الثمرات الجنية شرح المنظومة البيقونية
تدليس التسوية وتدليس الشيوخ
والثّانِ لا يُسقطهُ لكن يَصِف | أوصافهُ بما بِه لا يَنْعَرِف |
وهناك تدليس شر منه، ويُقال له: تدليس التسوية وهو: أنه لا يسقط شيخه ولكن يسقط شيخ شيخه؛ لأن شيخه ليس بمدلس، فيسقط شيخ شيخه، ويركب الإسناد برجال كلهم ثقات، فهذا تدليس التسوية، وهو شر أنواع التدليس، واشتهر به اثنان من الرواة، أحدهما بقية بن الوليد اسم> وثانيهما الوليد بن مسلم اسم> اشتهرا بتدليس التسوية، وقد ذكروا أن الوليد بن مسلم اسم> قالوا له مرة: إنك تروي الحديث عن الأوزاعي اسم> عن نافع، اسم> وعن الأوزاعي اسم> عن الزهري، اسم> وعن الأوزاعي اسم> عن يحيى بن سعيد، اسم> وغيرك يدخل بينه وبين نافع بن عبد الله بن عامر، اسم> وبينه وبين الزهري إبراهيم بن مرة اسم> وقرة اسم> وغيرهما، فما يحملك على هذا؟ قال: أُنَبِّل الأَوزاعي اسم> أن يروي عن مثل هؤلاء إِلخ أي: أكرمه أن يروي عن هؤلاء لكن قد قيل إن تفرُّد الأوزاعي اسم> بهذه الأحاديث الضعاف التي تفرَّد بها عنه الوليد بن مسلم اسم> عن أولئك الثقات من مشايخ الأوزاعي اسم> سبب للطعن في الأوزاعي اسم> لتفرده بها عن الثقات.
فقالوا له: إنك إذا جعلت هذا الإسناد مركبا كذلك حصل الطعن على الأوزاعي، اسم> كيف أن هذا الإمام يروي هذه الأحاديث الضعيفة فتكون من أفراد الأوزاعي اسم> لا من أفراد عبد الله بن عامر اسم> أو إبراهيم بن مرة اسم> أو شهر بن حوشب اسم> الذين هم ضعفاء، فيصير الطعن على الأوزاعي؟ اسم> فيقال: الأوزاعي اسم> أتى بالمنكرات والمعضلات، فتكون أنت السبب؛ حيث إنك أسقطت الضعفاء، ولكنه لم يبالِ بكلام من نصحه، هذا هو الوليد بن مسلم اسم> المشهور بتدليس التسوية مع عدالته وثقته وحفظه.
ومثله ( بقية بن الوليد اسم> ) فهو مشهور أيضا بتدليس التسوية، وفيه يقول بعض العلماء أحاديث بقية اسم> ليست نقية، فكن منها على تقيّة. أي على حذر، وقد تجده مصرحا بالتحديث بأن يقول: حدَّثنا بقية بن الوليد اسم> حدَّثنا هشيم، اسم> عن الزهري اسم> ولكن لا ينفعه تصريحه بالتحديث؛ لأنه يسقط شيخ هشيم اسم> الذي بينه وبين الزهري، اسم> ويسقط شيخ الأعمش اسم> فيحدث عن الأعمش اسم> عن ثقات، وهكذا.
فالحاصل أن تدليس التسوية هو شر أنواع التدليس والسبب:
أولاً: أن الناس ينخدعون به إذا رأوه قد صرَّح بالتحديث، فإذا قالوا: فيه بقية بن الوليد اسم> وهو مدلس، وقد صرح بالتحديث، فيقبلون حديثه وما فهموا أنه لم يسقط شيخه، وإنما أسقط شيخ شيخه.
ثانيا: أن شيخه الذي حدَّث عنه - حيث قال: حدَّثنا شعبة، اسم> أو قال: حدَّثنا سفيان اسم> - ليس من أهل التدليس، فإذا رأيناه روى عن قتادة اسم> قلنا: هذا الإسناد ثابت ولو بكلمة عن بأن قال: حدَّثنا شعبة اسم> عن قتادة، اسم> فقد يكون بينهما يزيد بن أبي زياد اسم> أو ليث بن أبي سليم اسم> أو عوف الأعرابي اسم> أو غيرهم ممن فيه ضعف، فأسقطه بقية بن الوليد اسم> مع أن شعبة اسم> ليس من أهل التدليس، بل يذمُّ التدليس، فلو رآه الباحث قال: هذا إسناد مقبول، هذا إسناد ثابت، صرح فيه بقية بن الوليد اسم> بالتحديث قال: حدَّثنا شعبة، اسم> وشعبة اسم> ليس من المدلَّسين، وقد رواه عن قتادة اسم> فيصير شر أنواع التدليس؛ لأن شيخه ليس من أهل التدليس، وقد رواه بالعنعنة عن قتادة اسم> ولم يتجرأ أن يقول فيه: حدَّثنا قتادة اسم> وشعبة اسم> ما قال حدَّثنا قتادة اسم> فإنَّ شعبة اسم> كثيرا ما يقول: عن قتادة، اسم> ولا يدل أن بينه وبينه واسطة، وإنما للاختصار مثلا.
