اختار بعض العلماء أن وقت الختان في يوم الولادة، وقيل في اليوم السابع، فإن أخر ففي الأربعين يوما، فإن أخر فإلى سبع سنين وهو السن الذي يؤمر فيه بالصلاة، فإن من شروط الصلاة الطهارة ولا تتم إلا بالختان، فيستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب.أما وقت الوجوب فهو البلوغ والتكليف، فيجب على من لم يختتن أن يبادر إليه عند البلوغ ما لم يخف على نفسه    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. القلوب أوعية؛ منها ما يستوعب الخير، ومنها ما يستوعب الشر. وأفضل القلوب هي التي تمتلئ بالخير،تمتلئ بالعلم وتمتلئ بالدين والعبادة، تمتلئ بالعلم النافع والعقيدة السليمة، هذه هي القلوب الواعية، وهي أرجى القلوب لتحصيل الخير لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه
أخبار الآحاد
47821 مشاهدة
أدلة من قال إن خبر العدل يفيد العلم وبيان ما يرد عليها والجواب عنه

أدلة إفادة خبر الواحد العلم :
(1) حيث اعتقد المسلمون وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولزوم امتثال طلبه، وتقبل كل ما جاء به عن ربه.
(2) وبعد أن عرفت أن الحكمة التي هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة القرآن، في كونها وحيا منزلا من الله ، كما في قوله تعالى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ .
(3) وحيث إن السنة مما يتلى على الأمة ليعملوا بما فيها كالقرآن، لقوله تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ
(4) وأنها من الشرع المنزل كالقرآن، لقوله صلى الله عليه وسلم : أوتيت القرآن ومثله معه فإن كل ذلك ونحوه يؤكد أن لهذه الأخبار النبوية حكم الشرع ، من حفظ الله وحمايته ؛ لتقوم حجته على العباد، لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فلا بد أن تكون السنة داخلة في اسم الذكر الذي تكفل الله بحفظه، فمن جعلها ظنية الثبوت أجاز أن تكون في نفس الأمر كذبا مع نسبتها إلى شرع الله ، وأجاز أن يكون قد دخلها التغيير والتبديل والتحويل مما كانت عليه ، والزيادة والنقص ، والنسيان والإهمال ونحو ذلك، ولا شك أن في هذا تكذيبا لله في خبره بحفظها ، ثم هو وصف له بما لا يليق بحكمته وعدله من إضاعة دينه، وتضليل عباده، وغير ذلك مما يتعالى عنه جلاله وكبرياؤه سبحانه .
(5) أن أغلب أحاديث السنة جاءت مكملة ومبينة للأصول المذكورة في القرآن الذي أجمل الله فيه أغلب الأحكام، ووكل إيضاحها وتمثيلها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، بل كلفه بذلك حيث قال: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وكذلك أمره بتعليم الناس والحكم بينهم حيث قال : لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ .
كما أمره بإبلاغ ما أنزله إليه بما فيه السنة بقوله: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وقد امتثل صلى الله عليه وسلم هذه الأوامر من ربه، حيث بلغ الرسالة وأوضح الأحكام المجملة في القرآن، ثم تقبل صحابته بعده جميع ما بيَّن وبلغ إليهم فعملوا به ونقلوه لمن بعدهم كما هو.
فلو جاز أن يتطرق إلى ذلك البيان شيء من الوهم والخطأ لبقي المسلمون في حيرة من مراد الله بتلك الأحكام، ولم يعلموا على أي وجه يوقعونها ، ولم يتحققوا أن ما بينه نبيهم صلى الله عليه وسلم وصل إليهم كما هو .
وكل هذا مما ينافي مقتضى حكمة الله وشرعه ودينه، فلا بد أن تكون هذه السنة محفوظة على الأمة، مصونة عن تطرق الخطأ إليها ، ليحصل لهم الانتفاع بهذه الأصول عن يقين ولتقوم عليهم حجة الله .
(6) أن الذين جعلوه مظنونا -ولو مع القرائن- يجوزون أن يكون في نفس الأمر كذبا أو خطأ ثم هم مع ذلك يوجبون العمل به مع ما يخالج نفوسهم من احتمال كونه باطلا ، والعمل به ضلالا وأمرا مبتدعا .
