أخبار الآحاد
الفصل الثاني تعريف المتواتر وشروطه
التواتر لغة: التتابع، وهو مجيء الواحد بعد الآخر، ومنه قوله تعالى: رسم> ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى قرآن> رسم> وهو مأخوذ من الوتر، وهو الفرد حيث أن كل واحد يجيء بعد الآخر منفردا .
وفي الاصطلاح: المتواتر : رأس> ما رواه عدد كثير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم إلى منتهاه وكان مستند انتهائهم الحس وهذا القسم من الحديث يفيد العلم الضروري عند جمهور الأمة، وإنما خالف في ذلك قوم من عباد الأصنام بالهند اسم> يقال لهم السمنية، وهم الذين ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات ولما كان خلافهم تشكيكا في ضروري لم تلزم مناقشتهم.
وشروط المتواتر رأس> المتفق عليها أربعة تستخرج من التعريف:
1- كثرةالعدد، بحيث تحيل العادة والعقل تواطؤهم على الكذب.
2- استمرار تلك الكثرة في جميع طبقات السند.
3- إخبارهم عن علم لا عن ظن.
4- كون مستندهم الحس لا العقل.
وقد احترزوا بالشرطين الآخرين عما إذا كان إخبارهم عن ظن وتخمين، أو مستند انتهائهم العقل فإن ذلك لا يولد العلم بصحة ما أخبروا به، فلا يصدق عليه حد التواتر، فإن الخلق الكثير لو أخبرونا عن حدوث العالم أو قدمه لم يحصل لنا العلم بذلك، حيث إنهم لم يستندوا في ذلك إلى مشاهدته أو الإحساس به، وإنما اعتمدوا على ما أدَّى إليه تفكيرهم، أو استحسنوه بعقولهم، ولذلك لم يحصل لنا العلم بما تقوله الفلاسفة مع كثرتهم من قدم العالم، حيث إن مستندهم في ذلك النظر والاستدلال ، أو الشُّبَه والتوهمات.
وهم كذلك لم يقع لهم العلم بما يخبرهم به المسلمون مع كثرتهم من حدوث العالم، وإذا فلا بد أن يكون المنقول بالتواتر عند انتهائه مما يدرك بالحواس الخمس كالمشاهدة والسماع، واللمس، ونحوها .
وهكذا لا بد أن يخبروا عن علم ويقين، فإن أهل العراق اسم> مثلا لو أخبرونا أنهم رأوا رجلا ظنوه خالدا أو رأوا طائرا حسبوه صقرا لم يحصل لنا العلم بأنه كما ظنوه.
ثم إنه لا يلزم من ذلك تصديق النصارى في أن اليهود قتلوا المسيح اسم> وصلبوه، لأن مرجع النصارى إلى خبر اليهود الذين دخلوا عليه البيت، وهم عدد قليل لا يبعد تواطؤهم على الكذب، ولأنهم لم يكونوا على علم بمن قتلوه، ولذلك كذبهم الله بقوله تعالى: رسم> وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ قرآن> رسم> ولأن المسيح اسم> عليه السلام يجري على يديه من الآيات وخوارق العادات التي هي من معجزاته ما لا يُستبعد معه قلب الحقائق في ما يبدو للناظر، وإن كان محسوسا .
ثم مما يلزم أيضا في رواة المتواتر أن يخبروا طائعين عن جد وقصد، فلا يوثق بخبر عدد كثير أخبروا على طريق المزح أو الإكراه ونحوه.
تحديد العدد في الرواة للمتواتر
تقدم أن من شروط المتواتر أن ينقله عدد كثير، وقد اضطربت الأقوال في تقدير العدد الذي يحصل معه العلم اليقيني بالخبر، والأرجح عدم اعتبار عدد معين، لما يشاهد من اختلاف الأحوال والأشخاص الذي يؤثر في حصول العلم أو عدمه، فإن الرواة قد يكونون من أجلاء الأئمة الثقات، وعدول نقلة الأخبار المشهورين، فيحصل اليقين بما أخبروا به وإن قل عددهم، وقد تحتف بخبرهم قرائن ظاهرة فتزداد الثقة بصدقهم أو ضد ذلك، وأنت خبير بتفاوت الناس في الفهم والإدراك، فكم من عدد قليل يحصل العلم بخبرهم، لما اقترن به من عدالتهم ودينهم، واطمئنان النفس إلى ما نقلوه، ولما اشتهر من علمهم وتثبتهم، مع أن مثلهم أو أكثر منهم لا يحصل العلم بخبرهم، لفقد تلك الصفات التي اقترنت بخبر الأولين، وهكذا يتفاوت السامعون في الفهم والإدراك، ومعرفة القرائن وصفات الناقلين، فيسبب ذلك حصول العلم لبعض السامعين دون بعض.
وبهذا ونحوه يرد على من جعل العدد المفيد للعلم في واقعة مطرد الإفادة في كل واقعة، وقد يسلم هذا أحيانا إذا انتفت القرائن، واتفقت صفات الناقلين والسامعين، ولكن ذلك غير مطرد.
ثم مع انتفاء القرائن لا يتقدر الرواة الذين يحصل العلم بخبرهم بقدر مخصوص، وقد اشترط القاضي أبو يعلى اسم> تبعا لأبي الطيب الطبري اسم> أن يزيدوا على الأربعة ؛ لأن الأربعة بينة شرعية لا يحصل العلم بخبرهم للحاكم، حيث يتوقف الحكم على تزكيتهم.
