ثم إن أهم الأركان بعد الشهادتين الصلاة ، فإنها عمود الإسلام، وناهية عن الفحشاء والآثام، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن غيرها ومن تركها وضيعها فهو لغيرها أضيع وأضيع، سماها الله تعالى عماد الدين، وأخبر بأنها مما يستعين به المسلم، قال الله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ المعنى: استعينوا بها على أمور دينكم وعلى أمور دنياكم.
وأخبر بأنها ثقيلة يعني شاقة على المنافقين وعلى المتكاسلين، فإذا رأيت من يستثقل الصلاة فاعلم أنه منافق أو أنه كافر، وإذا رأيت من يواظب عليها فاعلم أنه من الخاشعين، وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ يعني: أهل الخشية وأهل الخشوع وأهل المحبة هؤلاء تكون الصلاة عليهم تكون لذة لهم وراحة لنفوسهم، وقدوتهم في ذلك نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه كان يقول: جعلت قرة عيني في الصلاة كأنه إذا كان في غيرها لا تقر عينه ولا يجد راحة حتى يدخلها، فإذا دخلها قرت بها عينه، وكان يقول لمؤذنه: أرحنا يا بلال بالصلاة ولا يقول: أرحنا منها.
( أرحنا بها ) أي عجل بها حتى ندخل في الصلاة فنجد فيها الراحة ونجد فيها اللذة ونجد فيها البهجة، فتعتبر واحة الأبدان، وتعتبر سرور القلب، وتعتبر قرة العين، وتعتبر سلوة وعلاجًا، تعتبر علاجًا ودواءا، ولذلك قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ استعينوا بها على أمور دينكم وعلى أمور دنياكم، استعينوا بها على أعدائكم، استعينوا بها على أرزاقكم، استعينوا بها على علاجكم، وعلى جميع شؤونكم.
كما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. يعني: إذا اهتم بأمر من الأمور الدنيوية أو الدينية فزع إلى الصلاة، فإذا دخلها وجد فيها الراحة والطمأنينة، إذا جاءه ما يهمه أو ما يحزنه أو ما يغمه لم يجد مفزعًا إلا الصلاة فرضًا أو نفلا، وهكذا يكون المسلم.
ذكر أيضا أنه مر على أبي هريرة رضي الله عنه وهو يتألم فقال: أتشتكي بطنك؟ قال: نعم. قال: عليك بالصلاة أي: افزع إلى الصلاة وبادر إليها، كأنه جعلها دواءا، جعلها علاجا، فهذه حال أهل الخير وأهل الصلاح الذين يحبون هذه الصلاة ويفزعون إليها، أنهم قدوتهم النبي صلى الله عليه وسلم، يسيرون على تعاليمه وعلى إرشاداته، ويتبعونه فيلتذون بها كما كان قدوتهم يلتذ بها.
وأما المنافقون فإنهم يتكاسلون عنها، ذكر الله ذلك عنهم فقال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا فوصفهم بأنهم إذا جاءوا إلى الصلاة فإنهم كسالى بمعنى أنهم متثاقلون، كأن أحدهم يدفع إليها دفعًا، لم يكن هناك دافع إيماني، لم يكن في قلبه محبة لها ولا شوق إليها، وإنما يأتيها رياء أي مجاراة للناس فكأنه يصلي للناس، يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا هؤلاء هم المنافقون، وقال في آية أخرى: وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ هذه صفة المنافقين.
الإنسان إذا رأى من نفسه تثاقلًا؛ إذا تثاقل عن صلاة الصبح وجدها ثقيلة يخشى على نفسه أن يكون من المنافقين الذين تثقل عليهم هذه الصلاة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا يعني: ولو حبوًا على الركب لما فيهما من الأجر، فإذا كان تثقل عليه صلاة العشاء وصلاة الفجر، يلتذ مثلًا في صلاة العشاء بما يسمعه من الأفلام الخليعة أو من الصور الفاتنة أو من الأغاني والملاهي أو ما أشبهها؛ فإنه والحال هذه يخشى عليه أن يكون من المنافقين، وكذلك صلاة الفجر يتثاقل عنها حيث يلتذ بالنوم ويلتذ بالراحة ويدع هذه الصلاة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم بما فيها من الأجر.
فلذلك على المسلم أن يبتعد عن صفة الكفار وعن صفة المنافقين التي هي التكاسل عن هذه الصلاة، فقد جاء في الأدلة بأن تركها كفر، وتوعد الله عليها فقال الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا قيل: إن ( غي ) واد في جهنم شديد الحر، ما ذكر من ذنوبهم إلا أنهم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات؛ أي أخلوا بالصلاة؛ إما أن يتركوها حتى لا يصلوها أبدا، وإما أن يؤخروها عن أوقاتها حتى يخرج الوقت، لماذا؟ اتبعوا الشهوات، يقول أحدهم: لا أصلي وأنا أسمع هذه الأغنية، لا أقوم أصلي وأنا أنظر إلى هذا الفيلم أو هذا الصوت الرنان أو هذه الصور الشيقة أو هذا الكلام الشيق أو ما أشبه ذلك، فيؤثر قرآن الشيطان ويؤثر الصور الفاتنة على عبادة ربه.
أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ يدل على أنه لا بد من التوبة، وأن هذا كأنه عمل مخرج من الملة يحتاج معه إلى التوبة.
ومن الأدلة التي تقرأونها قول الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ توعدهم مع أنهم يصلون ولكن يسهون عنها، الويل: شدة العذاب، ( ويل ) أي شدة عذاب للذين يصلون ولكن يسهون عن صلاتهم. يقول ابن مسعود أَمَا إنهم لم يتركوها، ولو تركوها لكانوا كفارا؛ ولكن أخروها عن وقتها.
( ساهون ) يعني غافلون عنها، متشاغلون عنها، يقدمون عليها شهواتهم، يقدمون عليها سهوهم وكلامهم السيئ، ويقدمون عليها لذة أبصارهم من النظر إلى صور ونحوها، يقدمون عليها لذة أسماعهم من الأغاني وما أشبهها، يقدمون عليها في نظرهم لذة نفوسهم، وما علموا أن هذه اللذة يعقبها حسرة، يعقبها ندم، فإن لذة الدنيا فانية، ولذلك يقول بعض الشعراء:
تفنـى اللـذاذة ممـن نـال صفوتها | مـن الحـرام ويبقى الإثم والعـار |
تفنـى اللـذاذة ممـن نـال صفوتها | مـن الحـرام ويبقى الإثم والعـار |
تبقـى عـواقب سوء لا مصير لهـا | لا خـير في لـذة من بعدها النـار |
مسـرة أحـقـاب تلقيت بعـدهـا | مسـاءة يـوم إنها شبـه أنصـاب |
فكـيف بأن تلـقى مسـرة سـاعة | وراء تقضيهـا مسـاءة أحـقـاب |
أحــلام لـيـل أو كظـل زائــل | إن الـلـبيـب بمثـلهـا لا يخـدع |