أخبار الآحاد
الفصل الأول أدلة من قال إن خبر العدل يفيد العلم وبيان ما يرد عليها والجواب عنه
هذا القول هو مذهب جمهور السلف ، رأس> وأكثر المحدثين والفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو الصحيح عن الإمام أحمد اسم> رحمه الله فقد اشتهر عنه القطع بأَحاديث الرؤية والعلم بمدلولها، وذلك يحتمل أنها عنده من المتواتر المعنوي لكثرتها ، ويحتمل أنه يقطع بالآحاد.
والصحيح المشهور عنه القطع بثبوت الحديث متى توفرت فيه شروط الصحة؛ فقد حكى عنه غير واحد القطع المطرد في خبر الثقة بإفادة العلم.
ويتأيد ذلك بما اشتهر عنه من الشهادة للعشرة بالجنة مع أن الخبر فيهم آحاد، ولم يخرجه أهل الصحيحين، ولكنه مما تلقي بالقبول . والشهادة لا تكون إلا بعد العلم بالمشهود به.
وقال المروذي اسم> قلت لأبي عبد الله اسم> ها هنا إنسان يقول : إن الخبر يوجب عملا ولا يوجب علما ، فعابه وقال: لا أدري ما هذا ؟ فإنكاره لهذا القول صريح في أنه يُسوي بين العلم والعمل .
ونص في رواية أحمد بن الحسين الترمذي اسم> أنه يحتم على الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الرواية الثانية عنه بترك الجزم فغير صحيحة عنه، وإن اشتهرت عند الأصوليين؛ وعمدتها ما حكاه الأثرم اسم> عنه أنه قال: إذا جاء الحديث بإسناد صحيح فيه حكم أو فرض، عملت به ودنت الله به، ولا أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك.
وهذه الرواية انفرد بها الأثرم اسم> وليست في مسائله ، ولا في كتاب السنة، وإنما نقلها شيخ الإسلام ابن تيمية اسم> من خط القاضي اسم> على ظهر المجلد الثاني من العمدة، والقاضي اسم> ذكر أنه نقلها من كتاب معاني الحديث للأثرم اسم> بخط أبي حفص العكبري اسم> . ولم يذكر الأثرم اسم> أنه سمع ذلك من الإمام أحمد اسم> ولعله بلغه من واهم وهم عليه في لفظه وعلى تقدير ثبوتها فلعل توقفه عن الشهادة بها على سبيل التورع ، فقد كان رحمه الله يجزم بتحريم أشياء وبوجوب أشياء، ويتورع عن إطلاق لفظ التحريم أو الوجوب، بل يقول : أكره كذا، أو أستحب كذا.
فأما ما روي عنه أنه قال : ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ، ولا على أحد أنه في الجنة لصالح عمله، إلا أن يكون ذلك في حديث فنصدقه ونعلم أنه كما جاء ، ولا ننص الشهادة فقد فسر القاضي أبو يعلى اسم> قوله : ولا ننص الشهادة . بأن معناه : ولا نقطع على ذلك . ورد عليه شيخ الإسلام وبين أن مراده : لا نشهد على معين . وأبطل تفسير القاضي اسم> بقوله في شأن الحديث: ونعلم أنه كما جاء، فإنه يقتضي صريحا إفادة العلم عنده .
فتحقق بذلك ضعف الرواية بعدم القطع، وترجحت الرواية الأولى والحمد لله، وقد عرفت بهذا مستند من أثبت عن أحمد اسم> فيه روايتين، ومن رجح عنه إفادة الظن، وهو ما فهموه من هذه الرواية الموهمة، فلا تنخدع بتتابع أهل الأصول على ترجيحهم عنه ما اختاروه، فعذرهم كما قدمنا عدم التمكن في علم الحديث ، وعدم الرجوع إلا إلى كتب أهل الكلام.
فأما ما نقل الآمدي اسم> عن أحمد اسم> من القول بإفادة الخبر العلم اليقيني من غير قرينة، واطراد ذلك في كل خبر . فإن هذا القول ليس على إطلاق، لما فيه من المجازفة، ولا يظن بعاقل أنه يصدق كل ما سمعه من خبر، مع ما عهد في الناس من كثرة الكذب ، واختلاق الأخبار التي لا حقيقة لها.
وقد اشتهر عن الإمام أحمد اسم> ما لا يحصى من كلامه في الجرح والتعديل، ورده لأخبار الضعفاء، فهو لا يقبل الخبر للعلم به والعمل بمقتضاه إلا بعد توفر شروط القبول فيه.
وقد نقل السخاوي اسم> في فتح المغيث له حكاية الجزم بكل خبر متلقى بالقبول، عن جمهور المحدِّثين وعامة السلف . وذكر الإسفراييني اسم> إجماع أهل الصنعة على القطع بصحة ما في الصحيحين وأن من حكم بخلاف ما فيهما بغير تأويل سائغ نقض حكمه .
