محاضرات في شرح نواقض الإسلام وكتاب الجنائز من صحيح البخاري
أنواع الشرك
ذكر العلماء: أن الشرك نوعان: شرك أصغر، وشرك أكبر، وأن هذه الآية يراد بها الشرك الأكبر؛ فإنه الذي لا يغفره الله. بل أن أصحابه مخلدون في النار، إذا مات المشرك الذي شركه أكبر فإنه يكون مخلدا في النار، ودليل ذلك قول الله تعالى حكاية عن عيسى اسم> رسم> وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ قرآن> رسم> هكذا أخبر الله أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار، فالمراد: الشرك الأكبر الذي هو تنقص للخالق ورفع للمخلوق، وصرف حق الله تعالى لغيره، فكان بهذه العقوبة أن أصحابه إذا ماتوا عليه لا يخرجون من النار، ويكون هذا هو معنى قوله تعالى: رسم> رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ قرآن> رسم> هؤلاء الذين أخزاهم الله هم المشركون.
وكذلك يقول الله تعالى: رسم> كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا قرآن> رسم> ويقول الله تعالى: رسم> يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا قرآن> رسم> هؤلاء هم الكفار والمشركون الذين شركهم أكبر، فلا يخرجون من النار - والعياذ بالله - بل يكونون مخلدين فيها، خالدين مخلدين فيها أبدا.
وتكون الآيات التي وردت في التخليد يراد بها المشركون الذين ماتوا على هذا الشرك، كما في قول الله تعالى: رسم> إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا قرآن> رسم> الكافرون هم المشركون، وهم الظالمون، قال الله تعالى: رسم> وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ قرآن> رسم> ولا شك أن أظلم الظلم هو الشرك؛ ولذلك قال الله تعالى عن عبده الذي هو لقمان اسم> أنه قال لولده: رسم> يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ قرآن> رسم> .
رسم> ولما نزل قول الله تعالى رسم> الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ قرآن> رسم> قال الصحابة: يا رسول الله، وأينا لم يظلم نفسه، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما ذلكم الشرك، لم يلبسوا إيمانهم بشرك، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: رسم> يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ قرآن> رسم> متن_ح> رسم> أي: أن الشرك هو أظلم الظلم؛ وذلك لأنه وضع للعبادة في غير موضعها، وإذا عرف عظم هذا الذنب فإن أصحابه هم الذين يخلدون في النار، فيكون المسلم حذرا من هذا الشرك أن يقع فيه.
ومنه عبادة المخلوق، وصرف شيء من حق الله تعالى له، فهذا هو الذي لا يغفر، يقول فيه ابن القيم اسم> في النونية:
والشـرك فاحــذره فشـرك ظاهــر | ذا القسـم ليـس بقابــل الغفران |
وهـو اتخـاذ النــد للرحمـن أَيْـ | ـا كـان مـن حجـر ومـن إنســان |
يدعـوه أو يرجــوه ثــم يخافـه | ويحبــه كـمحبـــة الـديــان |
وهو أن تقول: والله، وحياتك يا فلانة، وحياتي، وقول الرجل لأخيه: ما شاء الله وشئت، وقوله: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقوله: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلانا هذا كله فيه شرك، يبين رضي الله عنه: أن من أمثلة الشرك ما يقع خفيا ولا يتفطنون له، وأن من قال ذلك فقد وقع في هذا الشرك الذي هو تنديد، أي: جعل الأنداد لله تعالى.
فمنه: الحلف بغير الله ، فإذا قال: وحياتك يا فلان، وحياتك يا فلانة، وحياتي، وشرفي، ونسبي، وبدني، وقلبي، أو حلف بأبيه فإن ذلك شرك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: رسم> لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت متن_ح> رسم> وقال: رسم> من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك متن_ح> رسم> وما ذاك إلا أن الحلف بالمخلوق تعظيم له، والتعظيم لا يصلح إلا للخالق.
وكذلك إذا جعل للمخلوق فعلا مستقلا أو مساويا لفعل الخالق، فإذا قال: ما شاء الله وشئت. فقد جعل مشيئة المخلوق مساوية لمشيئة الخالق؛ فكان بذلك مشركا، ولذلك روي: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: رسم> أجعلتني لله ندا قل: ما شاء الله وحده متن_ح> رسم> وكان بعضهم يقولون: ما شاء الله وشاء محمد اسم> فقال: رسم> قولوا: ما شاء الله، ثم شاء محمد اسم> متن_ح> رسم> ؛ وذلك لأن العطف بالواو يقتضي المساواة بين المشيئتين إذا قال: ما شاء الله وشاء فلان، فإذا قال: ما شاء الله ثم شئت فإنه جعل مشيئة المخلوق مترتبة على مشيئة الله، ومتعقبة لها، لقول الله تعالى: رسم> وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ قرآن> رسم> .
كذلك إذا قال: لولا فلان لم يكن كذا ، جعله مستقلا بإيجاب هذا الأمر، وهذا أيضا رفع للمخلوق، إذا قال: لولا هذه العمد لسقط هذا السقف فلا يجوز. بل يقول: لولا الله، أو قال: لولا فلان لهلكنا، يعني: هو الذي أنقذنا، هذا فيه أنه مستقل، والله تعالى هو المسبب، فإذا كان له سبب فليجعل سببه متعقبا لله تعالى ولأسباب الله، فيقول: لولا الله ثم فلان، وكذلك قولهم: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، يعني: جعل الكلب هو الذي يحميهم، الحماية من الله تعالى، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، البط الذي إذا رأى السارق يصوت، البط مخلوق لا يملك شيئا، وهكذا بقية الأمثلة.