ولا شك أن هذا التوقف في ثبوته مع كونه خلاف الظاهر يدفع الثقة بأصول الدين وفروعه التي تلقي أغلبها عن طريق الآحاد؛ ويفتح الباب على مصراعيه لكل من أراد الطعن في شعائر الإسلام وتعاليمه بكون أدلته متوهمة مشكوكا فيها ، ويجلب لنا سوء الظن بسلفنا الصالح الذين تقبلوا هذه الأخبار وحكموا بها، واستباحوا بها الحرام ، وسفكوا بها الدماء، وتصرفوا بها في سائر الأحكام ، حيث اعتمدوا أدلة غير متحققة الثبوت .
فيتسلط من ها هنا الأعداء عليهم بثلبهم وعيبهم بالتخرص والظن في الدين ، ويكون هؤلاء العلماء هم الذين سلطوهم عليهم وعلى أنفسهم من حيث لا يشعرون ، فنحن نتحقق أن أولئك الأئمة من السلف يرجعون إلى هذه الأخبار لصحتها عندهم ، فلهذا يدعون لها سائر الآراء والاستحسانات، ولم يكونوا يقابلونها بشيء من الأقيسة أو القواعد أو أقوال المشايخ .
وكل هذا مما يحقق لنا أن قد تبينوا ثبوتها، واستفادوا منها العلم اليقيني الذي لا تردد فيه البتة .
وأمثلة قبولهم لها تأتي إن شاء الله في أدلة العمل بالآحاد .
(7) أن هؤلاء المخالفين لما رأوا شهرة قبولها، والرجوع إليها عن السلف وفي مؤلفات أئمتهم الذين قلدوهم في الفروع - لم يجدوا بدا من الحكم بقبولها في الأعمال ، وهذا تناقض ومخالفة لما اعتقدوه من كونها ظنية الثبوت .
وما ذاك إلا لأن الأصل براءة الذمة، فلا تثبت التكاليف بخبر يمكن أن يكون موضوعا مختلقا .
وقد اعتقدوا أن السلف إنما عملوا بها وإن كانت مظنونة لأن أدلة العمل يجوز أن تكون ظنية.
وهذا خطأ على السلف، فإنهم لو لم يكونوا يقطعون بصحتها لم يقدموا على العمل بموجبها ، وإثبات الأحكام بها أصولا وفروعا كما سيجيء إن شاء الله.
وما أدري ما حال عبادات هؤلاء التي فعلوها وقد قارن أنفسهم من الشك والريب في صحة أدلتها ما لابدَّ لهم منه بموجب مذهبهم .
ولا شك أن من كان بهذا الاعتقاد لن ينفك من الوساوس في كل قربة يأتي بها، أو أمر يمتثله، من كون ذلك بدعة أو مغيرا عن وضعه الأصلي .
ولا بد أيضا أن يعتقد أن شريعة الله قد اختلط بها ما ليس منها، وامتزجت بما هو كذب، وأنه ليس في الإمكان تخليص دين الله من تلك البدع التي دخلت فيه بموجب تلك الأخبار التي يمكن كونها مكذوبة، ومن ظن شيئا من ذلك فقد أجاز على المؤمنين أن تكون قرباتهم صادرة عن جهل ، ومبعدة لهم عن الله ، وجوز على الدين أن يكون قد تنوسي منه الكثير، وتغير ما فيه عما كان عليه ، وعبثت به الأيدي، وكل هذا خلاف ما تقتضيه حكمة الله ، وخلاف اعتقاد المسلمين جميعا ، وهو من لازم قول هؤلاء شاؤوا أم أبوا.
(8) أنهم مع توقفهم في صحة أخبار أولئك الثقات من السلف يصدقون بما تلقوه عن رؤوس الجهمية والمعتزلة، من تلك الأدلة التي يزعمونها براهين عقلية، وهي في الحقيقة خيالات وتمويهات، ولكنها مع ذلك تفيد العلم عندهم. وما ذاك إلا لثقتهم بمشايخهم الذين علموهم تلك القواعد، مع أن المرجع فيها غالبا إلى الفلاسفة، وضلال الصابئة والمجوس واليونان، ونحوهم من الكفرة. فلم يعطوها حكم الآحاد الذي جعلوه للأخبار النبوية، وهو كونها مظنونة متوقفا في ثبوتها .