وهذا غير صحيح، لأن البينة الشرعية فيها نوع تعبد، ولهذا لو شهد عند الحاكم عشرة أو أكثر لم يكن له الحكم إلا بعد تعديل العدد المشترط منهم، ولو علم الحاكم أن هذا الشخص قد زنى أو سرق لم يكن له أن يقيم عليه الحد إلا بشهادة الثقات، ذلك أن الحاكم إنما يقضي بأمر منضبط لا يختلف.
ثم إن من الأصوليين من قدر عدد الرواة للمتواتر فقيل: خمسة وقيل: عشرة، وقيل: إثنا عشر، وقيل: عشرون، وقيل أربعون، وقيل: سبعون، وقيل: عدد أهل بدر اسم> وقيل: كأهل بيعة الرضوان، إلى غير ذلك من الأقوال التي ليس لها مستند صحيح، وقد استدل كل لقوله بذكر ذلك العدد في نص آية أو حديث حصل العلم بهم في ذلك الأمر ولكن تلك النصوص لم تتعرض لحصر حصول العلم بذلك العدد، ونفيه عن ما دونه مما هو محل النزاع.
2- وموافقة علي اسم> رضي الله عنه على ذلك، ورضاه أن يكون تحت ولاية الخلفاء الثلاثة قبله.
3- وكون هذا النص الصريح في العهد إليه لم يظهر إلا بعد موته بمدة طويلة، وهكذا لم نصدق اليهود في نقلهم عن موسى اسم> أنه قال: لا نبي بعدي. حيث أن اليهود لم يكن عندهم من العلم والحفظ والعناية مثل ما عند هذه الأمة، ولم يلتزموا الإسناد، وينقحوا الرواة كما في هذه الأمة؛ وقد أخبرنا الله أن علماء اليهود رسم> يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ قرآن> رسم> وأنهم رسم> يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قرآن> رسم> وأنهم رسم> يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا قرآن> رسم> كما أخبرنا أنهم يجدونه صلى الله عليه وسلم: مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وأن عيسى اسم> بشر به .
ثم إن هذا التواتر إنما طرأ عندهم أخيرا ، وكثر نقلته؛ اعتمادا على تلك الكتب المفتراة، وقد فقد شرط الكثرة فيهم أولا حينما قتل بختنصر اسم> أكثرهم، وشرد من بقي منهم.
شروط أخرى للمتواتر غير صحيحة .
1- أن لا يحصر الرواة عدد، ولا يحويهم بلد: وهذا فاسد، فإن الغزاة والحجيج مثلا لو أخبرونا بأمر صدهم عما قصدوه لحصل العلم بذلك وهم محصورون وكذا نجزم بصحة ما يقوله أهل المسجد من أمر منعهم عن الجمعة، وقد حواهم مسجد، فضلا عن بلد.
وقد ذكرنا أن العبرة بكثرة العدد، بحيث لا يتصور اجتماعهم على الكذب.
2- شرط العدالة والإسلام : حيث أن الكفر والفسق مظنة الكذب والتحريف ، ولئلا يلزم القول بصدق اليهود في نقلهم عن موسى اسم> بقاء شريعته، والنصارى في أن المسيح اسم> قتل وصلب.
وقيل : إنما يشترط الإسلام إذا طال الزمان ؛ وهذا له وجه من النظر وجمهور الأصوليين على عدم اشتراط الإسلام والعدالة؛ وذلك أن حصول العلم إنما هو عن وجود الكثرة التي يقطع معها بعدم إمكان التواطؤ على الكذب، لتفرقهم واختلاف آرائهم، وقد أشرنا قريبا إلى سبب انتفاء العلم عن خبر اليهود ببقاء دينهم، والنصارى بقتل المسيح اسم> وصلبه، فليس رد ذلك بسبب الكفر فقط.
3- اختلاف أنساب الرواة وأديانهم وبلادهم وليس هذا بلازم ، حيث إن وجود الكثرة دافع عن إمكان التواطؤ على الكذب، ولو كانوا في بلد واحد.
4- اشتراط كونهم من أولياء الله المؤمنين: والصحيح عدم اعتبار ذلك، لحصول العلم بخبر الفسقة وأهل البدع إذا تمت الشروط المتفق عليها.
5- شرط الرافضة أن يكون المعصوم في جملة الناقلين: وهو فاسد، فإنه حينئذ لا حاجة إلى خبر غيره، لحصول العلم بخبره وحده لعصمته مع أن هذا المعصوم عندهم خيالي، ولا وجود له في الخارج، فإن الله لم يضمن العصمة إلا لرسله عليهم السلام فيما يبلغون عن الله تعالى.
6- شرط اليهود أن يكون المخبرون من أهل الذلة والمسكنة: أو أن يكون فيهم منهم، قالوا: لأنهم الذين يتحاشون الكذب، ويلتزمون الصدق، مخافة العذاب الأخروي، ورجاء لثواب الصدق وهذا باطل ولا يتحقق ما قالوه فيهم، بل قد يكون الأمر بالعكس، فإن أهل الذلة والصغار قد لا يتحاشون الكذب، لدناءتهم وخستهم ورداءة نفوسهم بخلاف أهل الوجاهة والشرف ، وذوي المروءة والفضل ، فإن حفاظهم على شرفهم يحجزهم عن الكذب الذي يشينهم، ويسيء سمعتهم. ولعل اليهود قصدوا من وراء هذا الشرط التوصل إلى إبطال العلم بما تواتر من معجزات عيسى اسم> ونبينا محمد اسم> عليهما الصلاة والسلام ، حيث إن النقلة لهذه المعجزات لم يكن فيهم أحد من الذين ( ضربت عليهم الذلة والمسكنة ) وهم اليهود أنفسهم.
مسألة>