تدليس الشيوخ رأس>
وهناك تدليس آخر وهو الذي أشار إليه الناظم، وهو أن يوصف الشيخ بما لا يتميز به، بأن يكني المسمى أو يسمي المكني، أو يذكره باسم غير مشهور به، أو ما أشبه ذلك، فغالبا ما يفعل ذلك المدلسون إذا رووا عن إنسان مشهور بالضعف، لم يصرحوا باسمه ليقبل حديثه، فمثلا هناك عبد الله بن المسور الهاشمي اسم> مشهور بالضعف، بل بوضع الحديث، كان يضع أحاديث كلام حق ليست من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيركب لها إسنادا ويجعلها مرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيروي عنه أناس ولا يذكرونه باسمه، أي: لا يصرّحون به فيقول أحدهم: حدَّثنا الهاشمي، اسم> أو حدَّثنا عبيد الله الهاشمي، اسم> أو يُكَنُّونُه بأن يقولوا: حدَّثنا أبو هاشم، اسم> أو ما أشبه ذلك، فالذي يرى الحديث قد يقول: هذا حديث رجاله مستورون، وإنَّما يتفطن لهذا أهل المعرفة بالحديث، إذ الرجل لم يكن اسمه واضحا مشهورا بالضعف أو بالكذب.
ومثله تلاميذ الكلبي اسم> يدلسون اسمه أيضا، فالكلبي اسم> اسمه محمد بن السائب بن بشر الكلبي اسم> وكنيته أبو سعيد وليس مشهورا بالكنية، فيروي عنه بعضهم ويقول: عن أبي سعيد، ويسمعه إنسان فيتبادر إلى فهمه أنه الخدري اسم> الصحابي الجليل، مع أنه الكلبي، اسم> والكلبي اسم> كذاب، كذلك قد يسقط بعضهم أباه فيقول: حدَّثنا محمد بن بشر اسم> وهو ليس مشهورا بذلك بل مشهور باسمه محمد بن السائب بن بشر اسم> ومشهور بالكلبي، اسم> فإذا قال: محمد بن بشر، اسم> وأسقط السائب توَهم البعض أنه غيره فقبلوا حديثه.
هذا هو التدليس في الشيوخ؛ بحيث إنه لا يميز شيخه، ولا يذكره بالوصف الذي يعرف به، كذلك لو لم يذكره إلا بالاسم العَلَم، كأن يقول: حدَّثنا إسحاق، اسم> وهناك عشرة مشايخ اسم كل منهم إسحاق، وفيهم ضعيف، وفيهم ثقة، وفيهم متوسط، فسكت ولم يميز، فإنَّ هذا تدليس أيضا.
(فتدليس الإسناد) -وهو الأكثر- يعني: أن يسقط الراوي شيخه ويحدَّث عن شيخ شيخه بعن أو بأن.
(وتدليس التسوية) يعني: أن يسقط الراوي شيخ شيخه، ويجعله عن شيخه، عن الشيخ الثالث.
(وتدليس الشيوخ): بأن يصف شيخه بما لا يتميز به، أي: بصفة لا يعرف بها حقاَّ أنه فلان.
وكلها تعد طعنا في الراوي متى عُرِفَ أن هذا الراوي تعمد هذا التدليس.
متى يقبل حديث المدلس؟:
وإذا قيل: متى يقبل حديث المدلس؟ فالجواب: يقبل إذا صرَّح بالتحديث، فإذا قال: حدَّثنا فإنه يقبل حديثه؛ لأنه لا يتجرأ على الكذب في مثل هذا، بل يتحاشى أن يكذب بأن يقول: (حدثنا) وهو ما حدَّثه، فكلمة حدَّثنا وأخبرنا وسمعت صريحة بأنه تلقاه عنه، بخلاف كلمة عن وأن وقال فإنَّها محتملة أنه سمعه منه أو لم يسمعه منه، فهذا هو التدليس المشهور.