(9) أنهم يتحققون نسبة أقوال أئمتهم إليهم، ويجزمون بكونها مذاهب لهم ، ويجادلون عنها ويتفانون في نصرتها؛ ولو شك فيها أحد لأنكروا عليه واستجهلوه.
مع أن نقلها عن أولئك الأئمة إنما كان عن طريق الآحاد.
ومع ما يوجد بينها من التضارب والتناقض أحيانا مما يوضح أن قد دخلها الوهم والتغيير.
ولم يكن شيء من ذلك سببا لتوقفهم فيها، ولم يعطوها حكم الآحاد في أنها مظنونة لا تفيد اليقين.
(10) أن من المتيقن عندهم أيضا نسبة المؤلفات التي بأيديهم في سائر العلوم إلى أهلها، وإضافة ما نقلوه منها إلى من اشتهرت باسمه عن طريق الجزم، مع استمرار العزو إليها وإلى مؤلفيها، مع أنها لم ترو في الغالب عن أربابها إلا بأسانيد محصورة لا تخرج عن كونها آحادا .
ولم يوجد من ينكر صحة نسبتها أو يعطيها أحد حكم الآحاد.
بل إنهم يتحققون نسبة مؤلفات من قبل الإسلام بزمن طويل، ككتب أرسطو ونحوه مع ما تعرضت له من العبث بها والتصرف فيها. وكل هذا لم يمنع كونها صحيحة عمن نسبت إليه، مقطوعا بها.
(11) ما هو متداول بين المسلمين وغيرهم من نسبة كل قول إلى قائله، وقبوله ممن نقله وإن كان واحدا ، ومعاملة قائله بموجبه مدحا أو ذما .
 وهذا ما لا يمكن إنكاره ؛ ولم يسمع أن أحدا قال : إنه لا يفيد العلم ، أو لا يصدق باطنا ، كما جعلوا ذلك لخبر الآحاد في الحديث النبوي.
(12) اعتماد كل تلميذ على أنواع العلوم التي يتلقاها عن شيخه، واعتقادها، والتفريع عليها، والذب عنها، مع أن أستاذه فيها واحد، نقلها عمن فوقه ، وقد يكون أيضا واحدا . ولكن لثقته بشيخه، ومعرفته منه الصدق والعدالة، لم يوجد منه التوقف فيها ، ولا قال أحد إنها لا تفيد إلا الظن .
فلو أعطاها هؤلاء حكم الآحاد الذي زعموه للأخبار النبوية لما كانوا على يقين من علومهم العقلية والنقلية ولا محيص لهم من أحد أمرين :
أ- الاعتراف بأن جميع ما تعلموه وما يعتقدونه كله ظن .
ب- القول بأن علماءهم امتازوا عن سلف الأمة ونقلة الحديث وفضلوهم، بحيث صار خبر علمائهم يفيد اليقين، وخبر المحدثين عن نبيهم مهما بلغوا من الصدق والثقة والحفظ والديانة إنما يفيد الظن، وهذه مباهتة، يردها العقل وواقع الأمر
(13) أن كل عاقل يضطر إلى الجزم بخبر العدل بعقله، وإن أنكر ذلك بلسانه عنادا‌ً، وشاهد الحال أوضح برهان على ذلك؛ فإن الإنسان يسمع خبرا بقدوم صاحبه أو قريبه فيتلقاه من بعيد ، أو يزوره، مع ما يناله في ذلك من المشقة أحيانا أو الانقطاع عن العمل ، ويعمل بخبر رسول صاحبه إليه فيعطيه ما طلبه ولو نفيسا ، وقد يذهب معه تاركا أعماله وأمواله ولو خالجه شك أو توهم في صدق هذا الخبر لما أقدم على إنهاك بدنه ، أو إضاعة وقته ، فلا بد أنه جازم بصحة الخبر الذي نقله فرد من عامة الناس ، ومما لا يستطاع إنكاره عمل العوام بخبر الواحد، وهم لا يعرفون هذا الاصطلاح ، فترى أحدهم يقدم على تجشم المشاق، وركوب الأخطار لمجرد خبر قد يكون بكتاب أو بهاتف ونحو ذلك ، فيبني عليه أسفارا ونفقات ، وإضاعة أوقات ، لجزمه بصدق ذلك القائل .