ونقل السيوطي اسم> في التدريب عن الحافظ السجزي اسم> إجماع الفقهاء أن من حلف على صحة ما في البخاري اسم> لم يحنث. ونقل عن إمام الحرمين اسم> أنه قال : لو حلف بطلاق زوجته أن ما في الصحيحين من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته بالطلاق .
وقال أبو عمرو ابن الصلاح اسم> بعد ذكر الحديث الصحيح المتلقى بالقبول : وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافا لقول من نفى ذلك ؛ محتجا بأنه لا يفيد إلا الظن .. قال : وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويا ، ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه هو الصحيح، لأنه ظن من هو معصوم عن الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد حجة مقطوعا بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك، وهذه نكتة نفيسة نافعة، ومن فوائدها القول بأن ما انفرد به البخاري اسم> أو مسلم اسم> مندرج في قبيل ما يقطع بصحته، لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول .. سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني اسم> وغيره. انتهى .
فقد اختار هذا الإمام القطع بثبوت ما في الصحيحين ، لما اتضح له الدليل ، ولم يبال بكثرة المخالفين، وكأنه لم يطلع على أقوال السلف والأئمة، وموافقتهم لما رجحه ليتقوى بهم ، وقد تعقبه بعض المشايخ من أهل العلم والصلاح ، كالنووي اسم> وغيره ، وظنوا أنه قد انفرد بهذا القول عن الجمهور والمحققين ؛ وهم معذورون في ذلك على اجتهادهم ، حيث إنه ليس لهم بهذا الباب خبرة تامة ، وإنما يرجعون فيه إلى ما يجدونه في كتب أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة كابن الحاجب اسم> والرازي اسم> والغزالي اسم> والباقلاني اسم> والجبائي اسم> وأبي الحسين البصري اسم> ونحوهم.
وقد رد البلقيني اسم> على النووي اسم> وذكر أن اختيار ابن الصلاح اسم> هو المحكي عن فضلاء أهل المذاهب وأهل الحديث ، وعامة السلف . وتعقبه أيضا ابن حجر اسم> بأن كثيرا من المحققين وافقوا ابن الصلاح اسم> وقد اختار ذلك أيضا ابن كثير اسم> والسيوطي اسم> .
وذكر في شرح الكوكب أن أكثر الأصحاب قالوا: إنه يفيد العلم إذا احتف بالقرائن التي تسكن إليها النفس؛ وأن المسلسل بالأئمة الحفاظ يفيد العلم، وهو المذهب، وظاهر كلام الأصحاب، وجزم به ابن أبي موسى اسم> في الإرشاد .
قال القاضي اسم> في مقدمة المجرد : خبر الواحد يوجب العلم إذا صح سنده، ولم تختلف فيه الرواية، وتلقته الأمة بالقبول ، وأصحابنا يطلقون القول فيه، وأنه يوجب العلم وإن لم تتلقه بالقبول ، قال : والمذهب على ما حكيت لا غير اهـ .
وقال الشيخ تقي الدين اسم> أكثر أهل الأصول وعامة الفقهاء من الحنابلة والشافعية والحنفية والمالكية قالوا: يفيد العلم، ويقطع بصحته إذا تلقته الأمة بالقبول، أو عملت به، إلا فرقة تبعت أهل الكلام، وذكر أن بعض المحدثين قال : إن فيه ما يوجب العلم اليقيني ، كرواية مالك اسم> عن نافع اسم> عن ابن عمر اسم> .
وقد نص مالك اسم> على إفادته العلم، وقطع به ابن خويز منداد اسم> وحكاه عن مالك اسم> وهو قول عامة الفقهاء من المالكية ذكره عبد الوهاب اسم> .
وعليه الشافعية بلا نزاع ، فقد صَّرح به الشافعي اسم> في الرسالة ، وفي اختلاف مالك اسم> .
وعليه أيضا أصحاب أبي حنيفة اسم> وداود اسم> وأصحابه، كما نصره ابن حزم اسم> في الأحكام ونص عليه الحسين الكرابيسي اسم> وأبو إسحاق الشيرازي اسم> في كتبه الأصول ، سواء عمل به الكل أو البعض، وقد صَّرح الحنفية بأن المستفيض يوجب العلم كحديث : رسم> لا وصية لوارث متن_ح> رسم> وحديث أخذ الجزية من المجوس، وحديث ميراث الجدة السدس، ونحوها مما عمل به السلف والخلف، وكلها آحاد , فقد رأيت إجماع السلف على القطع بصحتها ، ورأيت كيف تناقل هذا القول أصحاب الأئمة الأربعة، وجزموا به في مؤلفاتهم، وكذا من اختاره من المتكلمين، كأبي إسحاق الإسفراييني اسم> وابن فورك اسم> وغيرهما.
مسألة>