بواعث التدليس:
وقد يكون قصده قصدا مناسبا ، وقد يكون قصده تكثير مشايخه، كما ذكروا ذلك عن الطبراني اسم> صاحب المعاجم التي رتبها على مشايخه، ليعرف بذلك كثرة مشايخه الذين حدَّث عنهم، فهو يروي عن شيخه الذي اسمه أحمد حديثا أو أكثر، ثم عن شيخ له آخر اسمه أحمد بن فلان حديثا أو أكثر إلى أن يكمل من اسمهم أحمد، وقد يذكر أحدهم باسميه مثلا، أوله كنية فيذكره مع الأسماء ومع الكنى، حتى يُقال: إنه حدَّث عن ألف شيخ، أو عن خمسة آلاف أو ما أشبه ذلك . فإذا لم يتميز ولم يُعرف يكون هذا الشيخ مجهولا فيرد حديثه وترد روايته.
فإن قيل: ما حكم القراءة من كتاب بصيغة: روى الترمذي اسم> ويُذكر الحديث بدون إسناد، هل هذا تدليس؟
قلنا: إذا قال: رواه الترمذي، اسم> فقد عزاه إلى من أسنده فصاحب ( رياض الصالحين ) يقول: رواه الترمذي، اسم> ولا يُقال هذا تدليس.
ضابط التدليس:
إذًا ما ضابط التدليس؟ لو وصل إليك حديث بالإسناد، بينك وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثلا ثلاثون راويا، يعني: سمعت هذا الحديث عن شيخك فلان وسمعه شيخك عن شيخه فلان، إلى أن وصل إلى الصحابي وبينك وبينه ثلاثون راويا ترويه بالأسانيد، فأنت إذا أسقطت شيخك الذي سمعته منه، ورويته عن شيخ قد لقيته، ولكن ما سمعت منه هذا الحديث فقد صرت مُدَلِّسا لهذا الحديث تدلس الإسناد، فإذا لم تسقط شيخك الأول ولكن أسقطت شيخ أحد المشايخ الذين فوقك وقد لقيه ذلك الشيخ لكنه هنا رُوي بواسطة فأسقطت الواسطة فإن هذا تدليس تسوية، فأما روايتك من كتاب قد دُوِّن وطُبع واشتهر فإنه يجوز لك أن تعزو إليه وتسقط الإسناد.
والمدلس لا يلزم إطراح كل رواياته، بل إذا تحققنا أن هذا الحديث ثابت من طرق أخرى اعتبرنا روايته له كشاهد ومقوِّ، أما إذا تفرد بالحديث فإنه لا يقبل.
الفرق بين التدليس والمرسل الخفي :
فإن قيل: ما الفرق بين التدليس والمرسل الخفي؟
قلنا: بينهما فرق ظاهر ذكره ابن الصلاح اسم> في علوم الحديث؟ لأن المرسل الخفي هو: أن يروي الراوي حديثا عن شيخ لم يسمع منه وقد عاصره.
وأما المُدَلِّس فيروي عن شيخه الذي سمع منه أحاديث حديثا ما سمعه منه .
المرسل الخفي رأس>
(فالمرسل الخفي ) أن يروي عمن في زمانه ومن عاصره شيئا لم يسمعه منه، والمدلس أن يروي عن شيخه ما لم يسمعه منه.
نقول مثلا : أنت أدركت من المشايخ في هذه البلاد الشيخ عبد الله بن حميد اسم> وعاصرت الشيخ عبد الله بن عدوان اسم> ولكنك لم ترو عنه، فتحديثك وروايتك عن ابن حميد اسم> حديثا ما سمعته منه يسمى تدليسا؛ لأنك رويت عنه وجلست عنده، أو سمعت كلامه في الحرم اسم> أو في الرياض اسم> فرويت عنه شيئا لم تسمعه منه، فهذا تدليس، أما روايتك عن ابن عدوان اسم> فتسمى مرسلا خفيا، لأن زملاءك هؤلاء قد يقولون: يمكن أنه سمع منه لأنه عاصره؛ ولأنه في بلاده، ولكنك ما سمعت منه؛ لأنه توفي من زمن قديم سنة (1374هـ) فتحقق أنك لم ترو عنه، فنقول: إن هذا مرسل خفي. فالتدليس بأنواعه مذموم لأنه حديث مروي عنهم، فعليه أن يبين رجال الحديث الذي نقله عنهم، ليُرجع إلى تراجمهم، ويُبحث في الحديث، ليحكم بعد ذلك بأنه صحيح أو غير صحيح.
مسألة>