وهكذا تقوم حركات الناس في أسواقهم على خبر الواحد ، فتراهم يزيدون في قيم السلع أو ينقصون، أو يجلبونها إلى البلاد النائية ونحو ذلك بناء على نشرة أو إذاعة أو مكالمة وما ذاك إلا لاعتقادهم صحة الخبر، وتجربتهم صدقه مرة بعد مرة .
(14) ما هو متواتر عن السلف والمحدثين وغيرهم من جزمهم بالأحاديث النبوية كثيرا ، وإضافتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تصريحا ، وحكمهم بصحة ما ثبت عندهم منها ، وهكذا تفريقهم عند نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم بين الصحيح والضعيف والمشكوك فيه، بحيث يذكرون الأول بصيغة الجزم ، والثاني بصيغة التمريض، مما هو صريح في قطعهم بالصحيح، وعلمهم بصدوره عمن نسب إليه. ولو كان الجميع سواء في إفادة الظن لما فرقوا بينهما بما ذكر.
 فأنت تراهم دائما يقولون : صح عنه صلى الله عليه وسلم كذا، وأمر بكذا، أو قال كذا، أو فعل كذا، فعند شكهم في صحة الخبر يعدلون عن الجزم إلى عبارة تفيد توقفهم في صحته، كقولهم : يُذكر عنه كذا، أو يروى ، أو روي أو حكي ، أو نحو ذلك.
فجزمهم بنسبة الأول صريح في قطعهم بصحته، وعلمهم بما تضمنه .
وعدولهم في الثاني عن صيغة الجزم إلى صيغة التمريض كما مثل دليل أنه إنما يفيد الظن عندهم أو الوهم، وهذا عمل مستمر بين المحدثين وعلماء السنة من غير نكير ، و ليس مرادهم الحكم بصحة السند فقط ، كما توهمه بعض أهل الظن ، فقد اشتهر عنهم التفريق في التصحيح بين صحة السند وصحة المتن، حيث يقولون للأول : إسناده صحيح ، أو صحيح الإسناد، وللثاني حديث صحيح ونحوه .
(15) إجماع سلف الأمة وأئمتها من الصحابة ومن بعدهم من علماء الأمة في كل زمان ومكان على تلقي هذه الأخبار بالقبول ، والعمل بها، وترك الآراء والمذاهب لأجلها ، ومن رد منها شيئا اشتغل بتأويله وصرفه عن ظاهره لئلا يرد عليه مما يدل على تصديقه لها.
وإن وجد بين الأمة من أعلن رد شيء منها بدون تأويل لم يكن معتبرا ، ولا خارقا للإجماع لشذوذه.
فقبول علماء الأمة ومجتهديها لهذه الأخبار بدون توقف ولا معارضة لها بأصول أو مذاهب يحقق أن قد اطمأنوا إلى صحتها، وتيقنوا ثبوتها، وذلك كحديث: لا وصية لوارث . وحديث أخذ الجزية من المجوس وأحاديث إثبات الشفعة، وزكاة الفطر، وتحريم بيع الولاء وهبته وأن الولاء لمن أعتق وأمثالها كثير، مما لم يتوقف أحد من علماء الأمة المعتبرين في العمل به أو تصديقه.
بل إن جمهور أحاديث الصحيحين قد تقبلتها الأمة وعملت بموجبها، وذلك تصديق لها يقينا ، كما احتج بذلك بعض أجلاء العلماء على ما اختاروه من إفادتها العلم اليقيني ، كابن الصلاح وأبي طاهر النسفي وغيرهما كما سبق. وليس المراد إجماع أفراد من ينتسب إلى الأمة من كل الفرق وفي جميع الأزمنة، فإن أهل البدع المخالفين لبعضها في الاعتقاد لا يحصل لهم العلم بما تواتر منها فضلا عن الآحاد، فقد رد الروافض أحاديث فضائل الصحابة رضي الله عنهم مع تنوعها ؛ وكذا أحاديث المسح على الخفين ، وهي من التواتر المعنوي ؛ ورد المعتزلة أحاديث الشفاعة ونحوها .