ومن الشرك: التعاليق، تعاليق التمائم، وتعاليق الحروز وما أشبهها، ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: رسم> من تعلق تميمة فقد أشرك متن_ح> رسم> من تعلقها، يعني: علق قلبه بها، وقال: رسم> إن الرقى والتمائم والتولة شرك متن_ح> رسم> جعلها من الشرك، وإن كان فيها تفصيل، فإذا فعل شيئا منها معتمدا عليه فقد وقع في شيء من الشرك، ولو كان من الأصغر.
وكذلك من الشرك: التطير الذي هو التشاؤم بالمرئيات وبالأصوات، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: رسم> الطيرة شرك الطيرة شرك متن_ح> رسم> يعني: التشاؤم بالمرئيات والمسموعات؛ وذلك لأنه يعظم تلك المخلوقات، ويعتمد عليها في أفعاله فيكون بذلك قد عظم غير الله تعالى.
وهكذا أيضا يقال في بقية أنواع الشرك، وقد فصلها المؤلف محمد بن عبد الوهاب اسم> رحمه الله في كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ، ذكر الأمثلة عليها كثيرة، وكل شيء ينقص التوحيد، كقوله: باب من الشرك الذبح لغير الله، باب من الشرك الاستعاذة بغير الله، باب من الشرك أن يستغيث بغير الله، أو يدعو غيره، إلى آخر ما ذكره، أي: أن هذه من أمثلة الشرك، وأن من فعل منها شيئا أشرك: إما شركا أكبر يوجب الخلود في النار، وإما أصغر لا يغفر إلا بالتوبة، أو بالعذاب العاجل، أو الآجل.
كذلك ذكر من الشرك: الذبح لغير الله، وأمثلته كثيرة، ما ذُكر لنا: أن بعض الناس إذا أراد أن يبني دارا -أن يؤسسها- ذبح عند حفر الأساس، وعند القواعد، عند حفر القواعد مدعيا: أن هذه الذبيحة تحميه من الجن، وهذا ذبح لغير الله، وفي الحديث: رسم> لعن الله من ذبح لغير الله متن_ح> رسم> .
وكذلك بعضهم إذا اشترى سيارة ذبح عند عجلاتها، يدعي: أن هذه حماية لها عن العين، وحراسة لها عن أن يكون فيها ضرر عليه، وهذا أيضا ذبح لغير الله.
وكذلك بعضهم إذا سكن الدار ذبح عند عتبتها، وهذا أيضا ذبح لغير الله، وكذلك إذا حفروا بئرا، وأرادوا ألا يغور ماؤها ذبحوا عندها، ورأينا أثر الذبائح في بعض العيون التي في الإحساء اسم> أنهم إذا كان في ليلة الجمعة ذبحوا عندها، في نظرهم: أن ذلك حماية لها عن أن تغور، ولكن الذين يذبحون تلك الذبائح، كما ذكر هم من الرافضة ولا يستبعد وقوع الرافضة في مثل هذه الشركيات.
لا شك أيضا أن من أعظم الشرك دعاء المخلوق مع الله تعالى، وأمثلته كثيرة:
سمعنا كثيرا يدعون -وهم في الطواف يدعون- غير الله، فيدعون: عبد القادر اسم> والرفاعي اسم> والتيجاني اسم> والبدوي اسم> وابن علوان اسم> وأشباههم، يطوف أحدهم وهو يردد هذه الأسماء، أو يردد واحدا منها، وكذلك أيضا في الموقف في عرفات اسم> دائما وهم يقولون: يا علي اسم> يا حسين اسم> يا زين العابدين اسم> يا فلان، وهكذا أيضا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، يا نبي الله، كل ذلك لا شك أنه دعاء لغير الله، قال الله تعالى: رسم> فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ قرآن> رسم> رسم> وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ قرآن> رسم> .
ولما كان كذلك كانت دعوة الرسل إلى التوحيد وإلى ترك الشرك هي مبدأ دعوتهم، كل رسول يقول لقومه: رسم> اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قرآن> رسم> أي: لا تتخذوا إلها غيره فتكونون مشركين.
وأول ما دعا إليه نبينا صلى الله عليه وسلم إلى ترك الشرك، بقي عشر سنين وهو يدعو إلى قول: لا إله إلا الله؛ وذلك لأن المشركين يسمون معبوداتهم آلهة، والإله: هو الذي تألهه القلوب، أي: تحبه وتعظمه؛ فلذلك أخذ يقول لهم: قولوا: لا إله إلا الله، ولكنهم يعرفون أن هذه الكلمة تقصر عبادتهم على إله واحد؛ فلذلك تمسكوا بآلهتهم، وقالوا: رسم> أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا قرآن> رسم> يعني: لنا آلهة كثيرة فكيف نجعلها لإله واحد؟! وقالوا: رسم> أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ قرآن> رسم> قال الله تعالى: رسم> إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ قرآن> رسم> أي: لا نترك آلهتنا.
فعرفت بذلك أن هذا أول دعوة الرسل، كل رسول يقول في مبدأ أمره: رسم> اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قرآن> رسم> أي: لا تتخذوا معه إلها ولا آلهة، أي: هو إلهكم وحده، هو الإله الذي لا تصلح الألوهية إلا له بجميع أنواعها، فالدعاء تأله لله فلا يصرف لغيره، وكذلك الخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، وما أشبهها من العبادات، من صرف شيئا منها لغير الله فقد اتخذ ذلك الغير إلها.
مسألة>