أن تكلم -رحمه الله- على الغش في المعاملات ذكر أيضا الغش في الديانات، وقد يقال: كيف يكون هذا غشا فالجواب: أنه لما كان تدليسا على عباد الله، وتمويها على الجهلة، وإظهارا لشيء غير حقيقي سمي بذلك غشا وتدليسا وتلبيسا.
فمن ذلك: ما سمعنا من الأمثلة، وقد ذكر أن الباب واسع، يطول وصفه واستقصاؤه، ولكنه أورد هذه الأمثلة يبين أنها من الغش في دين الله سبحانه وتعالى.
فالرياء في الأعمال يعتبر تدليسا؛ وذلك لأن الناس إذا رأوا هذا الذي يخشع في صلاته ويخضع فيها ويظهر التنسك؛ فإنهم يمدحونه ويحبونه ويعظمونه ويشهدون له؛ يشهدون له بأنه مؤمن وبأنه مزكٍ مصلٍ، ولكن هو في باطن الأمر غير مخلص؛ بل هو مراء إذا خلا فإنه يترك هذه العبادات ولا يحبها ولا يفعلها؛ فعرف بذلك أن هذا غش وتدليس على الناس، يدخل في قول الله تعالى: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ أي بأعمالهم وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ أي مراءاة للناس بأعمالهم.
كذلك ذكر أيضا من الغش: إظهار شيء من العبادات التي ما أمر الله بها وإيهام الناس أنها عبادات، وهذا ما يفعله المبتدعة الذين يزينون للناس البدع والمحدثات ويظهرونها بقالب العبادات، فيتعبدون بعبادات ما شرعها الله، ولا بينها وبلغها رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيدخلون في قول الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ .
وما أكثرهم الذين يتعبدون بهذه البدع، وإذا نهاهم أحد عن بدعة المولد أو بدعة الرغائب أو نحوها، قالوا: ما فيها إلا ذكر وقراءة وعلم وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وما أشبه ذلك، أتنكرون هذه العبادات التي هي من جنس ما أمر الله بها؟! فيكرون على من أنكر عليهم بدعتهم، ويدعون أنه ينهى عن الخير.
فيرد عليهم بأنها محدثة في الدين، فتدخل في الغش في الدين وفي العبادات كل أنواع البدع.
وهكذا أيضا ما ذكر من العقائد السيئة تعتبر أيضا من الغش في الاعتقادات؛ فاعتقاد الذين يحرفون آيات الصفات ويحملونها محامل بعيدة لا شك أن هذا من الغش في الدين؛ يحرفون آيات الاستواء وآيات العلو وآيات الرفع وآيات الصعود وآيات العروج وآيات النزول، وكذلك الأحاديث التي في ذلك، ويحملونها على محامل بعيدة، ويتكلفون في صرفها عن ظاهرها.
نقول: إن هذا غش في دين الله تعالى، وإنكم ارتكبتم ما لم يأذن به الله، وحرفتم الكلم عن مواضعه وتدخلون في صفة اليهود الذين ذمهم الله تعالى بقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ أي تصرفونه عما يتبادر منه وعما أراد الله تعالى به، فيعتبر هذا من الغش في العبادات.
وكذلك أيضا عَدَّ من الغش الغلو؛ الغلو في المخلوقين حتى يعطى المخلوق شيئا من حق الله سبحانه، وما أكثر ذلك. الذين يغلون في بعض الأولياء فيعطونهم شيئا من حق الله ويصفونهم بصفات الله أو بالصفات التي لا يستحقها إلا الله، يعرف ذلك في معتقدات المتصوفة وغلاتهم؛ يدعون أن الولي فلانا يعلم الأسرار ويطلع على الخفيات، ويعطي من أراد ويعلم ما في الضمير، يدعون أنه أفضل من الأنبياء، وأنه لا ينزل قطرة من السماء إلا بأمره، ولا يموت أحد إلا بأمره، ولا يولد لأحد إلا بإرادته، وما أشبه ذلك.
وهكذا الذين يغلون في أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم أو أوصاف بعض المخلوقين؛ كالرافضة الذين يغلون في صفات علي ويجعلونه هو الذي يعلم كل شيء ويطلع على كل شيء، وما أشبه ذلك. نقول: إن هذا من الغش في العبادات، وأن الذين يقولون ذلك ما أخلصوا لله، وما دعوه وما عبدوه وما دانوا له بالعبادة؛ حيث أنهم عظموا المخلوق بما لا يستحقه إلا الخالق أقوالا أو أفعالا.