 فخلاف مثل هؤلاء لا يعتبر، حيث إنهم لا يقبلون إلا ما وافق أهواءهم؛ فقد قبلوا أحاديث كثيرة مما في الصحيحين أو غيرهما دون هذه في الصحة، واعتبروها أدلة يقينية مع أنها آحاد .
     ثم إن الاعتبار في الإجماع على كل فن بأهله المشتغلين به ، فلا تضر مخالفة من أعرض عنه واشتغل بغيره ، كما لا تضر مخالفة أهل الطب والعربية وأهل الكلام في هذا الباب، لعدم أهليتهم لمعرفة طرقه ومتونه ونقلته ونحو ذلك.
      ثم إنه لا يُراد أيضا بالإجماع اتفاق كل فرد من الأمة على العمل بكل حديث من أحاديث الصحيحين، فقد استثنى ابن حجر وغيره ما تعقبهما عليه أحد الحفاظ ، أو وقع التجاذب بين مدلوليه .
     ولقد أتى على هذين الصحيحين أكثر من أحد عشر قرنا انتشر فيها ذكرهما في أقطار البلاد ، وبين طبقات المسلمين ، في شرق البلاد وغربها، وما زال علماء المسلمين ينقلون منهما، ويستدلون بأحاديثهما ، ويرجعون إليهما عند التنازع .
     وقَلًَّ أن يوجد مؤلف في العبادات أو الاعتقادات لعالم معتبر إلا وفيه ذكر الصحيحين أو مؤلفيهما ، أو النقل منهما أو من أحدهما .
     ولم يذكر عن أحد من العلماء المعتبرين طوال هذه القرون الطعن على الشيخين بعدم الحفظ، أو أن ما في الكتابين غير ثابت أو نحو ذلك.
     ولقد نشرت مجلة العربي الصادرة في الكويت في عدد فبراير 1966م مقالا للأستاذ عبد الوارث كبير يفيد الطعن على أحاديث في البخاري ؛ فأثار هذا المقال حفائظ العلماء الغيورين على الدين ، وأظهروا الاستياء والتسخط ، وأعلنوا ذلك بمقالاتهم التي نشروها في أغلب المجلات والصحف، في أكثر البلاد الإسلامية ؛ ثم بتأمل ذلك المقال الشنيع يتضح اتصاف قائله بالجهل المركب ، سيما في علم الحديث رواية ودراية.
     فتعظيم الأمة لهذين الكتابين، والرجوع إلى أحاديثهما عند الاختلاف، والتشنيع على من ترك شيئا مما فيهما ولو بتأويل، والنقل المستمر منهما عند أفراد العلماء، هذا وغيره مما حمل ابن الصلاح وغيره على الجزم بصحة ما فيهما سوى ما استثنى .
وبهذا ونحوه تعلم ضعف ما تعقب به الأمير الصنعاني الإجماع على تلقي الصحيحين بالقبول، حيث أطال في توضيح الأفكار بأن دعوى الإجماع لا دليل عليها ، وأن الإجماع متعذر، لقول الإمام أحمد من ادَّعى الإجماع فقد كذب . وبأن الإجماع لا يتم إلا بعد عصرهما بزمان طويل، حتى ينتشرا في أقاصي بلاد الإسلام؛ وبأنه يغلب على الظن أن من المجتهدين من لا يعرفهما؛ وأن معرفتهما ليست شرطا في صحة الاجتهاد ، وأن الأمة إنما عصمت عن الضلالة لا عن الخطأ، فلا يلزم محذور من عمل الأمة بما ليس بصحيح خطأ ، وأنه لا يلزم صحة ما فيهما بمجرد عمل الأمة به، فإن الحسن يعمل به ... إلخ.
فيقال أما بينة دعوى الإجماع فتظهر بما ذكرناه من تعظيم الأمة لهذين الكتابين ، وانتشارهما في بلاد الإسلام ، ومن لم يعرفهما ولا شيئا من أحاديثهما لم يكن قد عرف السنة، ولن يفهم القرآن وتعاليمه ، فلا يسمى مجتهدا .
فأما تكذيب أحمد لمدعي الإجماع فقيل من باب الورع، وقيل: إنه في حق من ليس له معرفة بالخلاف، كما صح عنه حكاية الإجماع في مواضع، فأما قبول الصحيحين في الجملة عند مجتهدي الأمة فهو مما لا يمكن جحوده، فلا يتصور أن فيه خلاف، ولو حدث خلاف له وجه من النظر لاعتبر ذكره واشتغل بجوابه . مع أن الصنعاني لم يصرح بمن هو مخالف في ذلك ، وكأنه قصد خلاف الزيدية ، وردهم لبعض الأحاديث المخالفة لمذهبهم كغيرهم، وعلى كل حال فقد جزم بالإجماع هنا جهابذة العلماء قبله وبعده.
     وقد حصل الإجماع قبل ذلك من الصحابة والتابعين وسلف الأمة على قبول مثل هذه الآحاد ، والعمل بها وترك الاجتهاد لأجلها ؛ مما يؤكد يقينهم بصحتها ، وصدروها عمن نسبت إليه .
     ولا تعتبر مخالفة من تأخر عنهم أو من ليس من أهل صناعتهم ، ذلك أن الاعتبار في كل علم بأهله، لا بمن أعرض عنه إلى سواه.
     فلا تعتبر مخالفة الخوارج، والمعتزلة، والشيعة ونحوهم، كما لا تعتبر مخالفة الأطباء والنحاة، والمتكلمين ونحوهم، ممن ليس لهم اشتغال بطرق الحديث ورجاله، وتتبع رواياته ومتابعاته، ونحو ذلك مما هو عمل أهل الحديث .
      وإن تحقق هذا الإجماع من مجتهدي الأمة وأتباعهم فإن الأمة معصومة أن تجتمع على خطأ أو ضلالة فإذا حصل الإجماع على اعتبار قياس أو ترجيح أحد الاحتمالين في النص، أو العمل بالحديث الحسن، دل ذلك على صحة ما أجمعوا عليه .
     وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتبر توافقهم حتى في الرؤيا كما قال: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر يعني ليلة القدر.
 وإذا قدر جواز الخطأ على الواحد من أفراد الأمة فوقوعه من الجميع ممتنع، كما أن الواحد من نقلة المتواتر يجوز عليه الخطأ ، ولا يجوز على المجموع .
فخبر الواحد إن قيل : إنه بمجرده ظني، فإن تقبل الأمة له وعملها بموجبه يوجب أن يكون قطعيا ، فإن عمل الأمة بما هو كذب في الباطن لا يجوز، لأنه خلاف ما ضمن الله لها من العصمة .
 فإذا روي في السنة خبر ليس بصحيح ، فلا بد أن يوجد في الأمة من ينكره، ويبين بطلانه، ممن تقوم ببيانه الحجة . .
      وقد حصل الإجماع على العمل بأغلب أحاديث الصحيحين وغيرهما ، فدل على أنه صدق وحق في نفس الأمر ، وإلا كان الإجماع منعقدا على العمل بما هو كذب ، وهو مما يعلم بطلانه قطعا .
     وأيضا فإنه لا يجوز في الشريعة التباس الحق بالباطل دون دليل يتميز به كل من الآخر، فقد جعل الله على الحق من النور والضياء ما يعرفه به أهل المعرفة بالله وبدينه وبشرعه.
      أما أهل التقليد الأعمى، والإعراض عن شعائر الدين ، فلا يستبعد أن يخفى عليهم الحق الواضح ، لفقدهم البصر النافذ في دين الله ، كما يشتبه الليل والنهار على من فقد عينيه اللتين يبصر بهما المحسوسات .