ولا شك أيضا أن من الغش ما سمعنا أيضا من التكذيب بعلم الله؛ الذين ينكرون أن الله بكل شيء عليم، وأنه لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، ما قدر الله تعالى حق قدره، ولا وصفوه بما يستحقه من الصفات التي أثبتها لنفسه.
وهكذا الذين ينكرون قدرة الله على كل شيء، ويقولون: إن هناك ما لا يقدر عليه، إن الله لا يهدي من يشاء ولا يضل من يشاء؛ بل المشيئة إنما هي للمخلوقين. فإن هؤلاء أيضا قد جعلوا أو ركبوا شيئا من الغش، وفعلوا شيئا من الغش في العبادات أو في العقائد التي أمر الله تعالى بها وأخبر بها.
وهكذا أيضا من الغش ما سمعنا من التكذيب بفضائل الصحابة رضي الله عنهم؛ فإن الله تعالى مدحهم وأثنى عليهم في القرآن، فالذين يكذبون بفضائلهم أو يصرفونها عن ظاهرها مدحهم في عدة سور من القرآن؛ في سورة المائدة والأنفال والتوبة، وفي سورة الحشر وفي سورة محمد والفتح وغيرها.
الذين أنكروا فضلهم وتأولوا هذه الأدلة وحرفوها وحملوها محامل بعيدة؛ هؤلاء من الغشاش، كما يفعل ذلك الكثير من الملاحدة أو من الرافضة أو نحوهم.
فهذا من غشهم في تحريف الكلم عن مواضعه، وجحد فضل من فضلهم الله.
وهكذا أيضا الفضائل التي ثبتت في الصحيحين أو في غيرهما من السنن؛ فضائل جماعة من الصحابة سواء أفراد أو جماعات مجملين أو مفردين، هناك من ينكرها ويردها ولا يقبل منها إلا ما يوافق معتقده.
لا شك أن هؤلاء الذين يردون مثل هذه الأحاديث الصحيحة التي تلقتها الأمة بالقبول وصدقوا بها وعملوا بمقتضاها وأثبتوا ذلك في المعتقدات، أن هؤلاء أيضا ممن يحرفون الكلم عن مواضعه وأنه يصدق عليهم أنهم غشاشون؛ حيث أنهم خدعوا أتباعهم الذين يحسنون الظن بهم، وأوهموهم أنهم على صواب، وأن من خالفهم فإنهم على خطأ، وأوهموهم بأفعالهم وبأقوالهم أن سلف الأمة والصحابة والتابعين على باطل وضلال وكفرة ومرتدون، ورموهم بالمعائب وأكثروا من العيب فيهم والسلب، لا شك أن هذا من الغش.
كذلك أيضا الذين لم يقبلوا الأحاديث الثابتة في الصحيحين التي تلقتها الأمة بالقبول وصدق فيما تضمنه، لا شك أن هذا أيضا من الغش حيث أنهم خونوا الصحابة وكذبوهم؛ أي اتهموهم بأنهم يكذبون على النبي -صلى الله عليه وسلم -أو كذبوا التابعين أو رواة الحديث الذين وثقهم العلماء والذين عرفوا صدقهم؛ اتهموهم بأنهم يتقولون ويكذبون ويدخلون في السنة ما ليس منها، واتهموا أيضا أهل الكتب الصحيحة وقالوا: إنهم رووا من الأحاديث ما لا أصل له، وأن الصحيحين والسنن وما أشبهها أنهم أنها مشحونة ومملوءة بالأكاذيب فلا يصدقون منها إلا ما يوافق معتقدهم.
وهكذا أيضا من الغش أولئك الذين يروون الأحاديث الموضوعة التي يظهر الوضع عليها، ويتبين أنها مكذوبة على النبي -صلى الله عليه وسلم- لا أصل لها فيروجونها ويصدقون بها ويثبتونها في معتقداتهم، كما يظهر ذلك في كتب الرافضة، وكذلك في كتب المعتزلة ومنكري القدرة ومنكري العلم، وفي كتب الجبرية والمرجئة وما أشبه ذلك، وهكذا في كتب المقلدة وفي كتب الملاحدة الذين هم الاتحادية، وفي كتب المتصوفة والفلاسفة ونحوهم، يوجد فيها الكثير من الأحاديث التي لا أصل لها، فنعرف أن هذا كله داخل في الغش في الدين، وأن الغش في قوله صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا ليس خاصا بالغش في السلع في المبايعات وفي السلع التي تعرض للبيع، بل يعم ذلك الغش في العبادات والغش في المعتقدات.