     فهؤلاء لما أظلمت قلوبهم ، لخلوها من نور الله المستمد من شريعته ، وإقبالها على زبالة الأذهان ، ونحاتة الأفكار، لا جرم كذبوا بأحاديث نقلها خيار الأمة وأصدقها لهجة وصدقوا أقوالا وترهات توافق عقولهم ، مع أنه لا حقيقة لها .
(16) الدليل السمعي المتفق عليه، وهو ما في القرآن من ذم أهل التخرص والظن، والنهي عن القول على الله بلا علم، كقوله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ  وقوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وقوله تعالى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ وقوله: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وقوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى وقوله : وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا وقوله : وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وقوله: حكاية عن الذين كفروا، على وجه الذم لهم: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وأمثال هذه الآيات كثير.
     لقد تضمنت هذه الآيات النهي عن القول على الله في دينه بلا علم، وعن اتباع الإنسان ما ليس له به علم ، والنهي عن التعبد بموجب الظن وما تهواه النفس ، وأخبر أن هذا الظن ليس من الحق في شيء .
     وما زال المسلمون في كل زمان ومكان يفتون بموجب هذه النصوص وإن كانت آحادا ، ويحلون بها أشياء ويحرمون أشياء، ويعاقبون على تركها ، ولو كانت إنما تفيد الظن عندهم لدخلوا تحت قوله تعالى : وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ .
      فالقائلون بأنها ظنية ويجب العمل بها ، يلزمهم القول بأن الله أمر بما نهى عنه، وما ذمه في هذه الآيات، حيث أوجب أن نحكم في دينه وشرعه بأدلة متوهمة، وقد نهانا عن التخرص في الدين، وأخبر أنه خلاف الهدى الذي جاءهم من ربهم ، وإذا فلا فرق بين أهل الظن وبين أولئك المشركين الذين قال الله فيهم : إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ .
     وقد نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقفو ما ليس له به علم، بل جعل القول عليه بلا علم في منزلة فوق الشرك، كما في آية المحرمات في سورة الأعراف ، حيث ترقى من الأسهل إلى الأشد، فبدأ بالفواحش، ثم بالإثم وهو أشد، ثم بالبغي وهو أعظم من الإثم، وبعده الشرك أشد منه، ثم القول على الله بلا علم، فأي ذم أبلغ من هذا.
وقد تكلف بعض المتكلمين الجواب عن هذا الدليل فذكر الآمدي وجهين في ذلك وهما :
1- أن العمل بالآحاد عمدته الإجماع على وجوب العمل بها، لا خبر الواحد، وهذا الإجماع قطعي الدلالة لا ظني.
2- حمل هذه الآيات على ذم الظن والتخرص في أمور الاعتقاد، وما لا بد فيه من اليقين، والجواب عن الأول : أنه وافق على وقوع الإجماع ، وقد بينا أن الإجماع دليل القطع بالنص المجمع على العمل به.
     والجواب عن الثاني أنا نمنع التفريق بين الأصول والفروع، وسيأتي إن شاء الله أن الأصول مما تثبت بالآحاد، فالنهي عن الظن على عمومه في الجميع ، ويراد به ما لم يكن مبنيا على دلائل وأمارات توجيه، بل هو مجرد وهم وتخمين.
(17) ما اشتهر عن الصحابة رضي الله عنهم من قبولهم للآحاد وتصديقهم بها، كما اشتهر عن أهل قباء من تحولهم إلى جهة الكعبة وهم في الصلاة، اعتمادا على خبر واحد، وهو من أوضح البراهين على حصول العلم لهم بصدقه، وإلا لما انصرفوا عن قبلة قد تحققوها اعتمادا على خبر لا يوجب إلا الظن.
     وكذا ما اشتهر عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه من بنائه على خبر الذي أفادهم بتحريم الخمر، حيث أتلفها، وكسر جرارها، وفي ذلك إضاعة لمال محترم، ولو لم يكن متحققا صدق ذلك الخبر لما أقدم على الإتلاف ، وأمثلة ذلك كثيرة يأتي بعضها إن شاء الله في أدلة العمل بالآحاد.
(18) ما اشتهر عن الصحابة والسلف من الشهادة  على الله وعلى رسوله بموجب هذه الأخبار، ولا شك أنهم لا يشهدون بما لا يعتقدون صحته.
      وقد قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا فوصفهم بأنهم وسط أي عدول خيار، وبأنهم يشهدون على الناس، أي بأن الله أمرهم بكذا، وفرض كذا، وبلغهم دينه وأزال عذرهم.
     ثم هم ينقلون آثار نبيهم التي أمرهم بإثباتها، ويشهدون بكونها من دينه، وقد قرؤوا قوله تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ( ترى الشمس ) ؟ قال: نعم، قال: (على مثلها فاشهد أو دع ) صححه الحاكم .
     فشهادتهم بهذه الأخبار عن نبيهم توجب صدقهم اليقين بما قالوه لما عرف من عدالتهم ، وتورعهم عما فيه شك أو تردد .
(19) قوله تعالى : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وقوله تعالى : فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ولولا أن جواب أهل الذكر، وإنذار الطائفة قومها يفيد العلم لما أمر به فإن أهل الذكر يعم ما لو كان واحدا ، والطائفة تعم الواحد، والإنذار هو الإعلام بما يفيد العلم ليحصل الحذر.
     وسيأتي إن شاء الله بسط دلالة الآيتين، والجواب عما يرد عليهما ، في أدلة العمل .
(20) ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من بعثه الآحاد إلى أطرف البلاد، ليبلغوا عنه ما أمره الله بتبليغه من الدين ، وليعلموهم شرائع الله .
     ولولا أن أخبارهم تفيد العلم لم يحصل البلاغ ، ولحصل التوقف من المدعوين ، ولم ينقل أن أحدا منهم قال لمن علمه شيئا من الدين ، أو طلب منه جزية ، أو زكاة أو نحوها : إن خبرك لا يفيد العلم ، فأنا أتوقف حتى يتواتر الخبر بما ذكرت .
     وقد اكتفى - صلى الله عليه وسلم - بتبليغهم عنه، وتعليمهم ما أمر الله به .
     وقد حصل بذلك تبليغ الرسالة الذي كلفه الله بها بقوله: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ونحوها منه ومن رسله وأتباعه بعده، وبذلك قامت حجة الله على الخلق، ومحال أن يحصل البلاغ بما فيه شك أو توهم .
(21) أن الله أمر برد ما يحصل فيه النزاع إليه وإلى رسوله في قوله تعالى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
     والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد موته، ولو كانت سنته إنما تفيد الظن لم ينفصل النزاع بالرد إليها.
     ومن المعلوم أن أكثر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم إنما رويت آحادية، ولم يزل سلف الأمة ومن تبعهم يتحاكمون إليها امتثالا لهذا الأمر، ويجعلونها فاصلة للنزاع بينهم، ويرضون بها حكما ، ويشتد إنكارهم على من امتنع عن قبولها ، ويخوفونه بالفتنة والعذاب الأليم الذي توعد الله به من خالف أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولو كان أمره الوارد في هذه الأخبار لا يفيد يقينا لكان المخالف له معذورا عندهم، وهو خلاف الإجماع كما تقدم.
(22) ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من أمره صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه، وذمه لمن رد ما سمعه عنه ، حيث قال : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري يقول : لا ندري ما هذا ؟ بيننا وبينكم كتاب الله، ألا وأني أوتيت الكتاب ومثله معه وقال في الحديث الصحيح عنه: نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع فانظر كيف أمر كل فرد سمع علما عنه بالتبليغ، ولولا أنه يفيد العلم لم يأمر بقبوله، ولما توعد على رده، حيث إن في إمكان السامع أن يقول : خبرك مشكوك فيه، فلا يلزمني قبوله .
      فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر من التبليغ إلا بما تقوم به الحجة على السامع، ففي دعائه لمن حفظه عنه ثم بلغ ما حفظ ولو كان واحدا ، ولو غير فقيه، وفي تحذيره من رد خبره أوضح دليل على حصول العلم لمن وصل إليه هذا العلم عن هذا الثقة الحافظ .
      وهذه صفة صحابته رضي الله عنهم ، وهكذا فعلوا، وقد تقبل عنهم جمهور الأمة جميع ما نقلوه عن نبيهم موقنين بصحته.